الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تبلغ به مرتبة الحسن أو الصحّة. لكن هذا، عند التسليم به، ليس محتملاً إلا في الحديث الخفيف ضعفه. أما ما نحن فيه فهو موضوع أو شديد الضعف، فلا تكسبه المتابعات قوّة. ويتعيّن أن يخضع للقواعد كما ذكر ذلك النووي وابن الصلاح.
ومن هذا العرض لمحتوى الرسالة العاشورية يخلص الإمام الأكبر إلى نتيجة البحث بقوله:
"إن حال أسانيد هذا الحديث يمنع من إدخاله في حقيقة الصحيح وحقيقة الحسن، لفقدان شروطهما فيه، فيدور أمره بين الضعف والوضع"(1).
4 - حديث أولية خلق النور المحمدي:
عن جابر بن عبد الله قال: قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء، قال: "يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله. ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جن ولا إنس. فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء. فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أقسام. فخلق من الأول حملة العرش. ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء. فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار. ثم قسم الرابع أربعة أجزاء. فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. تحقيقات وأنظار: 79 - 84.
نور قلوبهم وهو المعرفة بالله، ومن الثالث نور أنسهم، وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله". اهـ.
وطّأ شيخنا رحمه الله للكتابة في هذا الحديث بذكر أمرين:
أولهما: أن مجلة هدي الإسلام رغبت منه تحرير القول في هذا الحديث. وأنه لولا سبق الناس إلى بيان الرأي فيه لحسن التخلّي عن ذلك، لأن الأجدر بأهل العلم الاهتمام بتمحيص ما ينبني عليه عمل نجيح أو اعتقاد صحيح، وتوفير الوقت النفيس لما هو أولى بالعناية والبحث للحاجة إليه.
وثانيهما: التنبيه على أن قدر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو القدر المنيف، في غنية عن إمداده بحديث صحيح أو ضعيف، لكن تميّز هذه الأمة بالإسناد لحفظ الأصول والروايات، حمل في كل زمن العلماء على نقد الآثار التي بها مغمز، كشفاً للحقيقة، وصرفاً للألباب والأنظار عما يوقع الناس في الخطأ والوهم.
وحديث جابر بن عبد الله هذا في أولية خلق النور النبوي من رواية عبد الرزاق في مصنفه أورده صاحب المواهب اللدنية من غير ذكر من رووه عن عبد الرزاق. وبإزائه روايتان أخريان مخالفتان متقاربتان للبيهقي، أوردهما سليمان بن سبع السبتي في كتابه شفاء الصدور.
وبعد مقارنة سريعة بين هذه الرواية ترجم الإمام لعبد الرزاق بن همام الصنعاني. وذكر أنه أخذ عن أئمة أهل السنة، وأخرج له البخاري. وأنه عمي في آخر عمره وهو ثقة إمام، غير أنه بعد أن كف بصره انتحل التشيّع. فحمله ذلك على أن يروي عن الضعفاء مثل جعفر بن سليمان الضبعي. كما روى عنه أبو جعفر من الضعفاء وهو ملموز بالكذب، وأبو الأزهر النيسابوري.
وفي بيان مرتبة هذا الحديث قال: هو غير معروف عن الحفاظ، لم يروِه أهل الصحيح ولا أصحاب السير المقبولة مثل ابن إسحاق والحلبي، ولا ذكره عياض في الشفاء لكونه غير مقبول عنده، ولا السيوطي في جمع الجوامع، ولا في كتاب الخصائص له. وبناء على ما تقدم يكون عبد الرزاق قد رواه عن الضعفاء في آخر عمره. أو كذبه عنه المتساهلون والضعفاء. وهذا هو حكم رواية البيهقي له أيضاً. فإنه كان متساهلاً في أحاديث دلائل النبوة وفضائل الأعمال. وإذا كان ابن سبع قد ذكره في شفاء الصدور. فإن كتابه هذا يشتمل على المقبول والمردود. وخلاصة القول فيه أنه مجهول السند: لا ندري من رواه عن عبد الرزاق، ولا من روى عنه عبد الرزاق فيما بينه وبين جابر. فهو لذلك غير صحيح ولا حسن لعدم معرفة رواية مصدره، وإنما هو متردد بين أن يكون ضعيفاً أو موضوعاً.
ولم يقف شيخنا رحمه الله عند هذا الحد من ضبط صحة الحديث، فذكر أحواله من حيث الرواية والسند، بل تجاوز ذلك إلى نقد متنه من جهتي اللفظ والمعنى. فهو يرى أنه من جهة النظم ضعيف لا يناسب أن يكون لفظ أفصح العرب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نبّه ابن الصلاح في أصول علم الحديث على أن أحاديث طويلة وضعت، تدل على وضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها. فقوله فيه:"فجعل ذلك النور يدور بالقدرة" حشو من الكلام، وقوله:"ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا .. ولا .. " تطويل ثقيل تنزَّه عنه البلاغة النبوية.
وأما من جهة المعنى فهو مردود من خمسة وجوه:
الأول: أن كل خبر أَوْهَمَ معنى باطلاً، ولم يقبل التأويل فهو
مكذوب. قاله علماء أصول الحديث وأصول الفقه. وهذا الحديث جمع بين طول اللفظ وطول المعنى وقلة الجدوى.
الثاني: أن هذا الحديث معارض بما ثبت في الصحيح عن عبادة بن الصامت وأبيّ بن كعب بقوله صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله القلم" أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داود. وهذا التعارض يلزم فيه التصديق بأحدهما وإبطال معنى الآخر. فلا يمكن الجمع إلا بتأويل. وإنما يصار في مثل هذا إلى الترجيح.
الثالث: أن حديث جابر جعل نور أبصار المؤمنين مخلوقاً من الجزء الأول من الرابع مع أن أبصار المؤمنين ليست لها خصوصية في الإبصار على أبصار سائر الناس.
الرابع: قوله: "أول ما خلق الله نور نبيك". الظاهر أن هذه الإضافة غير حقيقية فلا تصحّ، إذ المراد من النور هو الحقيقة المحمدية. وخلق الخلق من هذا النور يقتضي إما دخول نقصان عليها بعد خلقها، وإما كون المخلوقات التي اشتقت منها أجزاء لها. فتصبح الحقيقة المحمّدية كلًّا له أجزاء. وهذا معنى سخيف. وقد تضمَّن هذا الحديث الإشارة إلى أن القلم واللوح والعرش والملائكة والسماوات والأرضين معتبرة قبل الحقيقة المحمدية في التجزئة من ذلك النور. وهذا يعود إلى الغرض من هذا الحديث بالنقض، لأنه يبطل المقصود من التعريف بكون الحقيقة المحمدية أفضلَ في سبق الخلق.
الخامس: يلاحظ في هذا الحديث خلط في ترتيب المخلوقات من هذا النور، لأن بعضها من الذوات كالقلم. وبعضها من الأجناس كالملائكة، وبعضها من المعاني كالمعرفة بالله وتوحيده. وهذه