الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علم التاريخ
بدأ الشيخ ابن عاشور حديثه عن هذا العلم بحصر موضع نظره وبحثه. فحرص على تحديد موضوع درسه ببيان أن المراد بالتاريخ ما ألفت فيه الكتب العربية، وهل كانت دراسة هذا العلم في جامع الزيتونة وبين طلابه إلا بالنظر والوقوف عليها وحدها دون غيرها من المصادر.
ومن هذا الإطار الذي حصر فيه المادة التي عني ببحثها ونقدها، ومن التجارب التي مرّ بها، والحقائق التي وقف عليها من خلال دراساته الكثيرة ومطالعاته الواسعة، اتجه في كلمته هذه الوجيزة عن علم التاريخ إلى أربع نقاط هي: طبيعة علم التاريخ، ومصادر التاريخ عند العرب، وأسباب ضعف علم التاريخ لديهم، والمنهج الجديد المقترح للإفادة من هذا العلم أكمل إفادة.
فإذا كان علم التاريخ كما وصفوه، عبارة عن معرفة أحوال الأمم والطوائف، وبلدانهم، ورسومهم، وعاداتهم، وصنائع أشخاصهم، وأنسابهم ووفياتهم ونحو ذلك، وكان موضوعه أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والحكماء والملوك والشعراء وغيرهم (1)، فإن ذلك يعدّ من الفطرة، لأن حديث الناس بما وقع أو
(1) صديق بن حسن القنوجي. أبجد العلوم: 2/ 137.
جرى لهم سنة آدمية. وقد بدأ تدوينه مع عصر النهضة حين أحسّ الناس بالحاجة الأكيدة إلى وزان مستقبلهم بماضيهم.
وقد تجلّى هذا الأمر عند العرب من أقدم العصور في أشعارها. فهي ديوانها ومجتلى أخبارها ومفاخرها ومحامدها. ثم برزت حقائق التاريخ ووقائعه وأحداثه في ما تضمنه القرآن الكريم من قصص الأمم الخالية والشعوب الماضية. وألّفت بعد ذلك أنواع من كتب التاريخ كالسير والتراجم أو المصنفات، مثل سيرة ابن هشام وتاريخ البخاري، وسجَلت حوادث الإسلام كما فعل الطبري في تاريخه، ودوّنت أحداث السياسة والوقائع كما في تاريخ المسعودي، وإن اقتصر صاحبه على سرد الوقائع، عَرِيًّا عن النظر في الغاية المقصودة وهي الاستعانة به في السياسة. وهنا يعتذر الشيخ رحمه الله لهذا المؤرخ عن تقصيره في هذا الجانب.
وأسباب ضعف علم التاريخ كما يراها المؤلف هي:
أولاً: إن المسلمين أَجِدَّاء في السياسة إذ لم يكن للعرب من قبل ملك. والسياسة إنما هي خلاصة التجارب المتولّدة عن معالجة أحوال الدول والحروب.
ثانياً: نسجه من الأساطير القديمة المعروفة بالميتولوجيا. وهي في غالبها متخيّلة بعيدة عن الواقع، مشحونة بالأغاليط والمبالغات. فلا تذكر أو تروى من أجل تصوير الماضي على حقيقته، ولكنه التفكُّه والأدب.
ثالثاً: سيطرة الوهم القديم على العقول بصرفها عن العناية بعلم التاريخ لخلوّه من المسائل الكليّة أي القواعد. وقد وقَر في نفوسهم أن ما خلا من القواعد ليس علماً ولا طائل من دراسته.
رابعاً: ما يغلب على كثير من المؤرخين من تعصّبات وأغراض تحجب عنهم الحقائق مهما كانت جلية، وما ينتصبون له من المفاضلة والحكم على الأشياء دون موضوعية أو تجرّد. وهذا ما وصمت به جملة من كتب التاريخ، فلم يؤخذ بها ولا اعتمد عليها لبُعدها عن الحقيقة والإنصاف. ولم تسلم من ذلك سوى مصنّفات قليلة عرف أصحابها بالتحرّي والنقد وصحة النقول والروايات. وهذه مثل تاريخ محمد بن جرير الطبري، وتاريخ ابن الأثير الجزري، وتاريخ ابن خلدون.
خامساً: التساهل في رواية الأخبار مع سوء المآخذ وفساد الاستنتاج، كما هو شأن مؤرخي عصرنا في الشرق. ولاجتناب هذه الطريقة وما يترتّب عليها من مساوىء وأخطاء يوصي المؤلف المؤرخين بأن يحتاطوا للأمر بالاستناد إلى ما دلّت عليه الآثار كآثار المصريين، وإن كانت هي الأخرى لم تخلُ من مبالغات، أو باعتماد كتب الماضين المتقدمين مثل مؤرخ اليونان (بلوتارك)، ومؤرخ الرومان (حانون القرطاجني)، أو باستمداد التاريخ من الاستنتاجات الصحيحة الواضحة، لأن الغرض من علم التاريخ هو الاعتبار بأسباب نجاح الدول والأمم وبأسباب خيبتها، ولا يحصل ذلك إلا بسلامة الاستمداد وصحة المصادر.
ثم يحذّر الشيخ في نهاية ذكر السبب الخامس، المؤرِّخَ ويوصيه بأن لا تشتبه أو تختلط عليه الأحوال المقارنة للأفعال، فيظنها سبب نجاح الفعل أو خيبته، فإن الاشتباه خطر عظيم.
وحين تتبيّن عوائق التقدّم بعلم التاريخ يدعونا المؤلف إلى منهج جديد، هو تجريد هذا العلم عما يملأ حوافظ التلامذة من ذكر