الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على الاحتمالات الواردة الصحيحة (1).
وبمثل هذا التتبع للمواد اللغوية تحريراً وضبطاً لصيغها، وكشفاً عن دلالاتها ومعانيها ننطلق في بياننا لمنهج صاحب التحرير إلى أمثلة أخرى تتعلق إما بأحكام العربية وقواعدها من نحو وصرف، وإما بأسرار التعبير والتصرفات القولية من فنون البلاغة.
* * *
ونقدم لبيان منهج الإمام في تحليله وتعمقه في دراسة القضايا النحوية أمثلة ثلاثة. هي الإشارة بـ "ذلك"، وورود اللفظ بدلاً أو عطف بيان، والمقاربة مع تفصيل القول فيها.
مسائل نحوية:
1 - اسم الإشارة: (ذلك)
قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} (2).
فرّق الإمام في تفسير هذه الجملة بين {الم (1)} وبين {ذَلِكَ الْكِتَابُ} . وقال في القسم الثاني منها: كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف (ال م) كما علمت ممّا تقدم. وهنا يبدأ النظر في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ببيان إعراب هذه الجملة تمهيداً للخلوص إلى معناها، وتحريراً للمراد منها باستعمال الطريقة نفسها التي جرى عليها الزمخشري في كشافه واستخدام قوانين اللغة وقواعدها للوقوف على أدقَّ المعاني وأخفاها.
وأوجه الإعراب لـ "ذلك الكتاب" متعددة في تقديره وهي:
إما أن تجعل من حروف (الم) جملة مسوقة مساق التهجّي
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 2/ 2، 275 - 278.
(2)
البقرة: 1، 2.
لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن. فيكون اسم الإشارة مشاراً به إليها باعتبار كون حروفها مقصودة للتعجيز، لأن حروفها من جنس حروف الكتاب. وعلى هذا الوجه تكون (الم) غير معربة ولا مبنية، واسم الإشارة ذلك مبتدأ، والكتاب خبراً.
وإما أن تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لديهم يومئذٍ، وهو ما نزل منه فعلاً منضماً إليه ما يلحق به. فيكون قوله: ذلك، مبتدأ، وخبره: الكتاب.
وإما أن تكون الإشارة هنا إلى جميع القرآن، ما نزل منه وما لم ينزل، لأن نزوله مترقّب. فهو حاضر في الأذهان فأشبه الحاضر في العيان. ويكون التعريف للكتاب تعريفاً للعهد التقديري، وقوله:(الكتاب) حينئذٍ بدلاً أو بياناً من ذلك، والخبر هو (لا ريب فيه).
ومن هذا الإعراب التصويري للجملة ينتقل إلى اسم الإشارة "ذلك". فيذكر مقالة ابن عباس: (ذلك الكتاب) أي هذا الكتاب. وهو ما قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما، وما رواه البخاري عن أبي عبيدة. ويكون ما ورد هنا من استعمال اسم الإشارة جرياً على طريقة العرب في إتيانها بالإشارة إلى البعيد مكان الإشارة إلى القريب الحاضر.
ولتفصيل القول في ذلك ينقل الإمام الأكبر عن الرضي قوله: وُضِع اسم الإشارة للحضور والقرب لأنه للمشار إليه حساً، ويصحّ أن يشار به إلى الغائب فيصير الإتيان بلفظ البعد وارداً لأن المحكي عنه غائب، ويقلّ أن يذكر بلفظ الحاضر القريب. وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول: والله، وذلك قَسَم عظيم، لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب،
ولكن الأغلب في هذا الإشارة بلفظ الحضور فتقول: وهذا قسم عظيم (1).
ولا يكتفي في هذا المقام بالاقتصار على مقالة الرضي، بل يرجع إلى ابن مالك في التسهيل ليحكي عنه تسويته بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة إلى كلام متقدم فيقول: وقد يتعاقبان - اسم القريب والبعيد - مشاراً بهما إلى ما ولياه من الكلام. ومثّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (2)، ثم قال:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} (3)، فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب، والمشار إليه واحد.
وفي المقارنة بين هذا الكلام وما تقدم من قول الرضي يقول الإمام: وكلام ابن مالك أَوفَى بالاستعمال، إذ لا يكاد يُحصر ما ورد من الاستعمالين. فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة.
ثم يمضي بعد هذا إلى تثبيت حكمه والاستدلال عليه بقوله: وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير حكم الإشارة إلى الكلام، في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضاً. ففي القرآن:{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} (4)، فإذا كان الوجهان سواءً كان ذلك الاستعمال مجالاً لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال. ونحن قد رأيناهم يتخيّرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام. فدلّنا على أنَّهم يعرّفون مخاطبيهم
(1) ابن الحاجب. شرح الكافية: 2/ 32.
(2)
آل عمران: 58.
(3)
آل عمران: 62.
(4)
القصص: 15.
بأغراض لا قِبَل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة، ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا، وكما قال خُفاف ابن نَدبة:
أقول له، والرمح يأطر متنَه،
…
تأمّل خُفافاً، إنّني أنا ذلك
ويجعلون من أسباب الإتيان بالقريب إظهار قلة الاكتراث، كما في قول قيس بن الخطيم من شعراء الحماسة:
متى يأتِ هذا الموتُ لا يلفِ حاجة
…
لنفسيَ إلا قد قضيت قضاءها
وفي هذه الفقرة وما بعدها يجاوز المؤلف قولَه في إعراب الآية ونقولَه لمقالات النحاة، من أجل بيان المعنى المطلوب، إلى ذكر شتّى التصرّفات باسم الإشارة، تعليلاً لمقاصدها وبياناً لمحاملها. فيدعوه ذلك إلى الرجوع إلى قول الله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} ليبيّن ما انتهى إليه البحث من أن الإشارة في الآية كانت باستعمال اسم الإشارة للبعيد، لإظهار رفعة شأن هذا القرآن، بجعله بعيد المنزلة. وقارن هنا مرّة أخرى بين الاستعمال القرآني وما شاع في الكلام البليغ عند العرب من تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزّة المنال. فالكتاب هنا، لمّا ذكر في مقام التحدّي، ولما تضمّنه من صدق معانيه ونفع إرشاده، بعيدٌ عمن يتناوله بهُجر القول كَقولهم:"افتراء" وقولهم: "أساطير الأولين". ولا يعارض هذا التأويل ورود الإشارة إلى الكتاب باسم الإشارة للحاضر القريب كما في قوله سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (1)، وقوله تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} (2)، لأن الإشارة
(1) الأنعام: 92.
(2)
الأنعام: 155.
في الآيتين إلى كتاب بين يدي أهله، يرغِّبهم في العكوف عليه والاتعاظ به.
ويَعُود إثر هذا إلى الزمخشري مذكراً بأخذه بصنيع الرضي في التسوية بين الاستعمالين من عدم إرادة التنبيه على التعظيم أو الاعتبار في ذلك الكتاب. وقد جعل الإمام الأكبرُ السكاكي حَكَماً بين الزمخشري والرضي ومن خالفهما بقوله في مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة: أو أن يقصد ببعده تعظيمه كما تقول، في مقام التعظيم: ذلك الفاضل وأولئك الفحول. وهذا مثل قوله عز وجل: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} ذهاباً إلى بعدِه درجةً (1).
وإذا تقرّر هذا عاد الشيخ إلى بيان وجه إعراب "الكتاب" تكميلاً للفائدة فيذكرُ في ذلك قولين:
الأول: يجوز أن يكون "الكتاب" بدلاً من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته. فالتعريف فيه إذن للعهد ويكون الخبر هو "لا ريب فيه".
والثاني: يجوز أن يكون "الكتاب" خبراً عن اسم الإشارة، ويكون التعريف تعريفاً للجنس، فتفيد الجملة قصرَ حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجزأين. فهو إذن قصر ادعائي. ومعناه: ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب. وقد يعبر النحاة عن هذا التعريف باللام، في تعداد معانيها، بالدلالة على الكمال. وينحسر معنى القصر في الآية إلى معنى الإفادة الظاهرية للتعريف باللام والإشارة بذلك (2).
(1) المفتاح.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 219 - 221.