الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
سعادة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
في دولة قطر
أحمد بن عبد الله المُرِّي
الحمد لله الذي جعل التفقُّه في الدين سبيل خيريَّة الأمة المسلمة، وطريق وَعْيها، ونهوضها، وتحقُّقها بالحَذَر والوقاية الحضارية، وحمايتها من الضلال، وجعل النُّفْرة للاجتهاد، والكسب الفقهي، من الفروض الكفائية على الأمة عامة، ومن الفروض العَيْنية على القادر عليها، المتخصِّص بها. فقال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1).
واعتبر النُّفْرة للاجتهاد، والتفقُّه في الدين، مقدَّمة على النُّفْرة للجهاد ومدافعة الظالمين، وحماية الأمة من تسلُّط الأعداء، حتى يأتيَ الجهاد على بصيرة، واضح المقصد، بيِّن الهدف، مُنْضبطًا بضوابط التشريع، بعيداً عن الانفجارات العشوائية، وهَدْر الطاقات، وشتات الأمر، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
(1) التوبة: 122.
أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
…
} (1)، وأولي الأمر هنا أهل الفقه في الدين.
والصلاة والسلام، على الرحمة المهداة، الذي كان المقصد من رسالته وشريعته، إلحاق الرحمة بالعالمين، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2)، الذي بَيَّن أنَّ خيريَّة الأمة المسلمة، إنما هي بسبب التفقُّه في الدين، وأنَّ استرداد هذه الخيريَّة اليوم، مَنُوط في الفقه في الدين فقال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"(أخرجه البخاري).
ذلك أنَّ الفقه في الدين، ومعرفة مقاصد التشريع، مؤشِّر الخيريَّة، وأن الكثير من الإصابات والهزائم والعجز عن النهوض، كان بسبب غياب الفقه الصحيح بالدين، والقعود عن النُّفْرة للتفقُّه في الدين.
ولقد أشار القرآن في مواضع كثيرة، إلى أن السقوط والهزيمة تتأتَّى من غياب الوعي، والفقه، بالمعنى العام. وكثيراً ما عَلَّلت الآياتُ، سبب الهزائم بوصف المهزومين بقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (3).
ونسارع إلى القول: بأن الفقه في الدين، لا يتحقق بحفظ الأحكام الشرعية فقط، فقد يكون هذا حَمْلًا للفقه، وليس فِقْهاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أفقَهُ مِنْهُ"(أخرجه الترمذي).
(1) النساء: 83.
(2)
الأنبياء: 107.
(3)
الحشر: 13.
ومن هنا ندرك بعض أبعاد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، بقوله:"اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ"(أخرجه الإمام أحمد)، فكان ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم حَبْرَ الأمة، بما وَعَى، وبما فَقُه، من إدراك العواقب، والمآلات، (وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) في ضوء سنن الله وأقداره الفاعلة في الحياة.
وبعد:
فهذه الطبعة الأولى من كتاب "مقاصد الشريعة" للإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله، بتحقيق فضيلة معالي الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، تضطلع بطباعته والإشراف عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، على نفقة حضرة صاحب السمو أمير دولة قطر الشيخ حَمَد بن خليفة آل ثاني حفظه الله ورعاه.
وقد لا نكون بحاجة للتدليل، على أهمية عِلْم مقاصد الشريعة، بالنسبة للمجتهد، بشكل خاص، والمسلم بشكل عام، يقول فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجمع الفقه الإسلامي، حفظه الله: "فهذا العلم الشريف يثمر فيما وُضِعَ له، معرفة غايات جنس الأحكام، وحِكَمَها، ومقاصِدَها ووظيفتها، وما تَهدي إليه، وتدلُّ عليه من حفظ نظام العالم، وتحقيق مصالح العباد في الدّارَين
…
وهذا العلم المتميِّز، هو أحد رُكْني علم أصول الفقه، الموضوع لدلالة الفقيه على معرفة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، من أدلَّتها التفصيلية، وكيفية الاستدلال بها" (1).
(1) تقديم الشيخ بكر أبو زيد لكتاب الموافقات للشاطبي رحمه الله.
ويقول الشيخ عبد الله دراز رحمه الله في بيان علم المقاصد: "وهذه الشريعة المعصومة، ليست تكاليفها موضوعة حيثما اتَّفق، لمجرد إدخال الناس تحت سلطة الدين، بل وُضعت لتحقيق مقاصد الشارع، في قيام مصالحهم في الدين والدنيا معاً، ورُوعي في كل حكم منها، حفظ الضروريات الخمس: (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال) التي هي أسس العمران المرعية في كل ملَّة، ولولاها لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة"(1).
ولعلَّ أول من أنضج منهجاً واضحاً، في علم مقاصد الشريعة، هو الإمام العالم الفذّ أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي رحمه الله المتوفَّى (790 هـ) في كتابه الموافقات، يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: إن الإمام الشاطبي رحمه الله هو: (الرجل الفذُّ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين)(2)، حتى لقد اعتبر الشيخ رشيد رضا رحمه الله أنَّ الشاطبي يُعَدُّ بكتاب - (الموافقات مقاصد الشريعة) - نظيراً لابن خلدون في المقدمة (3).
ولا يخفَى على الباحثين: بأن الامتداد بعلم المقاصد، ولمح آفاق جديدة ومقاصد جديدة، وتطبيقات معاصرة، لم يتحقق بالشكل المأمول، إلا من خلال بعض البحوث والرسائل الجامعية، التي قد تكون ساهمت باستدعاء الموضوع وطرحه، على ساحة الاجتهاد الفكري والفقهي، وجعل حَبْل التفكير موصولاً بهذا العلم المهم، الذي يضبط حركة الاجتهاد بمقاصدها وأهدافها، ويخرج بها عن أن
(1) مقدّمة كتاب الموافقات للشيخ مشهور بن حسن آل سلمان.
(2)
المرجع السابق نفسه.
(3)
المرجع السابق نفسه.
تكون قواعد تجريدية نظرية، هي أقرب للجدل، وعلم الكلام، منها للتمكين من أدوات تحقيق المقاصد الشرعية، حيث عجز الكثير من المشتغلين بها عن تعدِّيه تلك القواعد إلى الإتيان بمثال آخر، غير ما استدلَّ به الأقدمون. فالمثال الواحد يتكرر بتكرار التأليف، وعدد الكتب المؤلفة، دون القدرة على الإتيان بمثالٍ جديد، أو معاصر، مما يدلُّ على أن الحركة الفقهية تجمدت، وظلَّت تراوح مكانها بشكل أو بآخر.
ولعل كتاب: مقاصد الشريعة المحقَّق، الذي نضطلع بطباعته، يمكن أن يشكِّل نَقْلة نَوْعيَّة، ومَعْلَمة كبرى، ومنهجاً نضيجاً، في فقه المقاصد، خاصة وأن مؤلفه هو الإمام العالم المجدِّد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله، وأن محقِّقه هو فضيلة الشيخ الحبيب ابن الخوجة حفظه الله.
يقول الشيخ محمد الطاهر مبيناً عمله حيال مقاصد الشريعة: "فنحن إذا أردنا أن ندوِّن أصولاً قطعية، للتفقه في الدين، حقَّ علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه، المتعارفة، وأن نعيد ذوبَها في بوتقة التدوين، ونعيِّرها بمعيار النظر، والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة، التي عَلِقت بها، ثم نعيد صَوْغ ذلك العلم، وتسميته عِلْم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله، تُستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية (1).
أما الدافع إلى تأليف كتاب المقاصد، فيقول الشيخ: "الذي دعاني إلى صَرْف الهمَّة إليه، ما رأيت من عُسْر الاحتجاج، بين المختلفين، في مسائل الشريعة، إذ لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلَّة
(1) مقاصد الشريعة، للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، ص 22.
ضرورية، قريبة منها، يذعن إليها المكابر، ويهتدي بها المشتبه عليه" .. ففكرة الحدِّ من التشتت الفقهي كانت مسيطرة عليه، فإن منطلقه والغرض الذي رسمه لهذا العلم، هو أن يصل في مقاصد الشريعة، إلى تأسيس ما هو كلِّي عام، يكون كفيلاً عندما يتحاكم إليه الفقهاء، والأصوليون، بأن يقطع جدلَهم .. (1).
ولعلَّ جهود ابن عاشور رحمه الله الذي أفاد من كتاب الإمام الشاطبي في الموافقات اتجهت إلى الارتقاء بالمقاصد، ليصير علماً قائماً بحدِّ ذاته، تُنتخب مسائله من بين علم أصول الفقه، لتصبح أصولاً قطعية للتفقه .. والحقيقة العلمية التي لا مجال للتشكيك فيها، أن الكثير من أئمة الفقه والأصول، تكلَّموا عن المقاصد كجزء من علم الأصول، وأفردوا لها عناوين خاصَّة، وإن لم يُفْرد لها كتباً خاصة إلا القليل منهم، على أهمية ذلك وضرورته. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (المتوفَّى عام 728) عنايةٌ بالغة، ولَهَجٌ شديد بالكشف والبيان، عن مقاصد الشريعة، وإدارة الأحكام عليها.
ولعلَّ مما يلفت حقاً، أن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - لم يُسَلِّم بحَصْر الكلِّيَّات في الخمس المذكورة، في بحوث المقاصد، وإنما رأى أن الاجتهاد في المقاصد مفتوح، لكشف المزيد من مقاصد الشريعة، بحسب أولويات الاجتهاد، والاستدلال، لتنزيل الأحكام على واقع الناس.
وكم يتمنى الإنسان، أن يهيِّئ الله بعض الباحثين والدارسين
(1) انظر: مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة بين الشاطبي وابن عاشور للدكتور عبد المجيد النجار.
المجدِّين، لتتبع نظرية مقاصد الشريعة، عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على الرغم من معاصرته للشاطبي، ليقدِّم للمكتبة الفقهية نظرات خاصة، ومتميِّزة، لم يُسبق إليها شيخ الإسلام رحمه الله إضافة إلى تراث تلاميذه، وفي مقدمتهم العلامة ابن قيِّم الجوزية (المتوفى عام 751)، حيث جِماع المقاصد عنده:
"أنَّ الشريعة مبناها وأساسها، على الحِكم، ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورَحْمةٌ كلُّها، وحِكْمَةٌ كلُّها، فكل مسألة خرجت عن العَدْل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العَبَث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْلُ الله بين عباده، ورحمته بين خلقه .. فكل خير في الوجود، فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فبسبب من إضاعتها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله، هي قُطْب الفلاح والسعادة، في الدنيا والآخرة"(1).
وقد يكون من الأمور الجديرة بالذكر في هذه العُجالة، أن الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور كان فقيه ميدان، لم يكن يعيش بعيداً عن وَعْي الواقع، منصرفاً إلى أوراقه وبحوثه النظرية، والاكتفاء بالحديث عن خلود القِيَم الإسلامية، وعظمة الفقه الإسلامي، دون النظر في كيفية تنزيل الأحكام الشرعية على واقع الناس، وتقويم حياتهم بقِيَم الإسلام، في الكتاب والسنّة، والارتقاء بأدوات الاجتهاد، والتعامل مع النصوص التكليفية في الكتاب والسنّة، تفسيراً، وبياناً، واجتهاداً، وفق منهج علمي أصيل .. يظهر
(1) ج (3) ص (1).
ذلك بشكل واضح وجليّ في نشاطه وعمله العلمي، مدرِّساً، وقاضياً، ومفتياً، وشيخاً للجامعة الزيتونية، وتآليفه المتنوعة خاصة في التفسير، حيث يعد كتابه التحرير والتنوير مدرسة في التفسير قائمة بذاتها، بدأت من حيث انتهى المفسِّرون الذين سبقوه، إضافة إلى التأليف في الحديث ومصطلحه، ولعل من أبرز مؤلفاته فيه كشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، والنظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح، إضافة إلى الفقه والأصول، حيث يأتي كتاب مقاصد الشريعة في مقدّمتها، هذا عدا تآليفه في النقد، والأدب، والبلاغة، والسِّيَر، والتاريخ.
والمأمول أن يشكّل هذا الكتاب إضافة متميزة للمكتبة الفقهية، خاصة وأن مؤلِّفه عالم موسوعي فذٌّ، ومجتهد مجدِّد مُبْدع، وأن محقِّقه عالم محقِّق متمرِّس، يشكّل الاجتهاد والفقه مِحْور حياته وجلّ اهتمامه.
وأن يساهم بالارتقاء بتنمية المَلَكة الفقهية، وتأصيل أدوات الاجتهاد، وإغنائها، لتواكب الشريعةُ إيقاعَ العصر المتسارع، ويتحقق خلودها بالقدرة على الإنتاج في كل زمان ومكان، ويتحول الفقه الإسلامي إلى مواقع الريادة والسبق، لحركة المجتمع، وبيان حكم الله في النوازل الواقعة والمتوقعة.
سائلين الله أن يكتبَ له القبول، ويجعل عملنا خالصاً لوجهه، ويجعله من العلم الذي يُنتفع به، مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذَا مَاتَ الإنْسانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(أخرجه مسلم)، ويجزي مؤلفه ومحققه خير الجزاء، إنه نعم المسؤول.