الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: حمل المطلق على المقيد
أولاً: معنى حمل المطلق على المقيد
المقصود بمسألة «حمل المطلق على المقيد» أن يأتي المطلق في كلام مستقل، ويأتي المقيد في كلام مستقل آخر.
ومعنى حمل المطلق على المقيد - إذا تعين - أن يكون المقيد حاكمًا على المطلق، بيانًا له، مقيدًا لإطلاقه، مقللاً من شيوعه وانتشاره؛ فلا يبقى حينئذٍ للمطلق تناول لغير المقيد.
فيراد بالمطلق الذي ورد في نص المقيد الذي ورد في نص آخر (1) .
أما إن اجتمع المطلق والمقيد في كلام واحد، بعضه متصل ببعض، فلا خلاف أن المطلق يحمل على المقيد (2) ، وليس هذا من قبيل هذه المسألة.
ثانيًا: الأصل في المطلق والمقيد.
يجب حمل النص المطلق على إطلاقه والعمل به من هذا الوجه، هذا هو الأصل.
وكذلك النص المقيد يجب حمله على تقييده والعمل به من هذا الوجه، هذا هو الأصل.
ولا تجوز مخالفة هذا الأصل أو ذاك إلا بدليل يوجب تقييد المطلق أو إطلاق المقيد (3) .
ثالثًا: شرط حمل المطلق على المقيد.
يشترط في حمل المطلق على المقيد أن يقوم الدليل الصحيح على تقييد
(1) انظر: "النقص من النص" للدكتور عمر بن عبد العزيز ضمن مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، عدد (77، 78)(ص56) .
(2)
سبق التنبيه على ذلك انظر (ص376، 377) من هذا الكتاب.
(3)
انظر: "الفقيه والمتفقه"(1/111) .
المطلق، ولا يجوز والحالة كذلك العمل بالمطلق دون حمله على المقيد، فالمقيد ههنا مقدم على المطلق وحاكم عليه لا فرق في ذلك بين الكتاب والسنة، والمتواتر والآحاد، والمتقدم والمتأخر (1) .
قال ابن النجار الفتوحي: «وهما [أي المطلق والمقيد] كعام وخاص فيما ذكر من تخصيص العموم من متفق عليه، ومختلف فيه، ومختار من الخلاف.
فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب وبالسنة، وتقييد السنة بالسنة وبالكتاب، وتقييد الكتاب والسنة بالقياس، ومفهوم الموافقة والمخالفة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره، ومذهب الصحابي، ونحو ذلك على الأصح في الجميع» (2) .
ذلك أن المقيد بيان للمطلق، والبيان لا يشترط فيه أن يكون في درجة المبين أو أقوى منه بل يكفي أن يكون البيان صحيحًا (3) .
رابعًا: موانع حمل المطلق على المقيد.
يمتنع حمل المطلق على المقيد في الآتي:
أ- إذا ورد قيدان متضادان، وليس هناك مرجح لأحدهما على الآخر (4) . وذلك مثل: تقييد صوم الظهار بالتتابع في قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4]، وتقييد صوم التمتع بالتفريق في قوله تعالى:{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]، مع إطلاق صوم قضاء رمضان في قوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184، 185] .
ب- إذا وجدت قرينة مانعة من الحمل كأن يستلزم حمل المطلق على المقيد تأخير البيان عن وقت الحاجة فلا حمل والحالة كذلك (5) ، وذلك مثل
(1) انظر: "مجموع الفتاوى"(34/43) .
(2)
"شرح الكوكب المنير"(3/395) . وانظر: "قواعد الأصول"(64) ، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد"(121) .
(3)
انظر: "مختصر ابن اللحام"(126) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/398) وانظر (ص390) من هذا الكتاب.
(4)
انظر: "بدائع الفوائد"(3/349) ، و"مذكرة الشنقيطي"(234) .
(5)
انظر: "بدائع الفوائد"(3/250) ، و"القواعد والفوائد الأصولية"(286) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/409) .
اشتراطه صلى الله عليه وسلم قطع أسفل الخفين للمحرم الذي لم يجد نعلين (1) ، فهذا مقيد، وكان ذلك في المدينة، والمطلق أنه لم يشترط صلى الله عليه وسلم القطع بل أطلق لبس الخفين، وكان هذا في عرفات (2) ، فلا يحمل هنا المطلق على المقيد.
قال ابن القيم: «لأن الحاضرين معه بعرفات من أهل اليمن ومكة والبوادي لم يشهدوا خطبته بالمدينة فلو كان القطع شرطًا لبينه لهم لعدم علمهم به، ولا يمكن اكتفاؤهم بما تقدم من خطبته بالمدينة.
ومن هنا قال أحمد ومن تابعه: إن القطع منسوخ بإطلاقه بعرفات للبس، ولم يأمر بقطعٍ في أعظم أوقات الحاجة» (3) .
خامسًا: أحوال المطلق والمقيد بالنسبة للحمل وعدمه:
إذا خلا المطلق والمقيد عن القرائن الموجبة للحمل أو عدمه فلا يخلو الحال من أربعة أقسام (4) :
(القسم الأول: أن يتفق الحكم والسبب، وذلك مثل: إطلاق الدم في
(1) ورد ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المحرم: «لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين» . رواه البخاري (3/401) برقم (1542) واللفظ له، ومسلم (8/72) .
(2)
ورد ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول: «السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفين لمن لم يجد النعلين» . رواه البخاري (10/272) برقم (5804) ، ومسلم (8/74، 75) واللفظ له.
(3)
"بدائع الفوائد"(3/250)، وللإمام أحمد رواية أخرى: أنه يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، وهذا مذهب الجمهور.
قال ابن قدامة: «والأولى قطعهما، عملاً بالحديث الصحيح، وخروجًا من الخلاف، وأخذًا بالاحتياط» . "المغني"(5/122) .
(4)
انظر: "روضة الناظر"(2/192) وما بعدها، و"مجموع الفتاوى"(15/443) ، و"قواعد الأصول"(63، 64) ، و"مختصر ابن اللحام"(125) ، و"القواعد والفوائد الأصولية"(280) وما بعدها، و"شرح الكوكب المنير"(/395) وما بعدها، و"أضواء البيان"(6/545) وما بعدها، و"دفع إيهام الاضطراب"(84 - 87) ، و"مذكرة الشنقيطي"(232، 233) .
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173، النحل: 115] مع تقييد الدم بكونه مسفوحًا في قوله تعالى: {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] . فالحكم: تحريم الدم، والسبب: ما في الدم من المضرة والإيذاء.
فالجمهور يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذا القسم.
(القسم الثاني: أن يتفق الحكم ويختلف السبب، وذلك مثل إطلاق الرقبة في كفارة الظهار في قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] مع تقييد الرقبة بكونها مؤمنة في آية قتل الخطأ في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] .
فالحكم: العتق، والسبب في الرقبة المطلقة: الظهار، وفي الرقبة المقيدة بالإيمان: قتل الخطأ، وهذا المطلق يحمل على المقيد عند أكثر العلماء.
(القسم الثالث: عكس الثاني، وهو أن يتفق السبب ويختلف الحكم، وذلك مثل إطلاق الإطعام في كفارة الظهار في قوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، مع تقييد الصيام بكونه من قبل أن يتماسا في قوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] ، فالسبب واحد وهو الظهار، والحكم في الأول: الإطعام، وفي الثاني: الصيام، فأكثر العلماء لا يحملون المطلق على المقيد في هذه الحالة.
(القسم الرابع: أن يختلف الحكم والسبب، وهذا متفق على عدم الحمل فيه، ومثال ذلك: تقييد الصيام بالتتابع في كفارة اليمين (1) في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، مع إطلاق الإطعام في كفارة الظهار في قوله تعالى:{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] .
هذه الأقسام الأربعة فيما إذا كان المقيد واحدًا.
أما إن كان هناك مقيدان بقيدين مختلفين، فإن كان القيدان متضادين ولم
(1) ورد ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهما: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» . انظر «جامع البيان» للطبري (7/30) .