الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: المراحل التي مر بها علم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة
-
المرحلة الأولى:
تبدأ هذه المرحلة ب
عصر الإمام الشافعي
، وتنتهي بنهاية القرن الرابع تقريبًا. وأهم ما يميز هذه المرحلة هو تدوين الإمام الشافعي لعلم أصول الفقه (1) ، وما يتصل بهذا التدوين من ظروف وأحوال.
لقد جاء الشافعي في عصر ظهرت فيه مدرستان، استقامت كل واحدة على منهج واحد معين، وكان الفقهاء إلا قليلاً يسيرون على منهج إحدى المدرستين لا يخالفونه إلى نهج الأخرى، إحدى هاتين المدرستين: مدرسة الحديث وكانت بالمدينة، وشيخها هو مالك بن أنس (2) صاحب الموطأ.
والمدرسة الثانية: مدرسة الرأي، وكانت بالعراق، وشيوخها هم أصحاب أبي حنيفة (3) من بعده.
لقد غلب على مدرسة الحديث جانب الرواية؛ لكون المدينة موطن الصحابة ومكان الوحي، وغلب على مدرسة الرأي جانب الرأي لعدم توافر
(1) انظر ما سيأتي (46) من هذا الكتاب فيما يتعلق بتأليف الشافعي لكتاب الرسالة.
(2)
هو: مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، إمام دار الهجرة، أحد أئمة المذاهب المتبوعة، وهو من تابعي التابعين، سمع نافعًا مولي ابن عمر رضي الله عنهما، روى عنه الأوزاعي والثوري وابن عيينة والليث بن سعد والشافعي، وأجمعت الأمة على إمامته وجلالته والإذعان له في الحفظ والتثبيت، له كتاب "الموطأ"، ولد سنة (93هـ)، وتوفي سنة (179هـ) . انظر:"تهذيب الأسماء واللغات"(2/75) ، و"شذرات الذهب"(1/289) .
(3)
هو: النعمان بن ثابت بن كاوس، أبو حنيفة الفقيه الكوفي، إليه ينسب المذهب الحنفي، كان عالمًا عاملاً زاهدًا عابدًا، وكان إمامًا في القياس، عُرف بقوة الحجة، ولد سنة (80هـ)، وتوفي سنة (150هـ) . انظر:"وفيات الأعيان"(5/405) ، و"الجواهر المضيئة"(1/49) .
أسباب الرواية لديهم، فقد كثرت الفتن والوضع والوضاعون.
إن كلتا المدرستين تتفق على وجوب الأخذ بالكتاب والسنة وعدم تقديم الرأي على النص.
لقد استطاع الإمام الشافعي الجمع بين هذين المنهجين، والفوز بمحاسن هاتين المدرستين، فاجتمع للشافعي فقه الإمام مالك بالمدينة حيث تلقى عنه، وفقه أبي حنيفة بالعراق إذ تلقاه عن صاحبه محمد بن الحسن (1) ، إضافة إلى فقه أهل الشام وأهل مصر حيث أخذ عن فقهائهما.
يضاف إلى ذلك مدرسة مكة التي تُعني بتفسير القرآن الكريم وأسباب نزوله، ولغة العرب وعاداتهم، إذ تلقى العلم بمكة على من كان فيها من الفقهاء والمحدثين حتى بلغ منزلة الإفتاء. كما أن الشافعي خرج إلى البادية ولازم هُذيلاً وكانت من أفصح العرب، فتعلم كلامها وأخذ طبعها، وحفظ الكثير من أشعار الهذليين وأخبار العرب.
بهذه المعطيات استطاع الإمام الشافعي أن يضع للفقهاء أصولاً للاستنباط، وقواعد للاستدلال، وضوابط للاجتهاد.
وجعل الفقه مبنيًا على أصول ثابتة لا على طائفة من الفتاوى والأقضية. لقد فتح الشافعي بذلك عين الفقه، وسن الطريق لمن جاء بعده من المجتهدين ليسلكوا مثل ما سلك وليتموا ما بدأ (2) .
هكذا صنف الإمام الشافعي كتاب "الرسالة"، فكان أول كتاب في علم أصول الفقه (3) .
(1) هو: محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، صحب أبا حنيفة، وعنه أخذ الفقه، ثم عن أبي يوسف، وروى عن مالك والثوري، وروى عنه ابن معين، وأخذ عنه الشافعي، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة فيمن نشره، وكان فصيحًا بليغًا عالمًا فقيهًا، له كتاب:"السير الكبير"، و"السير الصغير"، و"الآثار"، ولد سنة (132هـ)، وتوفي سنة (189هـ) . انظر:"تاج التراجم"(237) ، و"شذرات الذهب"(1/321) .
(2)
انظر: "الشافعي" لأبي زهرة (354) .
(3)
انظر ما سيأتي (ص47) من هذا الكتاب.
قال الإمام أحمد بن حنبل (1) : "كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي"(2) .
وقال أيضًا: "كانت أقضيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع، حتى رأينا الشافعي، فكان أفقه الناس في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يشبع صاحب الحديث من كتب الشافعي"(3) .
وقال أيضًا: "لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث"(4) .
وقد اشتمل كتاب "الرسالة" على أكثر مباحث الشافعي الأصولية، لكنه لم يشتمل عليها كلها، بل للشافعي مباحث مستقلة غيرها في الأصول (5) .
فمن ذلك كتاب "جماع العلم"(6) الذي اشتمل على حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها، وحكاية قول من رد خبر الواحد، ومناظرة في الإجماع، وغير ذلك، وقد كان تأليفه له بعد كتاب "الرسالة"(7) ، ومن ذلك كتاب "اختلاف الحديث"(8) فقد ألفه بعد كتاب "جماع العلم"(9) وبين فيه أنواع الاختلاف الوارد في الأحاديث النبوية وبوبه تبويبًا فقهيًا.
وللشافعي أيضًا كتاب"صفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم "(10) ،وكتاب"إبطال الاستحسان"(11) ، أما الكلام على كتاب "الرسالة" فسيأتي لاحقًا، إن شاء الله تعالى (12) .
(1) هو: أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الله الفقيه المحدث، إليه ينسب المذهب الحنبلي، كان إمامًا في الفقه والحديث والزهد والورع، له كتاب "المسند"، ولد سنة (164هـ)، وتوفي سنة (241هـ) . انظر:"طبقات الحنابلة"(1/4) ، و"سير أعلام النبلاء"(11/177) .
(2)
انظر: "تهذيب الأسماء واللغات"(1/61) .
(3)
انظر المصدر السابق، ومقدمة كتاب "الرسالة"(6) .
(4)
انظر المصدرين السابقين.
(5)
انظر: "الشافعي" لأبي زهرة " (186) .
(6)
طبع هذا الكتاب مستقلاً بتحقيق العلامة أحمد شاكر.
(7)
انظر: "جماع العلم"(7، 25، 32) .
(8)
طبع هذا الكتاب مستقلاً بتحقيق محمد أحمد عبد العزيز.
(9)
انظر: "اختلاف الحديث"(13) .
(10)
طبع هذا الكتاب بتحقيق العلامة أحمد شاكر في آخر كتاب "جماع العلم".
(11)
طبع هذا الكتاب مستقلاً في رسالة صغيرة بتقديم الشيخ علي بن محمد بن سنان.
(12)
انظر (ص46) من هذا الكتاب.
لقد وضع الشافعي اللبنة الأولى في تدوين علم الأصول، وأوضح معالم هذا الفن وجلَّى صورته.
والإمام الشافعي فيما فعل كان مقتفيًا بأثر من قبله، متبعًا لا مبتدعًا، اعتمد فيه على هدي الكتاب والسنة وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم وآثار الأئمة المهتدين، واستفاد -أيضًا- من علم العربية وأخبار الناس، والرأي والقياس، ولعل أهم القضايا الأصولية التي قررها الشافعي وسعى إلى بيانها في آثاره التي بين أيدينا:
1-
بيان الأدلة الشرعية، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وتوضيح مراتبها.
2-
إثبات حجية السنة عمومًا، وتثبيت خبر الواحد خصوصًا، وبيان أنه لا تعارض بين الكتاب والسنة، ولا بين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
3-
بيان وجوب اتباع سبيل المؤمنين.
4-
تحديد ضوابط الأخذ بالرأي، وشروط استعمال القياس.
5-
إبطال القول على الله بلا علم، دون حجة أو برهان.
6-
التنبيه على أن القرآن نزل بلغة العرب، وأن فيه عددًا من الوجوه الموجودة في اللسان العربي.
7-
بيان الأوامر والنواهي.
8-
ذكر الناسخ والمنسوخ.
هذا فيما يتعلق بجهود الإمام الشافعي وآثاره.
ثم تتابعت بعد بذلك جهود علماء أهل السنة، وكانت معظم هذه الجهود في هذه المرحلة الزمنية تتركز على الاعتصام بالكتاب والسنة.
فمن ذلك:
"رسالة الإمام أحمد في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم "(1) ، وكتاب "أخبار الآحاد"، وكتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة"، كلاهما من الجامع الصحيح للإمام
(1) انظر: "مسائل الإمام أحمد" برواية ابنه عبد الله (3/1355 - 1361) ، و"إعلام الموقعين"(2/290 - 293) .
البخاري (1)، وما صنفه خطيب أهل السنة الإمام ابن قتيبة (2) : كتاب "تأويل مشكل القرآن"(3) وكتاب "تأويل مختلف الحديث"(4) .
وغير ذلك مما كتبه أئمة السلف (5) في كتب العقائد والرد على الفرق الضالة حيث قرروا وجوب التمسك بالكتاب والسنة، وأقاموا لهذا الأصل العظيم الأدلة والشواهد الشرعية.
وخلاصة القول:
أنه قد تم في هذه المرحلة تدوين علم أصول الفقه، وذلك على يد الإمام الشافعي الذي كان أهلاً للقيام بهذا الدور العظيم لما اجتمع فيه من علم الكتاب والسنة، وفقه الاستنباط، وعلم اللغة، إضافة إلى ما أوتي من عقل وذكاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ثم بعد ذلك جاءت جهود العلماء متممة لما بدأه الشافعي، خاصة فيما يتعلق بوجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، فكانت هذه الجهود وتلك بمثابة الخطوط العريضة لمنهج أهل السنة والجماعة، والقواعد العامة لطريقتهم في أصول الفقه، وكان لهذه المرحلة الزمنية الأثر البليغ والتأثير العظيم في جهود العلماء اللاحقة، كما سيظهر ذلك جليًا في المرحلة الثانية والثالثة.
(1) هو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، أبو عبد الله، الإمام صاحب الصحيح، أمير المؤمنين في الحديث، كان من أوعية العلم يتقد ذكاءً، أجمع الناس على صحة كتابه "الصحيح"، ولد سنة (194هـ)، وتوفي سنة (256هـ) . انظر:"تهذيب الأسماء واللغات"(1/ 67) ، و"شذرات الذهب"(2/134) .
(2)
هو: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد، الإمام النحوي اللغوي، كان فاضلاً ثقة، يلقب بخطيب أهل السنة، له كتاب:"المعارف"، و"أدب الكاتب"، و"تأويل مشكل القرآن"، و"تأويل مختلف الحديث"، توفي سنة (276هـ) . انظر:"تاريخ بغداد"(10/170) ، و"شذرات الذهب"(2/168) .
(3)
طبع هذا الكتاب في مجلد واحد، شرحه ونشره السيد أحمد صقر.
(4)
طبع هذا الكتاب في مجلد واحد، بتصحيح وتنقيح إسماعيل الخطيب.
(5)
من ذلك كتاب "الشريعة" للإمام الآجري، المتوفى سنة (360هـ) ، وكتاب "الإبانة الكبرى" للإمام ابن بطة العكبري، المتوفي سنة (387هـ) ، وكتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للإمام اللالكائي، المتوفي سنة (418هـ) وانظر للاستزادة ما سيأتي في (ص 554) برقم (29) من هذا الكتاب.