الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما أمره لنا فهو من دين الله الذي أمرنا به" (1) .
الأصل الثاني: أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تدل على حكم هذه الأفعال بالنسبة له صلى الله عليه وسلم، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على إباحته في أدنى الدرجات، وقد يدل على الوجوب والاستحباب، ولا يدل على الكراهة فإنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل المكروه ليبين الجواز (2) ، إذ يحصل التأسي به في أفعاله؛ بل فعله لشيء ينفي كراهته (3) .
الأصل الثالث: أن العلماء قد اختلفوا في أمور فعلها صلى الله عليه وسلم هل هي من خصائصه أم للأمة أن تفعلها (4) ؟ وذلك مثل تركه للصلاة على الغال (5) ، ودخوله في الصلاة إمامًا بعد أن صلى بالناس غيره (6) ، وكذلك فإن العلماء اختلفوا في بعض أفعاله هل الاقتداء بها يكون في نوع الفعل أو في جنسه؟ لأنه صلى الله عليه وسلم قد يفعل الفعل لمعنى يعم ذلك النوع وغيره.
مثال ذلك: احتجامه صلى الله عليه وسلم (7) ، فإن ذلك كان لحاجته إلى إخراج الدم الفاسد، ثم التأسي به هل هو مخصوص بالحجامة، أو المقصود إخراج الدم على الوجه النافع؟
ومن ذلك أن الغالب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه لبس الرداء والإزار، فهل الأفضل لكل أحد أن يرتدي ويأتزر ولو مع القميص، أو الأفضل أن يلبس مع القميص السراويل من غير حاجة إلى الإزار والرداء؟
فهذه مواضع تتعلق بمسألة الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في أفعاله؛ وهي بحاجة إلى اجتهاد ونظر واستدلال وفقه.
(1)"مجموع الفتاوى"(22/321) .
(2)
فعله صلى الله عليه وسلم للشيء ينفي الكراهة حيث لا معارض له
وإلا فقد يفعل شيئًا، ثم يفعل خلافه لبيان الجواز كوضوئه صلى الله عليه وسلم مرة ومرتين. قال أهل العلم: إن ذلك كان أفضل في حقه من التثليث لبيان التشريع. انظر: "شرح الكوكب المنير"(2/192 – 194) .
(3)
انظر: "المسودة"(189 – 190، 191) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/192) .
(4)
انظر: "مجموع الفتاوى"(22/324 – 331) .
(5)
انظر في ذلك ما رواه أبو داود في سننه (3/68) برقم (2710) ، وابن ماجه (2/950) برقم (2848) ، والنسائي (4/64)، والحديث صححه محقق زاد المعاد. انظر:"زاد المعاد"(3/108) .
(6)
انظر: "صحيح البخاري"(2/172) برقم (687) .
(7)
انظر المصدر السابق (10/150) برقم (5696) .
الأصل الرابع: التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن تفعل كما فعل لأجل أنه فعل (1) .
فالتأسي إذن لا بد فيه من أمرين:
1-
المتابعة في صورة العمل.
2-
المتابعة في القصد.
فإذا طاف صلى الله عليه وسلم حول الكعبة واستلم الحجر وصلى خلف المقام، كان التأسي والاقتداء به أن يفعل هذا الفعل وأن يقصد به العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وقصد به العبادة.
أما ما فعله صلى الله عليه وسلم بحكم الاتفاق ولم يقصده مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه؛ لكونه نزله لا قصدًا منه صلى الله عليه وسلم لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإن تخصيص ذلك المكان بالصلاة لا يكون تأسيًا به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقصد ذلك المكان بالعبادة.
قال ابن تيمية: "وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل، ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة: هل فعلها استحبابًا أو لحاجة عارضة؟ تنازعوا فيها، وكذلك نزوله بالمحُصب (2) عند الخروج من منى لما اشتبه: هل فعله لأنه أسمح لخروجه أو لكونه سنة؟ تنازعوا في ذلك (3) .
ومن هذا وضع ابن عمر (4) يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم (5) .....فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته لم يمكن أن يقال: هذا
(1) انظر: "مجموع الفتاوى"(1/280، 10/409) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/196) .
(2)
المحصب: موضع بمكة على طريق منى ويسمى البطحاء. انظر: "المصباح المنير"(138) .
(3)
انظر: "صحيح البخاري (3/419) برقم (1560) ، و (3/591) برقم (1765، 1766) .
(4)
هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي الصحابي الزاهد، شهد الخندق وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشهد ما قبلها لصغر سنه، كان من الصحابة المكثرين من رواية الحديث، وهو أحد العبادلة الأربعة: ابن عباس وابن الزبير وابن عمرو بن العاص، توفي سنة (73هـ) . انظر:"تهذيب الأسماء واللغات"(1/278) ، و"شذرات الذهب"(1/81) .
(5)
انظر: "صحيح البخاري"(1/567) برقم (483) فما بعد.
سنة مستحبة، بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، أو يقال في التعريف: إنه لا بأس به أحيانًا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة.
وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله، تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصون فيه إذا لم يُتخذ سنة.
ولا يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين، فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسوله الله صلى الله عليه وسلم، إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع، وما سنه خلفاؤه الراشدون فإنما سنوه بأمره؛ فهو من سننه، ولا يكون في الدين واجبًا إلا ما أوجبه، ولا حرامًا إلا ما حرمه، ولا مستحبًا إلا ما استحبه، ولا مكروهًا إلا ما كرهه، ولا مباحًا إلا ما أباحه" (1) .
أما أقسام أفعاله صلى الله عليه وسلم فإنها على ثلاثة أقسام (2) :
ذلك أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يخلو إما أن يكون صدر منه بمحض الجبلة، أو صدر منه بمحض التشريع، وهذا قد يكون عامًا للأمة، وقد يكون خاصًا به صلى الله عليه وسلم. فهذه ثلاثة أقسام (3) :
القسم الأول: الأفعال الجبلية: كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، فهذا
(1)"مجموع الفتاوى"(1/281 – 282) .
(2)
انظر: "الفقيه والمتفقه"(1/130 – 132) ، و"قواعد الأصول"(38، 39) ، و"مختصر ابن اللحام"(74) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/178، 179) ، و"أضواء البيان"(5/68) .
(3)
هناك قسم رابع وهو المحتمل للجبلي والتشريعي. وضابط هذا القسم: أن تقتضيه الجبلة البشرية بطبيعتها، لكنه وقع متعلقًا بعبادة بأن وقع فيها أو في وسيلتها، كالركوب إلى الحج ودخول مكة من كداء، فهذا قد اختلفوا فيه: هل هو مباح أو مندوب؟ ومنشأ الخلاف في ذلك تعارض الأصل والظاهر؛ فإن الأصل عدم التشريع، والظاهر في أفعاله التشريع؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات، فمن رجح فعل ذلك والاقتداء به قال: ليس من الجبلي بل من الشرع، ومن رأى أن ذلك يحتمل الجبلي وغيره فيحمله على الجبلي. انظر:"شرح الكوكب المنير"(2/180 – 183) ، و"أضواء البيان"(5/68، 69) . وانظر: الأصل الثالث والرابع مما تقدم في هذا الموضوع (ص125) من هذا الكتاب.