الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السادسة: المخصصات
المخصصات هي أدلة التخصيص، وهي على نوعين (1) :
(النوع الأول: المخصصات المنفصلة.
مثل: الحس، والعقل، والإجماع، وقول الصحابي، والقياس، والمفهوم، والنص.
والمراد بالمخصص المنفصل: ما يستقل بنفسه دون العام، وذلك بألا يكون مرتبطًا بكلام آخر.
(النوع الثاني: المخصصات المتصلة.
مثل: الاستثناء، والشرط، والصفة، والغاية، والبدل.
والمراد بالمخصص المتصل: ما لا يستقل بنفسه، بل هو مرتبط بكلام آخر.
وفيما يأتي تنبيهات مهمة على أدلة التخصيص.
1-
مثال التخصيص بالحس قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] ، فإن الذي يتتبع أقطار الدنيا يشاهد بالحس أن بعض الأشياء لم تؤتها ملكة سبأ كعرش سليمان عليه الصلاة والسلام.
وقد يعترض على هذا المثال وغيره بأمرين (2) :
الأول: أنه من العام الذي أريد به الخصوص.
الثاني: أن ما خرج بالحس لم يدخل أصلاً.
2-
دليل العقل ضربان:
أحدهما: ما يجوز ورود الشرع بخلافه وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فهذا لا يجوز التخصيص به.
(1) انظر: "شرح الكوكب المنير"(3/277) وما بعدها، و"مذكرة الشنقيطي"(218) وما بعدها.
(2)
انظر: "شرح الكوكب المنير"(3/278، 279) ، و"مذكرة الشنقيطي"(220) . وانظر في التنبيه التالي مزيد بيان لهذين الاعتراضين.
لأن ذلك إنما يستدل به عند عدم الشرع، أما إذا ورد الشرع فيسقط به الاستدلال ويصير الحكم للشرع.
والثاني: ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه، مثل ما دل عليه العقل من نفي كون صفات الله سبحانه مخلوقه، فيجوز التخصيص بهذا، كقوله تعالى:{اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] . فالمراد أن الله خالق كل شيء ما عدا صفاته؛ لأن العقل قد دل على أنه تعالى لا يجوز أن يخلق صفاته.
ويمكن أن يعترض على هذا المخصص أولاً: بأن ما دل العقل على خروجه لا يدخل تحت العموم ابتداء (1) .
قال الشافعي بعد قوله تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] : «فهذا عام لا خاص فيه، فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وغير ذلك فالله خلقه» (2) .
ويمكن أن يعترض عليه ثانيًا: بأن هذا من قبيل العام الذي أريد به الخصوص (3) .
وإذا اتفق على المعنى فالنزاع لفظي (4) .
3-
المراد بالتخصيص بالإجماع: مستند الإجماع لا نفس الإجماع (5) .
4-
المراد بقول الصحابي الذي يخصص العموم باتفاق: ما كان له حكم الرفع وذلك فيما لا مجال للرأي فيه.
أما تخصيص العموم بقول الصحابي عند القائلين به ففيه خلاف (6) .
(1) انظر: "الفقيه والمتفقه"(1/112) ، و"روضة الناظر"(2/159) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/280) .
(2)
"الرسالة"(54) .
(3)
انظر: "نزهة الخاطر العاطر"(2/160) .
وقال ابن اللحام: "يجوز التخصيص بالعقل عند الأكثر. والنزاع لفظي". "المختصر"(122) .
(4)
انظر: "قواطع الأدلة"(1/361) .
(5)
انظر: "مختصر ابن اللحام"(123) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/369) ، و"مذكرة الشنقيطي"(220) ، وانظر (ص 248) من هذا الكتاب فيما يتعلق بالنسخ بالإجماع.
(6)
انظر: "روضة الناظر"(2/168) ، و"القواعد والفوائد الأصولية"(296) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/375) ، و"مذكرة الشنقيطي"(165، 223) .
5-
القياس إن كان مقطوعًا به جاز التخصيص به بلا إشكال.
أما إن كان القياس ظنيًا فيحتمل التخصيص؛ لأن كون صورة التخصيص مرادة باللفظ العام غير مقطوع به، والقياس يدل على أنها غير مرادة، وهذا مذهب الجمهور، ويحتمل عدم التخصيص لأن العموم أعلى رتبة من القياس؛ إذ العموم أصل والقياس فرع (1) .
6-
المفهوم إن كان مفهوم موافقة فالتخصيص به جائز قطعًا؛ لأن دلالته قطعية، أما إن كان مفهوم مخالفة فيحتمل تقديم المفهوم لكونه دليلاً خاصًا والخاص مقدم على العام، ويحتمل تقديم العموم عند من لا يحتج بالمفهوم أو من يرى أن العموم أقوى منه دلالة (2) .
7-
يجوز التخصيص بالكتاب وبالسنة بأنواعها: القولية، والفعلية، والإقرارية.
لا فرق في ذلك بين الكتاب والسنة؛ فيجوز تخصيص الكتاب بالسنة والعكس، ولا فرق في ذلك أيضًا بين المتواتر والآحاد؛ فيجوز تخصيص المتواتر بخبر الواحد (3) .
قال الشيخ الشنقيطي: «واعلم أن التحقيق أنه يجوز تخصيص المتواتر بأخبار الآحاد؛ لأن التخصيص بيان. وقد قدمنا أن المتواتر يبين بالآحاد، قرآنًا أو سنة.
كما أن التحقيق أيضًا: جواز تخصيص السنة بالكتاب كما ذكرنا، خلافًا لمن منعه محتجًا بقوله:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . ومن الحجة عليه {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] » (4) .
8-
الاستثناء (5) يكون مخصصًا بالشروط الآتية:
(1) انظر: "روضة الناظر"(2/169 - 172) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/377 - 381) .
(2)
انظر: "روضة الناظر"(2/167) ، و"مجموع الفتاوى"(31/106 - 108، 141) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/366 - 369) .
(3)
انظر: "روضة الناظر"(2/161) وما بعدها، و"شرح الكوكب المنير"(3/359) وما بعدها، و"مذكرة الشنقيطي"(221 - 223) .
(4)
"مذكرة الشنقيطي"(222) .
(5)
الاستثناء في اصطلاح الأصوليين والنجاة: "كلام ذو صيغ محصورة يدل على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول"، وقيل: هو "الإخراج بإلا أو إحدى أخواتها لما كان داخلاً أو منزلة الداخل". انظر: "روضة الناظر"(2/174)، و"المسودة:(154)، و"شرح الأشموني" (2/141) . وقد نبه ابن تيمية إلى أن الاستثناء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وفي عرف الفقهاء أعم من ذلك إذ يشمل الاشتراط بالمشيئة وغيره. انظر:"المسودة"(154) .
أ- أن يكون الاستثناء والمستثنى منه في كلام واحد متصل بعضه ببعض، بحيث لا يفصل بينهما فاصل من كلام أجنبي أو سكوت طويل يمكن الكلام فيه.
ذلك لأن الاستثناء جزء من الكلام يحصل به الإتمام، فإذا وجد فاصل لم يكن إتمامًا (1) .
ب- أن يكون الاستثناء متصلاً، وهو: أن يكون ما بعد "إلا" بعضًا مما قبلها، وأن يحكم عليه بنقيض ما حُكم به على ما قبلها (2) ؛ لأن التخصيص إنما يكون في الاستثناء المتصل دون المنقطع (3) .
جـ- أن يكون المستثنى أقل من النصف، فلا يجوز -على الراجح- استثناء النصف ولا استثناء الأكثر منه، وهذا ما نقل عن أهل اللغة (4) .
9-
إذا تعقب الاستثناء جملاً متعاطفة بالواو (5) فهل يرجع إلى جميع
(1) انظر: "روضة الناظر"(2/177) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/297) ، و"مذكرة الشنقيطي"(226) ، وانظر (ص377) من هذا الكتاب فيما يتعلق بالقرينة المتصلة.
(2)
أما الاستثناء المنقطع، فهو: أن تحكم على ما بعد إلا - وهو ليس بعضًا مما قبلها - بنقيض ما حُكم به على ما قبلها، أو تحكم على ما بعد إلا - وهو بعضٌ مما قبلها - بغير نقيض ما حُكم به على ما قبلها. مثال الأول: رأيت إخوتك إلا ثوبًا. والثاني مثل: رأيت إخوتك إلا زيدًا لم يسافر. انظر: "الاستغناء في الاستثناء"(447) ، و"شرح الأشموني مع حاشية الصبان"(2/142، 143) .
(3)
سواء قيل بصحة الاستثناء المنقطع أو ببطلانه، وأنه حقيقة أو مجاز. انظر:"روضة الناظر"(2/179) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/286) ، و"مذكرة الشنقيطي"(226) .
(4)
انظر: "روضة الناظر"(2/181) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/306) ، و"مذكرة الشنقيطي"(227) .
(5)
وهل هناك فرق بين العطف بالواو وغيرها؟
قال ابن تيمية: "موجب ما ذكره أصحابنا وغيرهم أنه لا فرق بين العطف بالواو أو بالفاء أو بثم؛ على عموم كلامهم". "القواعد والفوائد الأصولية"(259) . وانظر: (258) منه، و"مذكرة الشنقيطي"(231) .
الجمل كما ذهب إلى ذلك الجمهور، أو يرجع إلى الجملة الأخيرة كما ذهب إلى ذلك البعض (1) .
وهذا الخلاف فيما إذا تجرد الاستثناء عن القرائن وأمكن عوده إلى الجملة الأخيرة وإلى الجميع.
أما إن قام دليل اقتضى عوده إلى الأولى فقط أو إلى الأخيرة فقط أو إلى كل منها فلا خلاف في العود إلى ما قام له الدليل (2) .
وقد اختار الشيخ الشنقيطي أن الأظهر الوقف حتى يعلم الدليل، ثم إنه قال:«ولا يبعد أنه إن تجرد من القرائن والأدلة كان ظاهرًا في رجوعه للجميع» (3) .
واستدل رحمه الله لما ذهب إليه بقوله: «إن استقراء القرآن يدل على أن الصواب في رجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله أو بعضها يحتاج إلى دليل منفصل.
لأن الدليل قد يدل على رجوعه للجميع أو لبعضها دون بعض، وربما دل الدليل على عدم رجوعه للأخيرة التي تليه.
وإذا كان الاستثناء ربما كان راجعًا لغير الجملة الأخيرة التي تليه تبين أنه لا ينبغي الحكم برجوعه إلى الجميع إلا بعد النظر في الأدلة ومعرفة ذلك منها، وهذا القول –الذي هو الوقف عن رجوع الاستثناء إلى الجميع أو بعضها المعين دون بعض إلا بدليل– مروي عن ابن الحاجب من المالكية (4) ، والغزالي من الشافعية (5) ، والآمدي من الحنابلة (6) .
(1) انظر: "روضة الناظر"(2/185) ، و"مجموع الفتاوى"(31/167) ، و"القواعد والفوائد الأصولية"(257) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/312) وما بعدها.
(2)
انظر: "شرح الكوكب المنير"(3/315 – 320) .
(3)
"أضواء البيان"(6/92) .
(4)
انظر: "مختصر المنتهى"(2/139)، وقد ذكر العضد الإيجي في شرحه للمختصر أن مذهب ابن الحاجب يرجع إلى الوقف. انظر:"شرح العضد"(2/140) .
(5)
انظر: "المستصفى"(368) .
(6)
كان الآمدي حنبليًا ثم صار من أئمة الشافعية وترك مذهب الحنابلة في وقت مبكر من حياته. انظر: "طبقات الشافعية" لابن السبكي (5/129) . وانظر رأي الآمدي في هذه المسألة في: "الإحكام"(2/300) .
واستقراء القرآن يدل على أن هذا القول هو الأصح» (1) .
ثم ذكر رحمه الله أمثلة على هذا الاستقراء فمن ذلك (2) :
أ- قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] . فالاستثناء راجع للدية فهي تسقط بتصدق مستحقها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة قولاً واحدًا؛ لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ.
ب- قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] ، فالاستثناء ليس راجعًا للجملة الأخيرة {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} ؛ لأن فضل الله ورحمته يمنع اتباع الشيطان بالكلية فلا يحتاج إلى استثناء قليل ولا كثير.
جـ- قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5]، فالاستثناء لا يرجع لقوله:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ؛ لأن القاذف إذا تاب لا يسقط بتوبته حد القذف.
وبهذا الاستقراء يتبين أن الاستثناء الآتي بعد الجمل المتعاطفة قد يعود إليها جميعًا، وقد يعود إلى الجملة الأخيرة دون ما قبلها، وهذا إنما يعرف بأدلة منفصلة.
إلا أن الغالب على الكتاب والسنة وكلام العرب رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل.
قال ابن تيمية: «بل من تأمل غالب الاستثناءات الموجودة في الكتاب والسنة التي تعقبت جملاً وجدها عائدة إلى الجميع.
هذا في الاستثناء، فأما في الشروط والصفات فلا يكاد يحصيها إلا الله. وإذا كان الغالب على الكتاب والسنة وكلام العرب عود الاستثناء إلى جميع
(1)"أضواء البيان"(5/766) . وانظر منه (6/89 – 92) .
(2)
انظر: "أضواء البيان"(5/766 – 768) ، و"دفع إيهام الاضطراب"(76 – 79) .
الجمل فالأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب» (1) .
فيحصل مما سبق نظران:
النظر الأول باعتبار الأصل: فالاستثناء بهذا الاعتبار قد يعود إلى جميع الجمل وقد يعود إلى بعضها، وهذا مما يفتقر إلى أدلة خارجية.
وذلك ما ذكره الشنقيطي واستدل له بالاستقراء التام.
النظر الثاني باعتبار الغالب وعرف الشارع: فالاستثناء بهذا الاعتبار يعود إلى جميع الجمل.
وذلك ما ذكره ابن تيمية واستدل له بغالب استعمال الشارع.
وقد جمع بين هذين النظرين والتفت إلى هذين الاعتبارين القول بأن الاستثناء بعد الجمل يعود إليها جميعًا بشرطين (2) :
الأول: أن يصلح عوده إلى كل واحدة منها.
الثاني: ألا يوجد مانع يمنع من ذلك.
وهذا - عند التحقيق - مذهب الجمهور، وإليه أشار ابن النجار الفتوحي بقوله:«أما كون الاستثناء إذا تعقب جملاً يرجع إلى جميعها بالشروط المذكورة فعند الأئمة الثلاثة وأكثر أصحابهم» (3) .
10-
الشرط والصفة والبدل والغاية كلها من المخصصات المتصلة، وحكمها حكم الاستثناء.
إذ الجميع جزء من الكلام لا يتم الكلام إلا به، والجميع يغير الكلام عما كان يقتضيه لولاه (4) .
وقد تقدم بيان أن الكلام المتصل يقيد أوله آخره، كما تقدم أيضًا نقل كلام ابن تيمية في هذه المسألة (5) .
(1)"مجموع الفتاوى"(31/167) .
(2)
انظر: "شرح الكوكب المنير"(3/312) ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذين الشرطين ضمن تحرير محل النزاع انظر (ص426) من هذا الكتاب.
(3)
"شرح الكوكب المنير"(3/313) .
(4)
انظر: "روضة الناظر"(2/190) .
(5)
انظر (ص 376، 377) من هذا الكتاب.