الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
المرحلة الثانية:
تبدأ هذه المرحلة من أوائل القرن الخامس، وحتى نهاية القرن السابع على وجه التقريب، وقد برز في هذه المرحلة إمامان:
إمام أهل السنة في المشرق الخطيب البغدادي، صاحب كتاب "تاريخ بغداد".
وإمام أهل السنة في المغرب أبو عمر بن عبد البر (1) ، صاحب كتاب "التمهيد".
أما حافظ بغداد فقد صنف في أصول الفقه كتاب "الفقيه والمتفقه" الذي جعله نصيحة لأهل الحديث، ويُعد هذا الكتاب امتدادًا لكتاب الرسالة للشافعي، ثم إنه أضاف فيه قضايا جدلية ومباحث متعلقة بأدب الفقه، وسيأتي الكلام لاحقًا على هذا الكتاب (2) .
وأما حافظ الأندلس فقد صنف كتاب "جامع بيان العلم وفضله" استجابة لمن سأله عن معنى العلم، وعن تثبيت الحجاج بالعلم، وتبيين فساد القول في دين الله بغير فهم، وتحريم الحكم بغير حجة، وما الذي أجيز من الاحتجاج والجدل، وما الذي كره منه؟ وما الذي ذم من الرأي، وما حُمد منه؟ وما يجوز من التقليد، وما حرم منه؟ (3) فأجابه الشيخ إلى ما سأل قائلاً:
"ورغبتُ أن أقدم لك قبل هذا من آداب التعلم وما يلزم العالم والمتعلم التخلق به والمواظبة عليه، وكيف وجه الطلب، وما حُمد ومُدح فيه من الاجتهاد والنصب إلى سائر أنواع آداب التعلم والتعليم وفضل ذلك، وتلخيصه
(1) هو: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر، إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما، كان موفقًا في التأليف معانًا عليه ونفع الله به، له كتاب:"التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"، و"الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار"، و"الاستيعاب في أسماء الأصحاب"، توفي سنة (463هـ) . انظر:"الديباج المذهب"(357) ، و"شذرات الذهب"(3/314) .
(2)
انظر (51) من هذا الكتاب.
(3)
انظر: "جامع بيان العلم وفضله"(1/3) .
بابًا بابًا مما روي عن سلف هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين لتتبع هديهم، وتسلك سبيلهم وتعرف ما اعتمدوا عليه من ذلك مجتمعين أو مختلفين في المعنى منه، فأجبتك إلى ما رغبت
…
" (1) .
ومما مضى تبين أن الكتاب يبحث في موضوعين:
الأول: في فضل العلم وآداب أهله.
والثاني: في مباحث أصولية.
استغرق الموضوع الأول نصف الكتاب الأول تقريبًا.
وكان من أبرز المباحث الأصولية التي تكلم عليها في النصف الآخر من الكتاب.
* أصول العلم: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
* ما جاء في أن العلم هو ما كان مأخوذًا عن الصحابة، وما لم يؤخذ عنهم فليس بعلم.
* الاجتهاد والقياس.
* التقليد والاتباع.
* الفتوى.
* موضع السنة من الكتاب وبيانها له.
ويلاحظ: استفادة ابن عبد البر من مروياته الحديثية، ومن النقل عن أئمة المالكية (2) ، وحرصه على نقل ما عليه سلف الأمة، وهو يعقب -في الغالب- على ما يروي من آثار وأحاديث وعلى ما ينقل بقوله:"قال أبو عمر"، أو "قلت"(3) .
(1) انظر: "جامع بيان العلم وفضله"(1/3)
(2)
كالإمام مالك وأشهب وابن القاسم وابن وهب. انظر مثلاً (2/72، 73، 81، 88، 95) .
(3)
وقد يسر الله جمع آراء ابن عبد البر الأصولية في رسالة علمية قدمها الباحث العربي بن محمد فتوح بعنوان: "أصول الفقه عند ابن عبد البر جمعًا وتوثيقًا ودراسة"، حصل بها على درجة الماجستير من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة (1411هـ) .
وقد نقل ابن عبد البر من كتب الشافعي في مواضع (1) ، وعن محمد بن الحسن في مواضع (2) .
وفي الجملة فإن هذا الكتاب مليء بالآثار والنقول المسندة عن عدد كبير من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من بعدهم، ومشتمل على أقوال ثلة من أهل العلم المتقدمين. والكتاب بحاجة إلى دراسة حديثية لآثاره وأسانيده (3) ، وتنظيم طباعي، وتحقيق علمي لمباحثه الأصولية، ومقدمة دراسية عن المؤلف وكتابه، وفهارس دقيقة متنوعة.
وقد ظهر في هذه المرحلة أيضًا كتابان:
الأول: كتاب "تقويم الأدلة" لأبي زيد الدبوسي (4) .
والثاني: كتاب "المستصفى" للإمام الغزالي (5) .
وكلا هذين الكتابين يمثل اتجاهًا مستقلاً في أصول الفقه.
فالأول يقول عنه ابن خلدون (6) : "أما طريقة الحنفية فكتبوا فيها كثيرًا،
(1) انظر مثلاً (2/61، 72، 73، 74، 82) وقد نقل في مواضع عن المزني. انظر (2/83، 89) .
(2)
انظر مثلاً (2/26، 61) .
(3)
صدرت مؤخرًا طبعة جديدة بتحقيق أبي الأشبال الزهيري.
(4)
هو: عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي الحنفي، أبو زيد، كان أحد من يضرب به المثل في النظر واستخراج الحجج، وهو أول من أبرز علم الخلاف إلى الوجود، له كتاب:"الأسرار"، و"تقويم الأدلة"، و"الأمد الأقصى"، توفي سنة (430هـ) . انظر:"تاج التراجم"(192) ، و"شذرات الذهب"(3/345) .
(5)
هو: محمد بن محمد بن محمد الطوسي، أبو حامد الغزالي، حجة الإسلام وأعجوبة الزمان، صاحب التصانيف والذكاء المفرط، شيخ الشافعية، برع في علوم كثيرة، له كتاب:"إحياء علوم الدين"، و"المنخول"، و"البسيط"، و"الوسيط"، و"الوجيز"، توفي سنة (505هـ) . انظر:"سير أعلام النبلاء"(19/322) ، و"الأعلام (7/22) .
(6)
هو: عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن الحضرمي الأشبيلي المالكي، ولي الدين أبو زيد، ولي قضاء المالكية بالقاهرة ثم عزل، عالم أديب مؤرخ، له كتاب:"العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" المعروف بتاريخ ابن خلدون، وله "لباب المحصل في أصول الدين"، توفي سنة (808هـ) . انظر:"شذرات الذهب"(7/76) ، و"معجم المؤلفين"(5/188) .
وكان من أحسن كتابة فيها للمتقدمين تأليف أبي زيد الدبوسي" (1) .
وقال أيضًا: "وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم -أي الحنفية- فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه. وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده"(2) .
وأما الثاني وهو كتاب "المستصفى" فإنه يعتبر واسطة العقد في كتب المتكلمين الأصولية، فهو جامع لما سبقه من مؤلفات أصولية، وما بعده لا يخلو من الاستفادة منه، وبه اكتملت أركان علم الأصول، وفيه نضجت مباحثه وتمت مسائله (3) .
وقد أحسن أهل السنة التعامل مع هذين الكتابين المهمين، والاستفادة مما فيهما.
أما كتاب "تقويم الأدلة" للدبوسي فقد تصدى له أبو المظفر ابن السمعاني (4) في كتابه "قواطع الأدلة"(5) .
قال أبو المظفر في مقدمة هذا الكتاب:
"وما زلت طول أيامي أطالع تصانيف الأصحاب في هذا الباب وتصانيف غيرهم، فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهرٍ من الكلام، ورائقٍ من العبارة، ولم يداخل حقيقة الأصول على ما يوافق معاني الفقه.
(1) مقدمة "ابن خلدون"(361) .
(2)
المصدر السابق.
(3)
انظر ما سيأتي (ص54، 55) من هذا الكتاب.
(4)
هو: منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد، أبو المظفر السمعاني التميمي، الحنفي ثم الشافعي، من أعلام أهل السنة في عصره، له كتاب "التفسير"، وله في أصول الفقه كتاب "قواطع الأدلة" وله في الفقه كتاب "الاصطلام"، توفي سنة (489هـ) . انظر "طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (4/21) ، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (1/273) .
(5)
كتاب "قواطع الأدلة" قام بتحقيق بعضه الدكتور عبد الله الحكمي سنة (1407هـ) في مرحلة الدكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ثم طبع الكتاب كاملاً ونشر سنة (1419هـ) بتحقيق د. عبد الله الحكمي، ود. علي عباس الحكمي، وذلك في خمسة مجلدات.
ورأيت بعضهم قد أوغل وحلل وداخل، غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل، وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير، ولا نقير ولا قطمير....
فاستخرت الله تعالى عند ذلك، وعمدت إلى مجموع مختصر في أصول الفقه؛ أسلك فيه محض طريقة الفقهاء، من غير زيغ عنه ولا حيد ولا جنف ولا ميل، ولا أرضي بظاهر من الكلام، ومتكلف من العبارة، يهول على السامعين، ويسبي قلوب الأغتام (1) الجاهلين، لكن أقصد لباب اللب، وصفو الفطنة، وزبدة الفهم، وأنص على المعتمد عليه في كل مسألة، وأذكر من شبه المخالفين بما عوّلوا عليه.
وأخص ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي في "تقويم الأدلة" بالإيراد، وأتكلم عليه بما تزاح معه الشبهة، وينحل به الإشكال، بعون الله تعالى.
وأشير عند وصولي إلى المسائل المشتهرة بين الفريقين إلى بعض المسائل التي تتفرع عنها لتكون عونًا للناظر
…
" (2) .
وقد استفاد أبو المظفر من أبي زيد الدبوسي ونقل عنه عددًا من المباحث، وأورد عليه ورد عليه في مباحث أخرى (3) .
وكتاب "القواطع" امتاز بتوسطه بين طريقتين: طريقة الفقهاء، وطريقة المتكلمين.
فهو لم يجرد كتابه عن الفروع الفقهية، بل أورد فيه عددًا من المسائل الفقهية، كما أنه حرر المسائل وأصل القواعد على أدلة الكتاب والسنة وما عليه سلف هذه الأمة، وقد أكثر من النقل عن الإمام الشافعي خاصة (4) ، وعن غيره من أئمة أهل السنة.
(1) الأغتام: جمع أغتم، وهو الذي لا يفصح في كلامه. انظر:"لسان العرب"(12/433) .
(2)
"قواطع الدلة"(1/5 – 8) .
(3)
انظر مقدمة محقق القواطع: (1/73) .
(4)
انظر فهرس كتاب القواطع: (5/414 – 415) .
وقال ابن السبكي (1) عن هذا الكتاب:
"ولا أعرف في أصول الفقه أحسن من كتاب "القواطع" ولا أجمع، كما لا أعرف فيه أجل ولا أفحل من برهان إمام الحرمين (2) . فبينهما في الحسن عموم وخصوص"(3) .
أما كتاب "المستصفى" للغزالي فقد قام باختصاره وتهذيبه الإمام الموفق ابن قدامة وذلك في كتاب "روضة الناظر وجنة المناظر"، وسيأتي الكلام على ذلك لاحقًا (4) .
وخلاصة القول:
أن هذه المرحلة اتسمت بغزارة المادة الأصولية المبنية على الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة والتابعين، وذلك يمثله بوضوح كتاب ابن عبد البر وكتاب الخطيب البغدادي، كما أن هذه المرحلة تميزت بالاتجاه الحديثي المتمثل بذكر المرويات بأسانيدها، ولم يكن هذا الاتجاه قاصرًا على الرواية والتحديث بل انضم إلى ذلك الاستنباط والفهم، وإثبات القياس والاجتهاد، والدعوة إلى إعمال الرأي في حدود الشرع، والتحذير من التسرع في الفتيا وإصدار الأحكام، والتنبيه على فضل العلم وأدب أهله.
وكانت هذه المرحلة امتدادًا للمرحلة السابقة التي تمثلت في كتاب "الرسالة" للشافعي، فقد استفاد ابن عبد البر، والخطيب والبغدادي وابن السمعاني، استفادة مباشرة واضحة من آثار الشافعي. أما كتاب "الروضة" لابن قدامة فإنه يمثل نقلة
(1) هو: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي، تاج الدين أبو النصر، اشتغل بالقضاء، له مصنفات منها:"الإبهاج" وقد أكمله بعد أبيه، و"جمع الجوامع"، و"طبقات الشافعية الكبرى"، و"الوسطى"، و"الصغرى"، توفي سنة (771هـ) . انظر:"شذرات الذهب"(6/221) ، و"معجم المؤلفين"(6/225) .
(2)
هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله الجويني، أبو المعالي الملقب بإمام الحرمين، إذ جاور بمكة أربع سنين وبالمدينة، شيخ الشافعية في زمانه المجمع على إمامته وغزارة مادته وتفننه في العلوم من الأصول والفروع والأدب وغير ذلك، من تصانيفه:"الشامل"، و"التلخيص لكتاب التقريب للباقلاني"، توفي سنة (478هـ) . انظر:"سير أعلام النبلاء"(18/468) ، و"طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (3/249) .
(3)
"طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (4/24، 25) .
(4)
انظر ما سيأتي (ص 54) من هذا الكتاب.