الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن القيم: «فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه» (1) .
(ثالثًا:
آداب المفتي:
للمفتي آداب ينبغي أن يتحلى بها قبل إصداره الفتوى، وأثناء الفتوى، وبعدها، فمن ذلك:
1-
ألا يفتي في مسألة يكفيه غيره إياها، فقد كان السلف رضي الله عنهم يتدافعون الفتوى، ويتورعون عن الإفتاء، ويود أحدهم أن يكفيه الجواب غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل جهده في معرفة حكمها مستعينًا بالله تعالى (2) .
2-
ألا يتسرع في إصدار الفتوى إن تعينت عليه، بل عليه أن يتأمل وينظر، ولا يبادر إلى الجواب إلا بعد استفراغ الوسع، وبذل الجهد، وحصول الاطمئنان (3) . لذلك كان على المفتي:
3-
أن يستشير من يثق بدينه وعلمه، ولا يستقل بالجواب ذهابًا بنفسه وارتفاعًا بها، فقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} [آل عمران: 159] ، وأثنى على المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم.
هذا إذا لم يعارض ذلك مفسدة من إفشاء سر السائل أو تعريضه للأذى، أو مفسدة لبعض الحاضرين (4) . لذلك فإن على المفتي:
4-
أن يحفظ أسرار الناس، وأن يستر ما اطلع عليه من عوراتهم (5) .
5-
إذا اعتدل عند المفتي قولان أو لم يعرف الحق منهما فلم يتبين له الراجح من القولين فالأظهر أنه يتوقف ولا يفتي بشيء (6) .
(1)"إعلام الموقعين"(4/199) .
(2)
انظر: "جامع بيان العلم وفضله"(2/163) ، و"الفقيه والمتفقه"(2/160) ، و"إعلام الموقعين"(1/33) ، و"شرح الكوكب المنير"(4/588) .
(3)
انظر المصادر السابقة.
(4)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/256، 257) .
(5)
انظر المصدر السابق (4/257) .
(6)
انظر: "الفقيه والمتفقه"(2/170) ، و"إعلام الموقعين"(4/157، 238) ، وانظر رقم (12) من هذه الآداب.
6-
للمفتي أن يدل المستفتي على عالم غيره، لكن على المفتي أن يتقي الله ويرشده إلى رجل سُنة، فإنه إما أن يكون معينًا على البر والتقوى، أو على الإثم والعدوان (1) .
وهذه الدلالة وذلك التوقف إنما يجوز بالتفصيل الآتي:
7-
إذا كانت الفتوى مخالفة لغرض السائل فإن على المفتي أن يفتي بالحق الذي يعتقده، ولا يسعه أن يتوقف في الإفتاء به إذا خالف غرض السائل؛ فإن ذلك إثم عظيم، وكيف يسعه من الله أن يقدم غرض السائل على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز له أيضاً أن يدله على مفتٍ أو مذهبٍ يكون غرضه عنده (2) .
8-
ذكر الدليل والتعليل، فإن جمال الفتوى وروحها هو الدليل، وقول المفتي إذا ذكر معه الدليل حجة يحرم على المستفتي مخالفتها، ويبرئ المفتي من عهدة الإفتاء بلا علم، ومن تأمل فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم، ونظيره، ووجه مشروعيته.
ومن ذلك: نهيه عن الخذف (3)، وتعليل ذلك بأنه:«يفقأ العين ويكسر السن» (4) .
وكذلك أحكام القرآن فإن الله يرشد إلى مداركها وعللها، كقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222](5) .
9-
التوطئة للحكم إذا كان مستغربًا لم تألفه النفوس بما يؤذن به ويدل عليه، ويقدم بين يديه مقدمات تؤنس به (6) .
10-
الإرشاد إلى البديل المناسب، فإن من فقه المفتي ونصحه إذا منع
(1) انظر: "إعلام الموقعين"(4/207) ، و"شرح الكوكب المنير"(4/589) .
(2)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/258، 259) ، وانظر رقم (10) من هذه الآداب.
(3)
الخذف: هو رمي الحصاة ونحوها بطرفي الإبهام والسبابة. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"(2/16) ، و"المصباح المنير"(165) .
(4)
رواه البخاري (10/599) برقم (6220) ، ومسلم (13/105) .
(5)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/161 – 163، 259، 260) .
(6)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/163، 164) ، و"زاد المعاد"(3/309) .
المستفتي مما يحتاجه أن يدله على ما هو عوض له منه، فإذا سد عليه باب المحظور فتح له باب المباح، فمتى وجد المفتي للسائل مخرجًا مشروعًا أرشده إليه ونبهه عليه، كما قال تعالى لأيوب عليه الصلاة والسلام لما حلف أن يضرب زوجته مائة:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44](1) .
11-
ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإن النص يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا سئلوا عن مسألة يقولون: قال الله كذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلاً (2) .
ويحرم على المفتي أن يفتي بضد لفظ النص (3) ، بل عليه أن يتبع النص ولو خالف مذهبه، وبيان ذلك:
12-
يجب على المفتي أن يفتي بالحق ولو خالف مذهبه (4) . وعليه أن يجعل مذهبه ثلاثة أقسام (5) :
أ- قسم، الحق فيه ظاهر، بين، موافق للكتاب والسنة، فهذا يفتي به مع طيب نفس وانشراح صدر.
ب- قسم، مرجوحٌ ومخالفه معه الدليل، فهذا لا يفتي به.
جـ- قسمٌ، من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فهذا قد يفتي به وقد لا يفتي، حسب النظر.
13-
ينبغي على المفتي أن يبين للسائل الجواب بيانًا مزيلاً للإشكال، متضمناً لفصل الخطاب، كافيًا في حصول المقصود، لا يحتاج معه إلى غيره، ولا يوقع السائل في الحيرة والإشكال.
(1) انظر: "الفقيه والمتفقه"(2/194) ، و"إعلام الموقعين"(4/159) .
(2)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/170 – 172) .
(3)
انظر المصدر السابق (4/239) .
(4)
انظر المصدر السابق (4/177، 236) .
(5)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/237) .
ولا يكون كالمفتي الذي سُئل عن مسألة في المواريث فقال: يُقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل. وسئل آخر عن مسألة فقال: فيها قولان، ولم يزد.
وهذا حيد عن الفتوى، إلا أن المفتي المتمكن من العلم المضطلع به قد يتوقف في المسألة المتنازع فيها فلا يقدم على الجزم بغير علم، وغاية ما يمكنه أن يذكر الخلاف فيها للسائل (1) .
وهذا كثير في أجوبة الإمام الشافعي وأحمد، فلا بأس من الجواب بذكر الخلاف إن كان المفتي متوقفًا (2) .
14-
ينبغي للمفتي إذا كان السؤال محتملاً استفصالُ السائل، وعدم إطلاق الجواب إلا إذا علم أنه أراد نوعًا من تلك الأنواع الممكنة في المسألة.
فمتى دعت الحاجة إلى الاستفصال استفصل، ومتى كان الاستفصال لا يحتاج إليه تركه.
فإذا سئل عن مسألة من الفرائض لم يجب عليه أن يذكر موانع الإرث؛ فيقول: بشرط ألا يكون كافرًا، ولا رقيقًا، ولا قاتلاً.
وإذا سئل عن فريضة فيها أخ وجب عليه أن يقول: إن كان لأب فله كذا، وإن كان لأم فله كذا (3) .
15-
ينبغي للمفتي أن ينبه على وجه الاحتراز مما قد يذهب إليه الوهم على خلاف الصواب، كقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (4) . فإن نهيه عن الجلوس فيه نوع تعظيمٍ لها، لذا عقبه بالنهي عن المبالغة في تعظيمها حتى تجعل قبلة (5) .
16-
لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأنه أحل كذا أو حرمه، إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على حله أو
(1) انظر: "إعلام الموقعين"(4/177 - 179) .
(2)
انظر المصدر السابق (4/157، 238) .
(3)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/187 - 195، 255، 256) .
(4)
رواه مسلم (7/38) .
(5)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/160، 161) .
تحريمه، والأولى أن يقول: نكره كذا، نرى هذا حسنًا، ينبغي هذا، لا نرى هذا، ونحو ذلك مما نقل عن السلف في فتاواهم (1) .
17-
ينبغي للمفتي إذا نزلت به المسألة أن يتوجه إلى الله بصدقٍ وإخلاصٍ أن يلهمه الصواب ويفتح له طريق السداد، ويدله على حكمه الذي شرعه في المسألة، فإذا استفرغ وسعه في التعرف على الحكم فإن ظفر به أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله.
فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية عاصفة تطفئ ذلك النور أو تكاد، ولا بد أن تضعفه.
ومما يجدر الدعاء به (2) :
ما ورد في الحديث الصحيح: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (3) . وكان بعض السلف يقرأ الفاتحة.
وكان بعضهم يقول عند الإفتاء: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] .
وبعضهم يقول: «يا معلم إبراهيم علمني» .
وبعضهم يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» .
وبعضهم يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 25 – 28] .
18-
يجوز للمفتي بل يجب عليه أن يغير فتواه إذا تبين له أنها خطأ، ولأجل هذا خرج عن بعض الأئمة في المسألة قولان فأكثر، وهذا لا يقدح في علم المفتي ولا في دينه، بل هو دليل على تقواه وسعة علمه.
(1) انظر: "إعلام الموقعين"(1/39، 4/175) .
(2)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/172، 257، 258) ، و"شرح العقيدة الطحاوية"(229، 230) .
(3)
رواه مسلم (6/56) .