الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
تقليد المجتهد القادر على الاجتهاد مع اتساع الوقت وعدم الحاجة (1) .
6-
تقليد مجتهدٍ واحدٍ بعينه في جميع اجتهاداته، وهذا ما سيأتي بيانه في المسألة الآتية.
المسألة الثالثة: التمذهب
وفي هذه المسألة أربعة أمور:
(الأمر الأول:
الموقف من الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، رحمهم الله تعالى
.
قال الشيخ الشنقيطي: «اعلم أن موقفنا من الأئمة رحمهم الله، من الأربعة وغيرهم هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم، وهو موالاتهم ومحبتهم، وتعظيمهم وإجلالهم، والثناء عليهم بما هم عليه من العلم والتقوى، واتباعهم في العمل بالكتاب والسنة وتقديمهما على رأيهم، وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق، وترك ما خالف الكتاب والسنة منها.
أما المسائل التي لا نص فيها، فالصواب النظر في اجتهادهم فيها، وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا؛ لأنهم أكثر علمًا وتقوى منا، ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضي الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (2)، وقال:«فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» (3) .
(1) انظر: "الفقيه والمتفقه"(2/69) .
(2)
رواه الترمذي (4/668) برقم (2518)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني. انظر:"صحيح الجامع"(2/637) برقم (3378) .
(3)
رواه البخاري (1/126) برقم (52) ، ومسلم واللفظ له (11/26) ، وهو قطعة من حديث مضى تخريجه في (ص349) من هذا الكتاب.
وحقيقة القول الفصل في الأئمة رحمهم الله أنهم من خيار علماء المسلمين، وأنهم ليسوا معصومين من الخطأ، فكل ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وما أخطئوا فيه فهم مأجورون فيه باجتهادهم، معذورون في خطئهم، فهم مأجورون على كل حال، لا يلحقهم ذم ولا عيب ولا نقص في ذلك.
ولكن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفي:
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد
…
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
فلا تك ممن يذمهم وينتقصهم، ولا ممن يعتقد أقوالهم مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله أو مقدمة عليهما» (1) .
والمقصود أنه لا بد من الجمع بين أمرين عظيمين، أحدهما أعظم من الآخر (2) :
(الأمر الأول: هو النصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكتابه ولدينه، وتنزيه هذا الدين عن الأقوال الباطلة.
(والأمر الثاني: هو معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم، وحقوقهم، ومراتبهم.
فالنصيحة لدين الله توجب رد بعض أقوالهم، وترك جملة من اجتهاداهم، وليس في ذلك تنقص لهم ولا إهدار لمكانتهم.
وكذلك فإن معرفة فضل الأئمة لا يوجب قبول كل ما قالوه.
فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما:
الطرف الأول: القول بعصمة الأئمة وأنهم لا يخطئون، وقبول جميع أقوالهم، ولو خالفت الحق.
الطرف الثاني: تأثيم الأئمة والوقيعة بهم، وإهدار جميع أقوالهم ولو وافقت الحق.
(1)"أضواء البيان"(7/555، 556) .
(2)
انظر: "الفتاوى الكبرى"(6/92 – 94) ، و"إعلام الموقعين"(3/282، 283) .
قال ابن القيم بعد أن قرر ما مضى:
«ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم، أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله.
ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين» (1) .
(الأمر الثاني: حكم التزام مذهب معين من المذاهب الفقهية المعروفة.
قال ابن القيم: «وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: لا يلزمه. وهو الصواب المقطوع به؛ إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة، مبرأ أهلها من هذه النسبة» (2) .
فتبين بذلك أن التزام مذهب معين لا يجوز، هذا هو الأصل.
إلا أن هذا ليس على إطلاقه، بل قد يجوز التزام مذهب معين في أحوال معينة، منها:
1-
إذا لم يستطع العبد أن يتعلم دينه إلا بالتزام مذهب معين (3) .
2-
أن يترتب على التزام مذهب معين دفُع فسادٍ عظيمٍ لا يتحقق دفعه إلا بذلك (4) .
وعلى كل فالضابط لجواز التزام مذهب معين النظر في المصالح والمفاسد، فإن كان في الالتزام بمذهبٍ معينٍ تحقيق لمصالح عظمى جاز ذلك.
(1)"إعلام الموقعين"(3/283) .
(2)
"إعلام الموقعين"(4/261، 262) .
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى"(11/514، 20/209) .
(4)
انظر المصدر السابق.
وهذا الجواز أيضاً لا بد فيه من ضوابط، بيانها على النحو الآتي:
(الأمر الثالث: ضوابط جواز الالتزام بمذهب معين.
إذا جاز الالتزام بمذهب معين فلا بد أن يراعى في ذلك ما مضى من شروط جواز التقليد (1)، إضافة إلى الآتي:
(الضابط الأول: ألا يكون هذا الالتزام سبيلاً لاتخاذ هذا المذهب دعوة يُدعى إليها، ويوالي ويعادي عليها، مما يؤدي إلى الخروج عن جماعة المسلمين وتفريق وحدة صفهم.
فإن أهل البدع هم الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يدعون إليه ويوالون به ويعادون عليه.
أما أهل السنة فإنهم لا يدعون إلا إلى اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفقت عليه الأمة، فهذه أصول معصومة، دون ما سواها.
والمقصود أن أهل الإيمان لا يخرجهم تنازعهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان، كما علم ذلك من تنازع الصحابة رضي الله عنهم في كثير من مسائل الأحكام (2) .
(الضابط الثاني: ألا يعتقد أنه يجب على جميع الناس اتباعُ واحدٍ بعينه من الأئمة دون الإمام الآخر، وأن قوله هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون قول من خالفه، فمن اعتقد هذا كان جاهلاً ضالاً.
بل غاية ما يقال: إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العام أن يقلد واحدًا لا بعينه، من غير تعيين زيد ولا عمرو (3) .
(الضابط الثالث: أن يعتقد أن هذا الإمام الذي التزم مذهبه ليس له من الطاعة إلا لأنه مبلغ عن الله دينه وشرعه، وإنما تجب الطاعة المطلقة العامة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يأخذ بقولٍ أو يعتقده؛ لكونه قول إمامه، بل لأجل
(1) انظر (ص491) من هذا الكتاب.
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(20/163، 164، 11/514، 22/251 -253) ، و"إعلام الموقعين"(1/49) .
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى"(222/248، 249) ، و"إعلام الموقعين"(4/262) .