الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر رحمه الله أن استقراء آيات القرآن الكريم دال على أن غالب عموماته محفوظة، كقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1] ، فهي شاملة لكل أحد، وقوله:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 3] ، فكل شيء في يوم الدين يملكه (1) .
وقد جرى في تعبير بعض أهل العلم أن أكثر العمومات مخصوصة (2) .
ويمكن حمل ذلك على أن مرادهم نصوص الأحكام (الأمر والنهي) على وجه الخصوص. وأن مراد ابن تيمية أعم من ذلك؛ لأنه استند إلى الاستقراء التام فيما ذهب إليه، فلا تعارض بين المذهبين بناءً على هذا التفسير. والله أعلم.
ومما يجدر التنبيه عليه في هذا المقام:
أن المبالغة في القول بأن أكثر العمومات مخصوصة قد يراد بها تضعيف الاستدلال بالعمومات الواردة في الكتاب والسنة، والحكم بتخصيصها بأدلة غير صالحة كالتخصيص بالمعارض العقلي (3) .
كما أن المبالغة في القول بأن أكثر العمومات محفوظة قد يراد بها إبطال كثير من المخصصات الصحيحة كخبر الواحد مما يفضي إلى تعطيل العمل بعدد كبير من السنن الآحادية (4) .
المسألة الثالثة: صيغ العموم
(المراد بصيغ العموم الألفاظ الدالة على الشمول والاستغراق في
(1) انظر: "مجموع الفتاوى"(6/441 - 445) .
(2)
انظر على سبيل المثال: "روضة الناظر"(2/151، 159، 166) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/187) ، و"مذكرة الشنقيطي"(214) .
(3)
انظر (ص83) من هذا الكتاب فيما يتعلق بمذهب القائلين بتقديم المعارض العقلي على النصوص.
(4)
انظر (ص 432) من هذا الكتاب فيما يتعلق بمذهب القائلين بعدم تخصيص العام وما تم نقله عن ابن تيمية في الرد عليهم.
وضع لغة العرب، وهذا ما يمكن أن يسمى بالعموم اللفظي أو ألفاظ العموم.
(ومذهب السلف (1) أن للعموم ألفاظًا تخصه (2) .
ومن الأدلة على ذلك:
أولاً: أن الصحابة رضي الله عنهم أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم إلا ما دل على تخصيصه دليل، فإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم، وكانوا يفهمون العموم من صيغته، فكان هذا إجماعًا منهم (3) .
ثانيًا: أن إنكار صيغ العموم يؤدي إلى اختلال أوامر الشرع العامة كلها؛ إذ لا يصح الاحتجاج بلفظ عام؛ لأن كل واحد يمكنه أن يقول: ليس في هذا اللفظ دلالة على أني مراد به، فبذلك تبطل دلالة الكتاب والسنة وهذا معلوم
(1) قال ابن تيمية: «وأما العموم اللفظي فما أنكره أيضًا إمام ولا طائفة لها مذهب مستقر في العلم، ولا كان في القرون الثلاثة من ينكره.
وإنما حدث إنكاره بعد المائة الثانية وظهر بعد المائة الثالثة.
وأكبر سبب إنكاره إما من المجوزين للعفو من أهل السنة، أو من أهل المرجئة من ضاق عطنه لما ناظره الوعيدية بعموم آيات الوعيد وأحاديثه فاضطره ذلك إلى أن جحد العموم في اللغة والشرع، فكانوا فيما فروا إليه من هذا الجحد كالمستجير من الرمضاء بالنار» . "مجموع الفتاوى"(6 / 440، 441) ، وانظر (12/481 - 484) منه.
(2)
انظر: "قواطع الأدلة"(1/292) ، و"روضة الناظر"(2/123) ، و"مختصر ابن اللحام"(106) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/108) .
(3)
من الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن قدامة في: "الروضة"(2/129) فمن ذلك:
أ- لما نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} [النساء: 95] . قال ابن أم مكتوم: إني ضرير البصر فنزل: {غير أولى الضرر} [النساء: 95] . ففهم الضرير وغيره من عموم اللفظ. رواه البخاري (8/259) برقم (4592، 4593، 4594) .
ب- ولما نزل: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98] . قال ابن الزبعري: لأخصمن محمدًا. فقال له: قد عُبدت الملائكة والمسيح، أفيدخلون النار؟ فنزل:{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء: 101] . فعقل العموم ولم ينكر عليه حتى بين الله تعالى المراد من اللفظ. أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. انظر:"المستدرك"(2/385) .
جـ- ولما سمع عثمان بن مظعون قول لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل، قال له: كذبت إن نعيم الجنة لا يزول. انظر: "الإصابة"(2/457) .
فساده يقينًا (1) .
ثالثًا: أن صيغ العموم يحتاج إليها في كل لغة، واللغة موضوعة للإبانة عما في النفوس، والمتكلم يحتاج إلى البيان عن المسمى الخاص والعام، فمن البعيد جدًا أن يغفل جميع الخلق عن هذه الصيغ فلا يضعونها ولا يستعملونها مع الحاجة الشديدة إليها (2) .
(أما صيغ العموم التي تفيد العموم بوضع اللغة فهي خمسة أقسام (3) :
القسم الأول: كل اسم عرف بالألف واللام غير العهدية، وذلك يشمل أنواعًا ثلاثة:
أ- ألفاظ الجموع؛ كالمسلمين والمشركين.
ب- أسماء الأجناس؛ كالناس والحيوان.
جـ- لفظ الواحد؛ كالسارق والإنسان.
القسم الثاني: ما أضيف من هذه الأنواع الثلاثة المتقدمة في القسم الأول إلى معرفة، مثل: مال زيد، عبيد زيد.
القسم الثالث: أدوات الشرط، مثل:"من" للعاقل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، ومثل:"ما" لما لا يعقل: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} [البقرة: 197]، ومثل:"أي": «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» (4) ، وهذه الأدوات الثلاث تعم مطلقًا، سواء كان شروطًا، أو موصولات، أو استفهامية.
القسم الرابع: كل وجميع، كقوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185، العنكبوت: 57] .
القسم الخامس: النكرة في سياق النفي، كقوله تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] .
(1) انظر: "روضة الناظر"(2/132) .
(2)
انظر المصدر السابق (2/130) .
(3)
انظر المصدر السابق (2/123، 124) ، و"بدائع الفوائد"(4/2، 3) ، و"مذكرة الشنقيطي"(204 - 207) .
(4)
سبق تخريجه انظر (ص386) من هذا الكتاب.
(ومما يفيد العموم عرفًا لا وضعًا:
الخطاب الموجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ الأصل العموم والأسوة ما لم يرد دليل على التخصيص. ومن أجل ذلك فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم فيما يختلفون فيه من الأحكام (1) .
قال ابن تيمية: «ولهذا كان جمهور علماء الأمة على أن الله إذا أمره بأمر أو نهاه عن شيء كانت أمته أسوة له في ذلك، ما لم يقم دليل على اختصاصه بذلك» (2) .
(واختلف في دخول النساء في الخطاب العام (3) ؟
وتفصيل ذلك أن هذه المسألة لها طرفان متفق عليهما، وواسطة مختلف فيها.
فالطرف الأول: أن النساء يدخلن اتفاقًا في الخطاب العام الذي يشمل الرجال والنساء معًا، مثل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، وأدوات الشرط مثل:"من".
والطرف الثاني: أن النساء لا يدخلن اتفاقًا في لفظ الرجال ونحوه مما يختص بهم.
والواسطة المختلف فيها: الجموع المذكرة، الظاهرة والمضمرة، نحو:"المؤمنين"، "كلوا واشربوا".
وهذا الخلاف - عند التحقيق - يرجع إلى اللفظ؛ إذ الجميع متفقون على دخول النساء في عموم الأحكام الشرعية ما لم يرد في ذلك تخصيص، إلا أن البعض جعل دخولهن مستفادًا من لغة العرب لكونها تغلب المذكر على المؤنث في الخطاب، والبعض الآخر جعل دخولهن مستفادًا من عرف الشارع ومن الأدلة الدالة على استواء الفريقين في الأحكام.
(واختلف في دخول العبد في الخطاب العام (4) ؟
(1) انظر: "مجموع الفتاوى"(15/446، 14/273 - 275) ، و"زاد المعاد"(3/307) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/218، 221) ، و"مذكرة الشنقيطي"(210) .
(2)
"مجموع الفتاوى"(22/322) .
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى"(6/437 - 439) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/334) ، و"مذكرة الشنقيطي"(212) .
(4)
انظر: "روضة الناظر"(2/147، 148) ، و"مذكرة الشنقيطي"(211) .