الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و
حاصل القول في الحكمة من النسخ:
* أن الناسخ خير من المنسوخ كما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] .
فالناسخ خير سواء كان هو الأخف أو الأثقل أو كان مساويًا للمنسوخ.
* وأن أوامر الله ونواهيه مشتملة على الحكم والمصالح، فإذا انتهت الحكمة والمصلحة من الخطاب الأول وصارت في غيره، أمر جل وعلا بترك الأول الذي زالت حكمته، والأخذ بالخطاب الجديد المشتمل على الحكمة الآن.
فالمنسوخ - وقت العمل به - كانت فيه المصلحة والحكمة، والناسخُ هو المشتمل على الحكمة والمصلحة بعد النسخ (1) .
المسألة الرابعة: أقسام النسخ
للنسخ تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة، وبيان ذلك على النحو الآتي:
(1)"رحلة الحج"(61) .
أولاً: ينقسم النسخ إلى ثلاثة أقسام:
نسخ الأخف بالأثقل، ونسخ الأثقل بالأخف، ونسخ المساوي بالمساوي.
وقد تقدم التمثيل لهذه الأقسام وبيان الحكمة في الكل (1) .
ثانيًا: ينقسم النسخ بالنظر إلى وقته إلى نسخ بعد التمكن من الفعل، وهذا هو الغالب في الأحكام المنسوخة، كاستقبال بيت المقدس، وعدة المتوفي عنها زوجها حولاً كاملاً.
وإلى نسخ قبل التمكن من الفعل كقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأمره بذبح ولده. وقد تقدم بيان مذهب السلف في هذه المسألة ومأخذهم في ذلك (2) .
ثالثًا: ينقسم النسخ بالنظر إلى بدله إلى قسمين: نسخ إلى غير بدل –عند القائلين به– ونسخ إلى بدل، كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام، فهذا القسم متفق عليه بين العلماء، وهو الموافق لقوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ، فالآية تدل دلالة صريحة على أن النسخ لا بد فيه من البدل؛ إذ إن الله وعد أنه لا بد للمنسوخ من بدل مماثل أو خيرٍ، فلا يزال المؤمنون في نعمة من الله لا تنقص بل تزيد، فإنه إذا أتى بخير منها زادت النعمة، وإذا أتى بمثلها كانت النعمة باقية (3) .
ومتابعة لهذه الآية ذهب بعض أهل السنة إلى أن النسخ لا يكون إلا إلى بدل (4) . وذهب جمهور الأصوليين (5) إلى أن النسخ قد يكون إلى غير بدل، ومثلوا لذلك
(1) انظر (ص 253) من هذا الكتاب.
(2)
انظر (ص 253) من هذا الكتاب.
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى"(17/184، 195) .
(4)
انظر: "الرسالة"(109، 110) ، و"مجموع الفتاوى"(17/184، 195) ، و"الجواب الكافي"(227) ، و"أضواء البيان"(3/362) ، و"مذكرة الشنقيطي"(79) .
(5)
قال الآمدي: "مذهب الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل، خلافًا لبعض الشذوذ"(3/135) . وقد وافق الخطيب البغدادي وابن قدامة وابن النجار الفتوحي من أهل السنة مذهب جمهور الأصوليين، وسيتضح أن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي. انظر:"الفقيه والمتفقه"(1/82) ، و"روضة الناظر"(1/215) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/545) .
بنسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي المناجاة (1) .
والظاهر أن الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى اللفظ دون الحقيقة، وبيان ذلك:
أن الجميع متفق على أن الله سبحانه وتعالى إذا نسخ حكمًا عوض المؤمنين عنه بحكم آخر هو خير من الحكم المنسوخ أو مثله، فلا يتركهم هملاً بلا حكم (2) .
وإنما اختلفوا في تسمية الحكم المنتقل إليه بدلاً إذا كان رجوعًا وردًا إلى الحكم السابق الذي كانوا عليه؟
فعند جمهور الأصوليين – وهم القائلون بالنسخ إلى غير بدل – لا يسمى هذا بدلاً، إذ البدل عندهم خاص بما هو حكم شرعي آخر ضد المنسوخ كاستقبال الكعبة بدلاً من بيت المقدس، أما الرد إلى ما كانوا عليه قبل شرع المنسوخ – كما في المناجاة – فليس هذا بدلاً عند هؤلاء.
أما النافون للنسخ إلى غير بدل فمرادهم بالبدل ما هو أعم من حكم آخر ضد المنسوخ فيشمل – إضافة إليه – الرد إلى ما كانوا عليه قبل شرع المنسوخ، لذا فإن الحكم المنتقل إليه يسمى – عند هؤلاء – بدلاً ولو كان رجوعًا إلى الحكم السابق (3) .
يوضح ذلك قول ابن القيم: "......فإن الرب تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله رأساً، بل لا بد أن يُبقي بعضه أو بدله، كما أبقى شريعة الفداء، وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة، وكما أبقى الخمس للصلوات بعد رفع الخمسين وأبقى ثوابها"(4) .
والأولى على كلِّ أن يقال: إن النسخ لا بد فيه من البدل، وإن هذا البدل قد يكون حكمًا شرعيًا جديدًا كما في استقبال القبلة، وقد يكون رجوعًا إلى
(1) انظر الجواب على التمثيل والاستدلال بآية المناجاة في كلام ابن القيم الآتي، وفي:"أضواء البيان"(3/362، 363) .
(2)
انظر: "شرح الكوكب المنير"(3/548) .
(3)
انظر: "روضة الناظر"(1/216) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/548، 549) .
(4)
"الجواب الكافي"(227) .
الحكم السابق كما في المناجاة، ففي هذا التفصيل تأدب مع الآية القرآنية الكريمة {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] . وفيه أيضًا ملاحظة للأحكام التي نُسخت فأبقيت على حكمها السابق، أو على حكم البراءة الأصلية.
رابعًا: ينقسم النسخ إلى ثلاثة أقسام (1) :
القسم الأول: نسخ التلاوة والحكم معًا.
وذلك مثل آية التحريم بعشر رضعات (2) ، فإنها منسوخة التلاوة والحكم معًا.
القسم الثاني: نسخ التلاوة وبقاء الحكم.
وذلك كنسخ آية الرجم.
القسم الثالث: نسخ الحكم وبقاء التلاوة.
وهو غالب ما في القرآن من المنسوخ، كقوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] .
خامسًا: ينقسم النسخ بالنظر إلى دليله إلى أقسام متعددة، يمكن جمعها في قسمين: قسم متفق على جوازه، وقسم وقع فيه الخلاف.
أما القسم المتفق عليه فهو (3) :
- نسخ القرآن بالقرآن.
- نسخ السنة المتواترة والآحادية بمتواتر السنة.
- نسخ الآحاد من السنة بالآحاد من السنة.
وأما القسم المختلف فيه فيمكن بيانه في ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: نسخ القرآن بالسنة.
(1) انظر: "الفقيه والمتفقه"(1/80 - 82) ، و"روضة الناظر"(1/201 - 203) ، و"مجموع الفتاوى"(17/185) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/553 - 559) ، و"أضواء البيان"(3/366) .
(2)
انظر فيما يتعلق بهذا الأثر الصفحة التالية، تعليق رقم (7) .
(3)
انظر: قواعد الأصول (72) ، ومختصر ابن اللحام (138) ، ونزهة الخاطر العاطر (1/223) ، ومذكرة الشنقيطي (83) .
ذهب جمهور الأصوليين إلى أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة (1) ، وهو اختيار الأمين الشنقيطي (2) .
وذهب الإمام الشافعي (3) وأحمد (4) إلى أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، بل لا ينسخ القرآن إلا قرآن مثله، وهذا اختيار ابن قدامة وابن تيمية (5) .
وهذا الخلاف في الجواز وفي الوقوع.
حجة الجمهور أن الجميع وحي من الله تعالى، فالناسخ والمنسوخ من عند الله، والله هو الناسخ حقيقة، لكنه أظهر النسخ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم (6) .
ومثل الجمهور للوقوع بأن آية التحريم بعشر رضعات نُسخت بالسنة (7) .
1-
وحجة الإمام الشافعي (8) قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15]، وقوله تعالى:{يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] .
وجه الدلالة: أنه قد تبين من مجموع الآيتين أن المبتدئ لفرض الكتاب إنما هو الله ولا يكون ذلك لأحد من خلقه، وإنما جعل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول من تلقاء نفسه - بتوفيقه سبحانه - فيما لم ينزل به كتابًا، ومعلوم أن موقع سنته صلى الله عليه وسلم من الكتاب إنما هو البيان له والتفسير لمجمله دون النسخ. ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
(1) انظر: "شرح الكوكب المنير"(3/563) ، و"نزهة الخاطر العاطر"(1/225) .
(2)
انظر: "أضواء البيان"(3/367) ، و"مذكرة الشنقيطي"(85) .
(3)
انظر: "الرسالة"(106) .
(4)
انظر: "العُدة" لأبي يعلى" (3/788) ، و"روضة الناظر" (1/224) ، و"مجموع الفتاوى" (20/397 - 399) .
(5)
انظر: "روضة الناظر"(1/225) ، و"مجموع الفتاوى"(17/195، 197، 19/202)، وربما يفهم من كلام ابن القيم موافقة هذا المذهب. انظر:"إعلام الموقعين"(2/306، 308) .
(6)
انظر: "أضواء البيان"(3/367) .
(7)
ورد ذلك فيما روته عائشة رضي الله عنها، قالت:(كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن) . رواه مسلم (10/29) .
(8)
انظر: "الرسالة"(106 - 109) .
[البقرة: 106]، وقوله تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] .
2-
واستدل الشافعي (1) على عدم جواز نسخ القرآن بالسنة - وهي هذه المسألة - ونسخ السنة بالقرآن - وهي المسألة اللاحقة - بأن القول بتجويز النسخ في المسألتين يؤدي إلى مفسدة، ألا وهي جواز أن يقال: إن ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته كتحريم بعض البيوع، ورجم الزناة يحتمل أن يكون ذلك قبل أن ينزل عليه قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فيكون القرآن ناسخًا للسنة، ويجوز بناءً على ذلك رد كل سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بيان لمجمل القرآن لمجرد وجود وجه مخالفة بين مجمل القرآن وبيان السنة.
3-
وقد ذكر ابن تيمية أن منهج السلف في الحكم هو النظر في الكتاب أولاً ثم في السنة ثانيًا (2) ، وبين أن هذا المنهج إنما ينسجم مع القول بمنع نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن.
قال رحمه الله: "وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أولاً؛ لأن السنة لا تنسخ الكتاب فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة، بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه، فلا يقدم غير القرآن عليه، ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته، لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره.....فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة.
وإذا كان في السنة لم يكن ما في السنة معارضًا لما في القرآن" (3) .
المسألة الثانية: نسخ السنة بالقرآن:
ذهب جمهور الأصوليين إلى أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن (4) ، وهذا اختيار ابن النجار الفتوحي والأمين الشنقيطي (5) .
(1) انظر: "الرسالة"(111 - 113) .
(2)
انظر (ص279) من هذا الكتاب.
(3)
"مجموع الفتاوى"(19/202) .
(4)
انظر: "مختصر ابن اللحام"(138) .
(5)
انظر: "شرح الكوكب المنير"(3/559) ، و"أضواء البيان"(3/367) .
وذهب الإمام الشافعي (1) إلى أن السنة لا ينسخها إلا سنة مثلها، وأن القرآن قد يأتي ناسخًا للسنة، لكن لا بد من مجيء سنة تدل على أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة حتى تقوم الحجة بأن الشيء ينسخ بمثله، فلا ينسخ القرآن إلا قرآن مثله، ولا ينسخ السنة إلا سنة مثلها.
وقد استدل الفريقان بالأدلة التي مضى بيانها في المسألة السابقة (2) .
وقد مثل الجمهور للوقوع بأمثلة كثيرة منها (3) :
- التوجه إلى بيت المقدس وهو ثابت بالسنة، وناسخه في القرآن قوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] .
2-
تحريم مباشرة النساء في رمضان ليلاً ثابت بالسنة، وناسخه في القرآن قوله تعالى:{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] .
3-
وجوب صوم عاشوراء ثابت بالسنة، فنسخ بوجوب صوم رمضان بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] .
وخلاصة القول في هاتين المسألتين:
أن الخلاف في جواز نسخ القرآن بالسنة والعكس خلاف لا يترتب عليه أثر كبير والخطب فيه يسير.
وذلك إذا تقرر - عند الجميع - ما يأتي:
أولاً: تعظيم نصوص الكتاب والسنة وتقديم جانب العمل بها مهما أمكن (4) .
ثانيًا: أن الكتاب والسنة وحي من عند الله، وأنهما متفقان لا يختلفان، متلازمان لا يفترقان (5) .
ثالثًا: أن النسخ لا يكون إلا بأمر من عند الله سبحانه: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39](6) .
(1) انظر: "الرسالة"(110) .
(2)
يستثنى من ذلك الدليل الأول للشافعي فإنه خاص بالمسألة الأولى فقط.
(3)
انظر: "المستصفى"(147) ، و"أضواء البيان"(3/367) .
(4)
انظر (ص69) وما بعدها من هذا الكتاب.
(5)
انظر (ص134، 135) من هذا الكتاب.
(6)
انظر (ص248) من هذا الكتاب.
رابعًا: عدم التفريق في ذلك بين السنة المتواترة والآحادية (1) .
أما الخلاف في وقوع النسخ في هاتين المسألتين فإنه خلاف اعتباري، يعود - عند التحقيق إلى اللفظ: فمن قال بالجواز اعتبر القرآن ناسخًا للسنة والعكس، ومن منع اعتبر الناسخ للقرآن قرآنًا مثله، والناسخ للسنة سنة مثلها.
يوضح ذلك نقلان عن إمامين جليلين:
(النقل الأول: عن الإمام ابن تيمية، وهو يتعلق بمسألة نسخ القرآن بالسنة.
قال رحمه الله: "فإن الشافعي وأحمد وسائر الأئمة يوجبون العمل بالسنة المتواترة المحكمة، وإن تضمنت نسخًا لبعض أي القرآن.
لكن يقولون: إنما نسخ القرآن بالقرآن لا بمجرد السنة، ويحتجون بقوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ، ويرون من تمام حرمة القرآن أن الله لم ينسخه إلا بقرآن" (2) .
(والنقل الثاني: عن الإمام الشافعي، وهو يتعلق بمسألة نسخ السنة بالقرآن.
قال رحمه الله: "فإن قال قائل: هل تُنسخ السنة بالقرآن؟
قيل: لو نُسخت السنة بالقرآن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة" (3) .
المسألة الثالثة: نسخ المتواتر بالآحاد:
1-
ذهب جمهور الأصوليين إلى أنه لا يجوز نسخ المتواتر - من القرآن والسنة - بالآحاد من السنة.
واحتجوا بأن الآحاد ضعيف، والمتواتر أقوى منه فلا يُرفع الأقوى بما هو دونه (4) . وقد تقدم بيان غلط الأصوليين - من وجهين - في هذه الحجة (5) .
(1) انظر (ص249) من هذا الكتاب.
(2)
"مجموع الفتاوى"(20/399) .
(3)
"الرسالة"(110) .
(4)
انظر: "الإحكام" للآمدي (3/134) .
(5)
انظر (ص249) من هذا الكتاب.
2-
وذهب الإمام الشافعي وأحمد وابن تيمية إلى أنه لا يجوز نسخ المتواتر من القرآن بالآحاد من السنة.
وهذا المذهب فرع عن القول بأن السنة لا تنسخ القرآن (1) .
3-
وذهب الأمين الشنقيطي إلى جواز نسخ القرآن بأخبار الآحاد (2) .
وهذا المذهب مبني على:
أ- القول بجواز نسخ القرآن بالسنة، وقد تقدم بيان ذلك (3) .
ب- القول بأنه لا يشترط في الناسخ أن يكون أقوى من المنسوخ أو في درجته بل يكفي أن يكون صحيحًا ثابتًا، وقد تقدم بيان ذلك (4) .
جـ- الوقوع: ومثل له بنسخ إباحة الحمر الأهلية المنصوص عليها بالحصر في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [الأنعام: 145] ، وذلك بتحريمه صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية، وكان ذلك في خيبر (5) ، والآية من سورة الأنعام وهي مكية (6) .
وحاصل الكلام في هذه المسألة:
أن قول جمهور الأصوليين مبني على أن الأقوى لا يُرفع بما هو دونه، وقد سبق بيان ضعف هذه الحجة. فيعود الخلاف – في هذه المسألة بين القولين الثاني والثالث – إلى قضية نسخ السنة للقرآن على وجه الخصوص، وهذه القضية سبق الكلام عليها، هذا فيما يتعلق بجانب الجواز.
أما بالنسبة للوقوع فإن المثال المذكور يمكن أن يعترض عليه بأن هذا ليس من باب النسخ وإنما هو من باب تخصيص عموم مفهوم الحصر.
(1) وقد تقدم بيان ذلك (ص258، 259) من هذا الكتاب، وهل يجوز عند هؤلاء نسخ السنة المتواترة بالآحاد؟ مقتضى استدلالهم جواز ذلك. والله أعلم.
(2)
انظر: "أضواء البيان"(2/251، 3/367) ، و"مذكرة الشنقيطي"(86) .
(3)
انظر (ص259) من هذا الكتاب.
(4)
انظر (ص249) من هذا الكتاب.
(5)
انظر: "صحيح البخاري"(6/134) برقم (2991) .
(6)
انظر: "مذكرة الشنقيطي"(86) .