الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي كلام ابن رجب السابق ما يقرر ذلك ويبينه.
11-
أن
الأحكام الشرعية لا تبني على الصور النادرة
، بل العبرة بالكثير الغالب، ولو فرض وجود مصلحة عظمى في صورة جزئية فإن حكمة الله سبحانه وتعالى أولى من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة أكبر وأهم. وقاعدة الشرع والقدر: تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما، ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما (1) .
12-
أن الأحكام الشرعية مبنية على التسوية بين المتماثلات وإلحاق النظير بنظيره.
13-
أن الأحكام الشرعية قد تجمع بين المختلفات إذا اشتركت في سبب الحكم.
قال ابن القيم: «وأما قوله: (إن الشريعة جمعت بين المختلفات، كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال) فغير منكر في العقول والفطر والشرائع والعادات: اشتراك المختلفات في حكمٍ واحد باعتبار اشتراكها في سبب ذلك الحكم.
فإنه لا مانع من اشتراكها في أمر يكون علة لحكم من الأحكام، بل هذا هو الواقع، وعلى هذا فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علة للضمان،
(1) انظر: "إعلام الموقعين"(3/279) .
(2)
"إعلام الموقعين"(1/195، 196) .
وإن افترقا في علة الإثم» (1) .
وقد ذكر ابن القيم أمثلة عديدة على هذه القاعدة وبين أوجه الجمع فيها (2) .
14-
الأحكام الشرعية نوعان: ثابتة لا تتغير، ولا يجوز الاجتهاد فيها، ومتغيرة خاضعة لاجتهاد المجتهدين حسب المصلحة وهي تختلف من شخص لآخر ومن مكان لآخر.
قال ابن القيم: «الأحكام نوعان، نوع لا يتغير عن حالة واحدة، وهو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة.
كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك. فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له: زمانًا ومكانًا وحالاً؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة» (3) .
15-
إذا علم هذا فإن من الأحكام الشرعية ما يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال.
ذلك أن الحكم الشرعي يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وهذا أيضًا دليل على أن هذه الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم.
وكون الحكم الشرعي يختلف من واقعة إلى واقعة إذا تغير الزمان، أو المكان، أو الحال، ليس معناه أن الأحكام الشرعية مضطربة ويحصل فيها التذبذب والتباين، بل إن الحكم الشرعي لازم لعلته وسببه وجارٍ معه، لكن حيث اختلف الزمان أو المكان اختلفت الحقيقة والعلة والسبب، فالواقعة غير الواقعة، والحكم كذلك غير الحكم.
أما أن يختلف الحكم الشرعي في واقعتين متماثلتين في الحقيقة مشتركتين في
(1)"إعلام الموقعين"(2/171) .
(2)
انظر: "إعلام الموقعين"(2/171 - 175) .
(3)
"إغاثة اللهفان"(1/330، 331) . وانظر: "إعلام الموقعين"(4/262، 263) .
العلة والسبب فهذا ما لا يمكن حدوثه أبدًا (1) .
16-
وكذلك فإن من الأحكام الشرعية ما يختلف من شخص لآخر، كل حسب حاله.
قال ابن القيم: «ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته، سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها.
فعلى العلم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه، ما ليس على المفتي.
وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما» (2) .
17-
أن أحكام الدنيا تجري على الأسباب الظاهرة، ما لم يقم دليل على خلاف ذلك، قال الشافعي:«فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالاً على أن ما أظهروا يحمل غير ما أبطنوا بدلالة منهم أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة، وذلك أن يقول قائل: من رجع عن الإسلام ممن ولد على الإسلام قتلته ولم أستتبه، ومن رجع عنه ممن لم يولد على الإسلام استتبته.....» (3) .
وقال ابن القيم: «........أن الله تعالى لم يُجرِ أحكام الدنيا على علمه في عباده، وإنما أجراها على الأسباب التي نصبها أدلة عليها وإن علم سبحانه وتعالى أنهم مبطلون فيها مظهرون لخلاف ما يبطنون. وإذا أطلع الله رسوله على ذلك لم يكن ذلك مناقضًا لحكمه الذي شرعه ورتبه على تلك الأٍسباب.
كما رتب على المتكلم بالشهادتين حكمه، وأطلع رسوله وعباده المؤمنين
(1) انظر: "إعلام الموقعين"(3/3) وما بعدها، و"إغاثة اللهفان"(1/330) وما بعدها.
(2)
"إعلام الموقعين"(2/176) .
(3)
"إبطال الاستحسان"(24) .
على أحوال كثير من المنافقين وأنهم لم يطابق قولهم اعتقادهم.....» (1) .
وقال أيضًا: «فأحكام الرب تعالى جارية على ما يظهر للعباد، ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه» (2) .
18-
أن العبرة في الأحكام الشرعية بالمقاصد والنيات، وذلك إذا ظهرت، أما إذا لم يظهر قصد ولا نية فالعبرة بالظاهر.
قال ابن القيم: «إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام، أو لم يظهر قصد يخالف كلامه: وجب حمل كلامه على ظاهره» (3) .
وقد ذكر ابن القيم لاعتبار النية والقصد في المعاملات والعبادات والثواب والعقاب أمثلة كثيرة (4) .
منها: بيع الرجل السلاح لمن يعرف أنه يقتل به مسلمًا حرام باطل؛ لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وبيعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله طاعة وقربة.
وكذلك الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل ويحرم إذا ذبح لغير الله.
وكذلك الصوم، فلو أمسك رجل من المفطرات عادة واشتغالاً ولم ينو القربة لم يكن صائمًا.
ولو دار حول الكعبة يلتمس شيئًا سقط منه لم يكن طائفًا.
وكذلك لو جامع أجنبية يظنها زوجته أو أمته لم يأثم بذلك وقد يثاب بنيته. ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام.
ومن الأدلة على هذه القاعدة:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار» (5) .
وعلل ذلك صلى الله عليه وسلم بأن نية كل واحد منها قتل صاحبه.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو
(1)"إعلام الموقعين"(3/128) .
(2)
المصدر السابق (3/127) .
(3)
"إعلام الموقعين"(3/108) .
(4)
انظر المصدر السابق (3/109 - 111) .
(5)
سبق تخريجه، انظر (ص 341) من هذا الكتاب.
يصد لكم» (1) . فحرم على المحرم الأكل بناء على قصد الصائد ونيته.
فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال» (3) .
19-
أن الأحكام الشرعية لا تكون مخالفة للعقول والفطر.
قال ابن القيم: «بل أخبارهم [أي الرسل] قسمان:
أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر.
الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر، وتفاصيل الثواب والعقاب. ولا يكون خبرهم محالاً في العقول أصلاً. وكل خبر يظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون الخبر كذبًا عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسدًا، وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقول صريح؛ قال تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] .
وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] ، والنفوس لا تفرح بالمحال، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 57، 58] ، والمحال
(1) رواه أبو داود (2/171) برقم (1851) ، والنسائي (5/ 187) والترمذي واللفظ له (3/204) برقم (846)، وقال:"وقال الشافعي: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس. والعمل على هذا، وهو قول أحمد وإسحاق".
(2)
رواه البخاري (1/9) برقم (1) .
(3)
"إعلام الموقعين"(3/111) .
لا يشفي، ولا يحصل به هدىً ولا رحمة، ولا يفرح به» (1) .
20-
أن الأحكام الشرعية محيطة بجميع أفعال المكلفين، وافية بكل الحوادث.
قال ابن القيم: «وهذه الجملة إنما تنفصل بعد تمهيد قاعدتين عظيمتين:
إحداهما: أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرًا ونهيًا، وإذنًا وعفوًا، كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علمًا وكتابةً وقدرًا، فعلمه وكتابه وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيرها، وأمره ونهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية، فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين: إما الكوني وإما الشرعي الأمري، فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله، وجميع ما حرمه، وجميع ما عفا عنه. وبهذا يكون دينه كاملاً كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] » (2) .
21-
أن الأحكام الشرعية ظاهرة واضحة مبينة، خاصة ما تحتاج الأمة إليه منها.
قال ابن تيمية: «إن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًا، ولا بد أن تنقلها الأمة» (3) .
وقال ابن رجب: «وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالاً إلا مبينًا، ولا حرامًا إلا مبينًا، لكن بعضه كان أظهر بيانًا من بعض.
فما ظاهر بيانه واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك: لم يبق فيه شك، ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام.
وما كان بيانه دون ذلك فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة فأجمع العلماء على حله أو حرمته، وقد يخفي على بعض ما ليس منهم.
ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضًا فاختلفوا في تحليله وتحريمه، وذلك
(1)"الروح"(62) .
(2)
"إعلام الموقعين"(1/332) .
(3)
"مجموع الفتاوى"(25/236) .
أسباب....» (1) .
22-
أن العبرة في الحكم الشرعي بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
قال ابن القيم: «
…
فالله سبحانه إنما حرم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المضرة بالدنيا والدين، ولم يحرمها لأجل أسمائها وصورها، ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها لا تزول بتبدل أسمائها وتغير صورها» (2) .
وقال رحمه الله مستدلاً لهذه القاعدة وممثلاً لها:
«ولو أوجب تبديل الأسماء والصور تبدل الأحكام والحقائق لفسدت الديانات وبدلت الشرائع، واضمحل الإسلام.
وأي شيء نفع المشركين تسميتهم أصنامهم آلهة، وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها؟
وأي شيء نفعهم تسميةُ الإشراك بالله تقربًا إلى الله؟
وأي شيء نفع المعطلين لحقائق أسماء الله وصفاته تسمية ذلك تنزيهًا» (3) .
23-
أن الحكم الشرعي يجب اعتقاده، وهذا أصل من أصول الدين؛ إذ يجب اعتقاد وجوب الواجبات، وحرمة المحرمات، واستحباب المستحبات، وكراهة المكروهات، وإباحة المباحات.
فمن أنكر حكمًا شرعيًا معلومًا من الدين بالضرورة فهو كافر كفرًا يخرج
(1)"جامع العلوم والحكم"(1/196)، وللاستزادة ينظر:"درء التعارض"(1/72) ، و"إعلام الموقعين"(4/375، 376) .
(2)
"إغاثة اللهفان"(1/353) .
(3)
"إعلام الموقعين"(3/118) .
(4)
"إغاثة اللهفان"(1/354) .
من الملة (1) ، أما إذا كان الحكم الشرعي مما يمكن فيه الخلاف فلا (2) .
24-
أن الحكم الشرعي يجب اتباعه والأخذ به، وهذا قد تقدم بيانه (3) .
25-
أن العلم بالأحكام الشرعية فرض كفاية على جميع الأمة، ويجب على كل واحد أن يعرف من الأحكام الشرعية ما يحتاج إليه (4) .
26-
أن اتباع الحكم الشرعي علمًا وعملاً واعتقادًا مشروط بالممكن من العلم والقدرة على ما سبق بيانه (5) .
****
(1) مع مراعاة شروط التكفير بالنسبة للمعين. انظر: "مجموع الفتاوى"(3/179، 12/487 – 501) .
(2)
انظر بيان ما يجوز فيه الخلاف وما لا يجوز فيه، وذلك عند الكلام على شروط المسائل المجتهد فيها (ص475) من هذا الكتاب.
(3)
انظر (ص 71) من هذا الكتاب.
(4)
انظر: "مجموع الفتاوى"(15/390، 391) .
(5)
انظر (ص344) فقرة رقم (11) ، و (ص347) فقرة رقم (6) من هذا الكتاب.