الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى أساس الخلافات بين رواد فلسفة الاعتقاد عند اليونان انتشرت أفكارهُم واتجاهاتُهم الفلسفية النظرية، مُتسربة إلى العرب قبل الإسلام، متميّزة ومفارقة للمنهج الديني الرباني الذي كان سائداً في أواخر عهد الصحابة لظهور الطوائف أو الفرق التي كان منها نفاة القدر. وقام النزاع على أشدّه بين السنة والمعتزلة يتقدم أولئك الحسن البصري حامي حمى العقيدة الإسلامية، ويتقدَّم أصحاب هذه الفرية معبدُ الجهني وغيلانُ الدمشقي ويونسُ الأسواري.
العقيدة الإسلامية ومدارس علم الكلام
وهكذا اختلطت بين الخاصة والعامة في بلاد الخلافة المذاهب العقدية السليمة الصافية المستمدة من الذكر الحكيم ومن السنّة الصحيحة النبوية بآراء الفلاسفة وأصحاب النِّحل، فلزم أن ينتصب للردّ عليها عدد من المتكلمين العارفين بالسنّة، والقادرين على إبطال تلك الفلسفات من سنة ومعتزلة وغيرها. وافترقت الأمة بعد ذلك أربع فرق:
الأولى: التي رفضت البحث والفلسفة. وتمسكت بظواهر الشريعة مثل السلف والمالكية والحنابلة والظاهرية وغيرهم.
الثانية: رفضت الشريعة معتمدة مقالات الفلاسفة والأخذَ بها، وهم الملاحدة.
الثالثة: طائفة أوّلت الشريعة وطوّعتها لموافقة الفلسفة كالباطنية والحكماء.
الرابعة: طائفة مقابلة لها أوّلت الفلسفة وطوّعتها لتوافق الشريعة. ومن هؤلاء الأشعرية والماتريدية والمعتزلة والشيعة.
ومن هذه الصورة المختصرة جداً، التي تشي بالغليان الفكري الذي أوجده اختلاف الملل والنحل في ذلك الوقت، وبما كان لرؤساء هذه الفرق من تأثير بالغ في كثير من الأوساط الشعبية التي تنازعتها نماذجُ مذاهب الباحثين في الكلام والعقيدة.
أولها: مذهب أهل السنة، من سلفية وخلَفية، الذي يقوم على المصادر الأساسية الإسلامية التي ألمعنا إليها قبل. وأصحاب هذا الاتجاه هم الصحابة والتابعون وتابعوهم ومن نهج منهجهم بعد ذلك من أهل الحديث ومتقدمي الفقهاء والحنابلة والظاهرية.
ثانيها: مذهب المكفِّرين بالكبائر. وهم الخوارج. وخالفتهم المعتزلة وهم فلاسفةُ المتكلمين القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، والذين كانوا حريصين على إثبات العقائد بالأدلة البرهانية، وأفرطوا في ذلك.
ثالثها: مذهب القائلين بالقَدَر والجبر. وقد انساق وراءهم جمهور المتصوّفة الذين زيّنوا للعامة مقالاتهم.
وتوسَّطت بين هذه الفرق فرقة رابعة كان منزعها تأييد مذهبها الشرعي بالفلسفة. وقامت مدرسة هؤلاء على الأشعرية والماتريدية فتعرضوا لسخط السلفيين الذين اعتبروهم من المرجئة، ولغضب المعتزلة الذين اتهموهم بالجبرية. ولإقبال أكثر هذه الفرق على الفلسفة وآلتها وهي المنطق، تعرّضوا لنقد كبار العلماء ممن ذموا الفلسفة منذ القديم لزلزلتها أصول الإيمان الفطري والأدلة الإقناعية، كما لقوا من خصوم آلة المنطق التي استخدمها الفلاسفة مَن أوسَعهم ذماً كالإمام الشافعي الذي يقول:"إذا سمعت أحداً يقول: هل الاسم عين المسمّى أو غيره؟ فاعلم أنه من أهل الكلام ولا دين له"(1).
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 208.
وممّا روي عنه في ذمّ علم الكلام قوله: "ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما توهّمته قط، ولأن يُبتلى المرء بجميع ما نهى الله عز وجل عنه، سوى الشرك بالله، خير من أن يبتليه الله عز وجل بالكلام"(1). وقال الزعفراني: سمعت الشافعي يقول: "حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل منكَّسين، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنّة وأخذ بالكلام"(2). ومما رووا عنه في ذم الجدل:
لم يبرح الناس حتى أحدثوا بِدَعاً
…
في الدين بالرأي لم تُبعث بها الرسلُ
حتى استخفّ بدين الله أكثرهم
…
وفي الذي حملوا من حقه شغل (3)
إن هذه المعركة الكلامية تنطفىء معها أصول العقيدة السمحة، وتكاد تنمحي بسبب غلبة الجدل والمناقشات الفكرية التي سندها طُرقُ البحث والنظر الشائعة يومئذ. وفي هذا يكمن تدلّي علم الكلام واحتياج الأمر فيه إلى التنبيه على جملة أسباب يتأكد الانصراف عنها وتحاشيها لرجوع هذا العلم إلى حقيقته بين المسلمين، وقيامه بوظيفته لديهم. فمن ذلك الاختلاف في الاصطلاحات والصفات وتعددها، والغلو في التنزيه، والقول بما لا يعقل واعتقاده، والتنابز وإلزام لوازم المذهب، وإدخال أشياء في التوحيد ليست منه.
وقد قامت حركة محاولة الإصلاح أولاً على يدي أبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين عبد الملك الجويني حين فصلا الفلسفة عن الاعتقاد، ووجَّها هذا العلم بتوجيه العقيدة الإسلامية بما يوافق الحجج المنطقية، ثم بسلوك الإمام الغزالي في الصراط المستقيم
(1) الرازي: مناقب الإمام الشافعي: 99.
(2)
المرجع السابق.
(3)
المرجع السابق: 100.
وابن السيد البطلوسي في كتاب الإنصاف منهجاً يقي الخلق من ضلالات الخلاف.
واقترح الغزالي أن تساق للعامة في العقيدة الأدلة الإقناعية، وللخاصة جملة من الأدلة بحسب السن والعلم لتفادي التقليد في الدليل والمدلول. وهو ما لا يمكن لصحة العقيدة.
وذهب أحد المتأخّرين عند تحديده - في بعض محاضراته - علمَ الكلام، إلى القول بأن من يعلم علم الكلام على طريقة تكفل له الانتفاع به في الوصول إلى اليقين والإيمان، يمتلىء قلبه خشية من الله. ويكون ذلك بإطلاق النظر في آيات الله في الآفاق حتى يَبلغ الغاية.
* * *