الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - السيد جمال الدين الأفغاني
هو السيد جمال الدين 1254/ 1838 - 1315/ 1897 الأفغاني الأرومة، الشريف النسب، المنحدر من العترة النبوية الطاهرة، فقد كان كما قال أمير البيان: سيّدَ النابغين الحكماء، وأميرَ الخطباء والبلغاء، وداهيةً من أعظم الدهاة، دامغَ الحجة، قاطعَ البرهان، ثَبْت الجَنان، متوقّد العزم، شديد المهابة. وكانت سيرته كبيرة. وبلغ من علو المنزلة في المسلمين ما قلّ أن يبلغ مثلَه سواه (1).
وهو رجلُ سياسةٍ تولّى رئاسة الوزارة في بلده في ظل الأمير محمد أعظم، وذهب إلى الآستانة بدعوة من السلطان عبد العزيز الذي عيّنه عضواً في مجلس المعارف. واستقبله الخديوي إسماعيل بمصر، وتوجّه إلى إيران بدعوة من الشاه ناصر الدين. وكان آخر مطافه الآستانة لمّا استدعاه السلطان عبد الحميد الثاني للإقامة بها.
وهو فيما بين هذه الخطط والوظائف التي تقلّب فيها، وباشرها من قريب، قد خَبَر أحوال المجتمعات الإسلامية، واستَكْنَهَ أسرارَ دُولِها وشعوبها، وتنقَّل هنا وهناك بين أقطار العالم الإسلامي وغربي البلاد الأوروبية، ناقداً ثائراً، داعياً وموجهاً، مكتسحاً بآرائه وأقواله كل الطبقات والأوساط، مستفزّاً للطغاة. فكان - كما نعته خلطاؤه - رجلَ الأمل واليأس، والثورة والهدأة، ورجل الواقع والحُلم، يحمل
(1) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: (1) 1/ 305.
في أفكاره ونشاطاته بذور اليقظة والنهضة بما كشف عنه من مواقف، ودلّ عليه من نزعات. وقد عرّض به ذلك إلى غضب خُصومِه، من أصحاب الانقلاب بأفغانستان، وغضبِ الخديوي توفيق بمصر، والشاه بإيران، والإنجليز بالهند. وكان بعدَ ذلك مستهدَفاً لكل الأنظمة الجائرة في بلاد الإسلام قاطبة، لكونه زعيم المسلمين وداعية من أكبر دعاة الحرية.
وكانت مجلة العروة الوثقى، التي تولّى إصدارها بمشاركة محمد عبده له بباريس، الصحيفة الذائعة، الناشرة لآرائه، والداعية إلى نهضة العالم الإسلامي واتحاده، وإلى الثورة على الاستعمار أين كان. وقد سارت على نهج العروة الوثقى مجلة ضياء الخافقين التي كانت تصدر عنه باللغة العربية والإنجليزية أيام إقامته ببريطانيا.
أيقن السيد جمال الدين الأفغاني بتسلّط القوى الاستعمارية، وحِقدها وتهديدها لدولة الخلافة، ولسائر البلاد الإسلامية والعربية. وكان أولَ من آمن بسيطرة الغرب على الشرق الإسلامي، وكانت نظرتُه متفحّصة، دقيقة وواقعية، فتمثل عواقب ذلك فيما إذا طال عهدها وامتد سلطانها، وأدرك شؤم المستقبل وما سينزل بساحة الإسلام والمسلمين من النوائب الكبرى إذا هم رضوا بالمهانة وسكتوا عن الظلم. ودَفَعَه إيمانه بالقضية الإسلامية إلى تحريك العقول وإلهاب العواطف، والتأكيد على مراجعة النفوس وعلاجها وتنقيتها من أسباب الضعف والوهن، وتوجيهِها إلى أسباب القوة، معلناً بين أنصاره:"إنه متى ضعف ما كان سبباً في الصعود يحصل الهبوط والانحطاط، وإنه متى زال ما كان سبباً للسقوط يحصل الصعود"(1).
(1) جدعان. الحياة الفكرية للعالم الإسلامي: 153 - 154.
وهو لذلك يحذّر الشعوب العربية الإسلامية مما تردّت فيه من الانقسام والتفرّق.
وحين يذكّر بما سبق لابن خلدون أن قرَّره من أنّ القوة في الدولة بالعصبية، تتحقّق بقيامها وتتأكّد بالحفاظ عليها، ينظر إلى المجتمعات الإسلامية، وقد اختلفت ديارها وتباينت أقطارها، وتعدّدت أجناسها وألسنتها، فيركز دعوته على مقوّمين أساسيين آخرين هما: الدين والاتحاد.
فالدين لديه هو طريق السعادة وحقيقة المدنية. والتمدن الحقيقي مكافىء له تمام المكافأة، يتيح للإنسان الارتقاء فوق مراتب البهيمية، كما يسمح ببناء نظام اجتماعي متماسك متَّحد، يسعى لخير المجموع وسعادته داخل التجمع البشري الخاص والعام. ومن أجل هذا نرى السيد جمال الدين الأفغاني يهيب بالمجتمع الإسلامي إلى التمسك بدينه والحفاظ عليه وصيانته من التغيير والتلفيق، وما يتبع ذلك من الأوهام والشعوذات. وقد استمرت دعوته هذه قاعدة مُلهِمة لمعظم الحركات الدينية الإسلامية التي ظهرت في العالم الإسلامي حتى الحرب العالمية الأولى.
والمقوّم الأساسي الثاني هو الاتحاد. فالاتحاد ضرورة للدول العربية والإسلامية. وهو الشعور بالترابط الجذري بينهم، وبالعروة الوثقى التي لا انفصام لها بَين جميع المؤمنين في أطراف العالم. وهو الطريق لرأب الصدع، وجمع الشمل، ودعم الصفّ، وتعزيز المواجهة لكل عدوان. وهكذا نجد الأفغاني يدعو - في واقع الأمر - إلى اتحادين:
اتحاد ترتفع به الأمة الإسلامية متميّزة بأخلاقها ومنهجها وسلوكها وتضامن شعوبها ودولها، تقيم على أسُسه القطعيّةِ والثابتةِ هياكلَ مجتمعاتها وصرحَ جامعتها.
واتحاد دفاعي يَحمل عليه اعتقاد الأفغاني من زمن مبكّر أن جميع الشعوب النصرانية مجمعة ومتّفقة على عداء الإسلام، تأثراً منها بالروح الصليبية. وروح العداء هذه متمثّلة في جهد جميع هذه الشعوب جهداً خفياً مستتراً متوالياً من أجل سحق الإسلام سحقاً.
وهو بعد أن يمضي في تفصيل تلك العداوة ومستلحقاتها، وما يترتب عليها، يقول مصوراً المنهج والسبيل لتحويل المجتمعات الإسلامية عما انتابها وحلّ بها:"وفي جميع هذا يوضح أن العالم الإسلامي يجب عليه أن يتّحد اتحاداً دفاعياً عاماً مستمسك الأطراف وثيق العرى، ليستطيع الذود عن كيانه، ووقاية نفسه من الفناء المهدِّد. وللوصول إلى هذه الغاية الكبرى يجب عليه اكتناه أسباب تقدم الغرب والوقوف على تفوّقه وقدرته"(1).
وهكذا أعلن جمال الدين عن سياسته الثورية ضدَّ كل أسباب التخلّف، وضدَّ القوات الاستعمارية المغتصبة التي أصبحت الآمرة الناهية والمتصرّفة، بل المستبدّة بكل شؤون البلاد الإسلامية: تحكمُها بهواها، وتسيّرها وفق مصالحها وغاياتها. وما انتشرت آراؤه وكلماته هذه حتى تحوّلت دستوراً يخضع له كل أنصاره ومريديه. وترتبت عليه اتجاهات ثلاثة في العمل الوطني المصري:
• الاتجاه الثوري الذي يمثله الضباط المصريون الواقعون تحت سيطرة الضباط الشراكسة، ويتزعّمه أحمد عرابي، وعبد العال حلمي، وعلي فهمي، ومحمد عبيد وأمثالهم.
• الاتجاه الثوري الذي يؤمن بالشعب وقواه وطبقاته الكادحة،
(1) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: 1/ 306 - 307.
ويعتمد في حركته على العامة والجماهير. وهو الذي تولّى قيادته عبد الله النديم، ومَنْ خَلْفه من المؤيدين والموالين له.
• الاتجاه الثالث وهو اتجاه إصلاحي أكثر منه ثوري. يقوم على التربية والتعليم والاستنارة الفكرية. وهو الذي تقمّصه الشيخ محمد عبده، وعبّر عنه في مقالاته الإصلاحية التي نشرها في الوقائع المصرية. وكان من مناصريه: سلطان باشا، وسليمان أباظة، وسعد زغلول، وعبد الكريم سلمان، ومحمد خليل، وغيرهم (1).
وقد كان من الطبيعي ظهور هذه الاتجاهات كلها .. وهي وإن اختلفت شكلاً فإنها كانت متضامنة يخدم كل اتجاه منها، حسب الظروف التي مرّ بها والخطة التي وضعها، المصلحة العليا للوطن التي تقتضي حشد كل الطاقات والجهود.
* * *
(1) محمد عمارة. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: 1/ 42 - 43.