الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إمعانهم في استنزاف قوى الشعوب الضعيفة والمواجِهة لها، ارتفاع صوتِ محرري الأوطان يصدع بقول الشاعر:
فقلت لمحرز لما التقينا
…
تنكّب لا يقطرك الزحام
وكان من أثر الأحداث الخطيرة قيامُ دعاة الإصلاح والتجديد بالمشرقين الإسلامي والعربي. وامتدت هذه الحركة إلى البلاد التونسية، فعرفت من رواد النهضة والإصلاح بها، السيدَ خير الدين التونسي ولاءً، والمُؤَرخ القدير ابنَ أبي الضياف، وناظرَ المدرسة الحربية محمود قابادو، والعلامة المصلح الشهير الشيخ سالم بوحاجب.
وتُمثِّل التحرّك الفكري النهضوي في المرحلة الثانية في الجزائر جمعية العلماء المسلمين، كما ظهر في المغرب العربي أحد طلائع الفكر الإسلامي، وفي مرحلة ثالثة ظهرت ثلة من رجال الفكر والبيان بالشام والعراق.
وتلا هؤلاء وأولئك عدد من شيوخ الزيتونة وعلمائها، من رجال السياسة وأعضاء الحكومة وخيرة من رجال الإصلاح.
وإنه لمن الطبيعي أن نخلصَ من هذا العرض على أهميته، إلى موضوع كتابنا هذا، وهو الحديث عن رجل العلم والإصلاح الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الحفيد.
ب - الأسرة العاشورية:
ينحدر الإمام الأكبر من أرقى الأسر منزلة، وأعلاها شأناً. درج فيها عنوانَ نجابة وسمو، تكتنفه مخائل النعمة والرعاية، ومظاهر الحب والعناية من والده الشيخ محمد ابن عاشور، ومن جده للأم الوزير العلامة محمد العزيز بوعتور. تلقّى مترجمنا معارفه الابتدائية
بالمنزل بنهج الباشا من مدينة تونس، وبكتّاب سيدي بوحديد الواقع بجوار منزله. وبه حفظ القرآن الكريم حفظاً دقيقاً، وأتقنه طوال عمره قراءة وتدبّراً. وتعلم اللغة الفرنسية ببيته، ووُكل أمرُه في هذا إلى حاذق من حذاق اللسان الفرنسي من المواطنين.
أما انتاسبه للتعليم فقد كان أساساً إلى جامع الزيتونة الأعظم. به نال شرف التعلّم والتعليم للمواد اللغوية والشرعية. وتنقل بين حلقاته، جالساً إلى أشياخه أطواد العلم، مرتقياً عن طريقهم بين مراتب الدراسة، حاصلاً منهم على شهاداتِهم له بالقراءة عليهم، لكثير من العلوم التي كان يزاولها الطلاب في عهده، وعلى شهادة التطويع التي تخوّل صاحبها، في ذلك الوقت، حقّ التدريس في الدرجات الأولى من التعليم بالمعهد. ومما حَظِي به رحمه الله الإجازات العلمية الجامعة، التي نخصّ منها بالذكر إجازته في الحديث النبوي الشريف، كتبها له بيده بدفتر شهادات دروسه شيخ الإسلام شيخه وشيخ شيوخه الشيخ سالم بوحاجب. فسمع منه، وأخذ عنه، وكان به حفياً.
وقضى الإمام الأكبر حياتَه في جهاد وعطاء. وبذل ما شاء الله له أن يبذل من جهود في مجال التعليم والتدريس. فهو الأستاذ القادر، والمحقق اللامع، يزدحم الطلاب على حلقة درسه. وكان أرقى العلوم لديه هو ما كان يوليه عناية خاصة بممارسته الدائمة له، سواء في ذلك ما كان من علوم المقاصد أو من علوم الوسائل. وهذا ما نوّه به طلبته، وعرَفَهُ منه أقرانه. كان مولعاً بالدروس التي يلقيها بالجامع الأعظم، يرفع بها السجف عن أسرار البيان، ويمكّن طلابه بسهولة من فوائد وفرائد غاص عليها هو، في مصادر البحث ومراجعه. وربما كانت بإشارة شاردة، تَلْفِتُ الأنظار العلمية الدقيقة
إلى ما فيها من علم غزير ومعارف دقيقة. وممّا أكّد هذه الصفات لدى الإمام، حتى كادت أن تكون غريزيّة أو ذاتية فيه، حُبه للمطالعة وإقباله الشديدُ عليها، وحفظُه السريع لما تشتمل عليه الكتب والرسائل التي كان يلتهمها التهاماً.
تولّى عضوية لجنة فهرست الكتب بالجامع الأعظم، وعُهدت إليه رئاستها. ووقف على أكثر المخطوطات به مطالعةً، وتوقيفاً، وتحشيةً وتعليقاً، بخط جميل يزري بخط الأصل منها، فيزداد بذلك الكتاب نفعاً للواقفين عليه. وهو بدون شك يفضل النسخ الأخرى العريّة مما حبّره الشيخ بقلمه من ضبط أو إصلاح. وكانت بالجامع الأعظم مكتبتان: الأولى الأحمدية، من إنشاء المشير أحمد باشا الأول، والثانية الصادقية أسسهما المشير محمد الصادق باشا باي.
أما الوظائف الإدارية السامية التي تولّاها الإمام الأكبر فهي - بخارج ميدانه العلمي والقضائي - رئاستُه للجمعية الخلدونية، وتولّيه مشيخة الجامع الأعظم الذي عاش له دهراً طويلاً من حياته. ومن خلال ذلك ظهر دوره الإصلاحي للتعليم بالزيتونة. وتجتمع وظائفه العلمية والشرعية في التدريس الذي بلغ فيه الذروة، لا ينازعه في ذلك أحد، لرسوخ قدمه، ودقيق ملاحظاته، وقمة بيانه وعلمه. وسُمعتِه العلمية والأدبية. وذلك ما رشَّحه ليكون عضواً مراسلاً للمجمع اللغوي بالقاهرة، وللمجمع العلمي بدمشق.
وولِيَ إلى جانب ذلك الرئاسات الشرعية والقضائية؛ من عضو بالمجلس المختلط، ومفتٍ، وقاضٍ، وشيخِ إسلام رئيسٍ للمجلس الشرعي المالكي.
ولا غرو أن يبلغ هذا الشأو البعيدَ من المعرفة والدرس والعلم