الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ديوان بشار
لقد عدّ الإمام الأكبر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بشّار بن برد أولَ المولّدين، وآخر المتقدّمين من الإسلاميين في فن الشعر. ومن أجل ذلك أبدى عنايته به. فجمع ديوانه وشرحه وحقّقه معتمداً على مواهبه وقدراته واتساع علمه ودقة معارفه. والإمام الأكبر من أول الدارسين القائمين على التعريف بالتراث الأدبي العلمي. تكشف عن ذلك مواقفُه وتعامُله مع شعر الأعشى والنابغة وبشار وغيرهم من أعلام المدارس الإبداعية في عصورهم المتعددة المتعاقبة، كما أنه من أول المحقّقين البارعين الموصوفين بالدّقة والتثبت. فهو بقية العلماء المتقدّمين الراسخين في علوم الشريعة وعلوم اللغة وسائر العلوم والفنون الأدبية.
وبشار بن برد، بعلوِّ منزلته عند علماء عصره ونقاده، وبانجذابهم إليه في كل ما استشهدوا به من أشعاره، كان حرياً بأن يحظى، بعد إهمال كبير لأدبه وشعره، بهذا العمل الجيد الفريد المتمثل في نشر ديوانه، وضمّ ما انتثر له من شعر في كتب اللغة والبلاغة والأدب والتاريخ ونحوها، وبتحقيقه التحقيق المميّز، الذي خلت منه التصانيف المحقّقة المنشورة في عصرنا الحاضر. وذلك بتفسير مادته، ونقد أبياته، ومقارنتها بأمثالها ونظائرها من كلام السابقين والمتأخرين، وبالكشف عن أهم ما أبدعه بشار في نظمه، وأشرقت به مناهجه في عرض معانيه وتصوير أغراضه، ودلّت عليه
تصاريفه القولية من خروج عن المتعارف والمعهود أحياناً، وما أنشأه من ابتكارات وأفانين مرّة أخرى.
وضع الإمام الأكبر مقدمة لديوان بشار كشأنه في أموره كلها، فكانت من جنس ما عرف به وعنه من علم وعمق وفهم ونقد. وإذا اجتمعت هذه العناصر كلها لدى العالم أو الأديب بشرت بما سيصدر عنه من روائع وتأمّلات، هي نسيج وحده وبديعُ صنعه. فمن قرأها أفاد منها، ومن تنقل بين فرائدها أذهلته الحكمة، وتملّكه حُسن المعرفة وجمال البيان، ومَن تأمّل جواهرها ومسائلها تفتّقت في ذهنه كوامن الأسرار، وتجلّت له حقائق التصرّفات القولية، فاستزادت منه وقوفاً، وبجميل ضروبها ولوعاً.
تشمل المقدمة حسب تقديرنا العام لمحتواها ستة عناصر هي:
أولاً: الترجمة العامة لبشار بذكر نسبه واسمه وكنيته ولقبه وأهله، والحديث عن صفته وعماه ولباسه واعتقاده وخلُقه وبداهته وملحه، ثم ذكر سبب وفاته. ويقع هذا في تسع وعشرين صفحة.
ثانياً: التعريف بمكانة بشار لدى الخلفاء والأمراء، وبغرامه، وبالكشف عن سعة علمه بالعربية، وبالحديث عن البصرة وقبائل العرب حولها، وبما أفاده الشاعر من هذا كله، مع بيان مرتبته في العلم باللسان العربي، وبفنون القول. وكل هذا في ست صفحات.
ثالثاً: الحديث عن الشعر وأطواره. وتحديدُ منزلةِ بشار فيه. ولما لهذا الغرض من أهمية توسع الإمام الأكبر في إيراد أمثلة من نظمه في شتى الأغراض متأيداً في اختياراته بأقوال أئمة الأدب، ناقلًا عنهم: أنه لم يكن في زمن بشار بالبصرة غزل ولا مغنية ولا نائحة إلا يروي من شعر بشار فيما هو بصدده. ومما أعجب به
الناس من شعر بشار أنه لم يقصر نفسه على متابعة المتقدّمين من الشعراء في معانيهم، بل أودع شعره كذلك المعاني الحضرية المستجدّة في عصره.
رابعاً: ينتقل بنا الإمام الأكبر إلى عنصر هام جداً من عناصر مقدمته. وقفه على التعريف بمنزلة شعر بشار عند العلماء والنقاد. ولا أظن أن أي واحد من الأدباء في مستطاعه أن يغوص على خصائص شعر بشار، وإبراز أبدع صوره، مقترنة بالتحليل والتفصيل في هذا العصر. فإن ذلك مما اختص به أصحاب الملكات العلمية من علماء اللغة والعربية والاشتقاق والبلاغة والشعر. وإن هؤلاء وحدهم، بكمال تكوينهم، وتمام استحضارهم للقواعد النظرية عند أصحاب تلك العلوم، يُخضعون النصوص الشعرية والأدبية لا لمجرد الذوق، وإنما للذوق السليم المحكم الذي ازداد اكتمالًا ونمواً عند صاحبه بممارسته الطريقة التطبيقية في الشرح والنظر والنقد. وأين منا أمثال هؤلاء، وهم في كل عصر قلة. ومن يقدرُ اليوم مثل الإمام الأكبر على جمع الكثير من النظريات والفوائد في صفحات قليلة، بياناً ونقداً في عرضه وتفصيله لشعر أي شاعر من المتقدِّمين أو المتأخِّرين. ذلك أنه يعسر وقوفهم على ما وقف عليه أئمة هذا الفن من آلات تعين على الفهم والنقد، أو تمكّنهم من عرض بعض الصور الشعرية مع التطبيقات العلمية عليها في زمن غاضت فيه السليقة، واختلطت الألسن، واستولت على الناس العجمة.
والمقصود من وضع هذه المقدمة، فيما يظهر، العناية بهذه العناصر الثلاثة: الثاني والثالث والرابع. فهي محط النظر، وموضع الدرس، وسبيل التقويم والنقد لشعر ابن برد. وهي التي يجب الوقوف
عندها وقوفاً خاصاً مُسايرة لكاتبها فيما عرض له من أفهام، واعتمده من نظريات وقواعد وأحكام، للتوصل إلى تجلية هذا الديوان لشُداة الأدب وطلابه. وفيما أبداه من رأي ونقد، بذكر خصائص الشاعر، وروعة نظمه، وكمال إبداعه، وقدرته على مزاحمة غيره ومنافسته.
خامساً: يقف صاحب المقدمة بين جانبي الأدب والنقد لدى بشار في صفحات خمسة، معرّفاً بنقد بشار للشعر والشعراء، ومورداً فقراً من نثره. وهذا مما تتأكّد إضافته إلى العناصر الثلاثة التي ذكرنا. ويتحدث المؤلف بعد هذا عن صلة بشار بولاة إفريقيّة في عصره، وبممدوحيه يزيد بن حاتم وابنيه داود وروح منهم، كما يذكر دخول شعر بشار إلى هذه المنطقة من بلاد المغرب عن طريق اختيارات محمد وسعيد الخالديين، وما تلقّفه عنهما إسماعيل بن أحمد التُّجيبي القيرواني الذي وضع لشرح ما استجاده من شعر بشار كتابه الذي أسماه الرائق في أزهار الحدائق. ويمكن أن نضيف إلى محتوى هذا العنصر الأسماء الكثيرة والأعلام التي يذكر الشاعر بها معاصريه، ويرمز ببعضها إلى صويحباته اللائي شغفن قلبه.
والقسم الأخير من هذه المقدمة تعريف بديوان بشار، وطريقة جمعه وقيام الإمام الأكبر بنشره. وهو من إحدى يتيمات المخطوطات التي تحتفظ بها خزانته العامرة. وكل هذه المعلومات نعود إلى إجمال القول فيها، بإذن الله، بعد أن نتناول من خلال العناصر الأربعة التي أومأنا إليها قبل دراسة أدب بشار وشعره.
وقد تركنا الحديث عن العنصر الأول وعن جزء من العنصر الخامس لما فيهما من حديث عن ابن برد الشاعر، وحياته ومعاصريه ومغامراته وفتنته وموته.
وقد تولّى التعريف بذلك ما صدر في هذا العصر عن غير واحد من بحوث ودراسات، وبجانب ذلك كله طائفة من أخباره. فبشار من الموالي، من أبناء الفرس من شَعب أذريرس بن يستاسف الملك بن يهراسب الملك كما نسبه حميد بن سعيد. وهو خراساني من قريش الفرس. ومن فخر بشار بكريم محتده قوله:
وإنّي لَمِنْ قومٍ خراسان دارهم
…
كِرامٍ، وفرعي فيهمو ناضر بسِق
وإنك لتجده مع اعتداده بأصله الفارسي، يفاخر بانتسابه إلى مواليه من بني عامر العُقيليين كما يعرب عن ذلك قوله:
نَمَت في الكرام بني عامر
…
فُرُوعي، وأصلي قريشُ العَجَمْ
وأصل أبيه من طبرستان من سبي المهلب، وأمه رومية أمةٌ لرجل من الأزد تدعى غزالة. وقد اختلط على الناس ولاؤه، فقال قوم: هو عُقَيْليّ، ونُسب أخرى إلى بني سَدوس، وثالثة إلى قيس عيلان. والحق كما قال الإمام الأكبر أن ولاءه لبني عُقيل بن كعب من بني عامر بن صعصعة. وبنو عامر بن صعصعة من قبائل قيس عَيْلان بن مُضَر. فعُقيل هو ابن كعب بن ربيعة بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حصفة بن قيس عيلان. كذا ذكر النسَّابون. وكنية شاعرنا أبو معاذ، ولقب بالمرعّث. وقد صرح في شعره باسمه مرتين. الأولى في قوله:
اقعد فقد قال رواة الأشعار
…
ليس ابن نِهيا من رجال بشار (1)
(1) من أرجوزة بشار. ابن عاشور. ديوان بشار: 1/ 256.
والثانية في قوله:
إذا أنشد حماد
…
فقل أحسن بشار (1)
وقد كناه بأبي معاذ لِدَاتُه وأكثرُ معاصريه. ومنهم أبو العتاهية الذي استحسن بشار شعرَه كما يعلن ذلك قولُه:
كم من صديق لي أسا
…
رِقُه ابتلاء من الحياءِ
فإذا تأمّل لامني
…
فأقول ما بي من بكاءِ
لكن ذهبت لأرتدي
…
فطرفت عيني بالرداءِ (2)
فأجابه العتاهي متلطفاً: لا والله يا أبا مُعاذ، ما لذت إلا بمعناك، ولا اجتنيت إلا من غرسك. فإنك أنت الذي يقول:
شكوت إلى العواذل ما ألاقي
…
وقلت لهن: ما يومي بعيد
فقلن: بكيت، قلت لهن: كلا
…
وهل يبكي من الطرب الجليد
ولكنّي أصاب سوادَ عيني
…
عُويدُ قذى له طرف حديد
فقلن: فما لدمعهما سواء
…
أكلتا مقلتيك أصاب عود (3)
ولقب بالمُرَعَّث، وتأوّلوا في ذلك التآويل. وصرح ابن برد بهذا اللقب في شعره فقال:
أنا المرعّث لا أخفى على أحد
…
ذرّت بِيَ الشمسُ للقاصي وللداني (4)
وقال أيضاً:
فُتِنَ المرعّث بعد طول تصاح
…
وصبا ومَلَّ مقالةَ النُّصَّاح (5)
فإذا أردنا الجوهر من هذه المقدمة، ووضْعَ أيدينا على
(1) مثبت في الملحقات: 1/ 256.
(2)
ابن عاشور. ديوان بشار: 1.
(3)
المرجع السابق: 1/ 89.
(4)
المرجع السابق: 1/ 13.
(5)
ابن عاشور. ديوان بشار: 1/ 13.
خصائص بشار وعلمه وأدبه، لجأنا إلى الإمام الأكبر، ففتح لنا الباب على مصراعيه. ولكل ذي مدخل أو تقديم ما يترجم به عن عميق حسه، ويلوّن به القصد من التوجيه والتعليق، فيُمكِّنُ بذلك مرافقه من الإلمام بما ألمّ به. ومن إدراك خبيئة نفس الشاعر المترجَم له، ومعرفة خصائصه البارزة والمقوِّمات الأساسية لفنه وأدبه. ولُباب ما نريد لفت النظر إليه من خلال رياض بشار الزاهرة، واختيارات الشواهد عليها ما جمعه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في القسمين الثاني والثالث وجزء من الرابع من المقدمة حين قدم لنا صورة البيئة التي نشأ بها بشار ومكاسبه منها، وموضع شعر بشار من كل ما عرف من عيون هذا الفن، ومنزلة هذا الشعر عند العلماء والنقاد.
فالبصرة هي منازل العرب الأقحاح. نبت بها ابن برد، ونشأت لديه المَلَكة العربية. فكان إلى جانب ما تميّز به من الفصاحة والبلاغة، وصحة التعبير وجزالته، تاريخَ عصره بما جارى فيه العرب الخلّص من ذكر أحوالهم وعاداتهم، وأيامهم وأخلافهم، وبما رسمه في خرائده من حديث عن الإسلام ودوله بعد ذلك، وبما وصفه من أحوال المولدين وأمثالهم وعقائدهم، ومجالس جدهم ولهوهم (1).
ورجل كهذا بديع القول، رقيق الحاشية، عذب المجلس، جميل النظم، له من سلطان أدبه ما يسيطر به على القلوب، ويحرّك به النفوس، لا بد أن يكون موزّعاً بين سلطة تحميه أو تعطيه يلجأ إليها، وبين مجالس يلهو فيها. وهكذا كان بشار كما وصفه جامع ديوانه من أهل الوجاهة والسمعة، مكرّماً لدى الخلفاء من بني أمية الذين لم
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 1/ 34، 35.
يُخف تشيّعه إليهم. وقد ظهر هذا واضحاً في قصيدته البائية:
جفا وِدُّه فازورّ أو ملّ صاحبُه
…
وأزرى به أن لا يزالَ يعاتبه (1)
وفي قصيدته التي طالعها:
أأحزنك الألى ظعنوا فساروا
…
أجلْ فالنوم بعدهمُ غِرارُ (2)
وتشيع أيضاً لرأس العلويين إبراهيم بن الحسن بن علي ومدحه. ثم قلب بعد ذلك ظهر المجن فصانع العباسيين. وكانت له مكانة عالية ومنزلة رفيعة لدى أبي جعفر المنصور وولده المهدي. واعتداداً بأدبه وتقديراً لموهبته جعل له هذا الخليفة وفادة عليه كل سنة. ذكر ابن رشيق في العمدة أن المهدي ضمَّه إلى ديوان الأَزِمّة، مع كونه بصيراً، إشادة به وتقريباً له.
ومن شعره في المهدي قصيدته التي أولها:
تجاللتُ عن فهر وعن جارتَيْ فهر
…
وودّعت نُعمى بالسلام وبالهجر (3)
ويقول فيها:
عُرفتَ أمير المؤمنين برقّة
…
علينا، ولم تُعرف بفخر ولا كبر
بَنَى لك عبد الله بيتَ خلافة
…
نزلت بها بين الفراقد والنسر
وعندك عهدٌ من وُصاة محمد
…
فرعت بها الأملاك من ولد النضر (4)
وربما زاد في علو منزلة بشار عند رجال السلطة والحكم علمُه الواسع. قال الشيخ الإمام: وحسبك عدّ بشار مع مثل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء من العلماء إلا أنهما عظَّمتهما التقوى، واستهتر
(1) مهدي محمد ناصر الدين. الديوان: 14.
(2)
المرجع السابق: 493.
(3)
المرجع السابق: 507.
(4)
مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 510.
بشار بالمجون (1).
وبمثل هذا الشعر البديع الرائع كان بشار يصف مجالسه، ويتحدّث عن غرامه ونسيبه، وعشقه وصبواته. يقول ناشر الديوان: وصف بشار أحوال الغرام كلَّه، ومدّ نفَس شعره بتفاصيلها. فلم يغادر لشاعر مقالاً في ذلك. وإن وَصفَ الغرام وأفانينه، وهو معظَم شعره، نزع إليه من كل غرض وفي كل مقام. وذلك أسطع برهان على شاعريته، وقوّة خياله، وبلاغة كلامه. فيكون حاله في هذا شبيهاً بحال كثيِّر، الذي قيل: إنه كان مدّعياً ولم يكن عاشقاً (2).
ولم تحمل بشار عاهاته وعيوبه الخَلقية على تجنّب الناس أو الشعور بالنقص بينهم، بل كان يرى في عماه قوة لذهنه، ومضاء لذكائه.
إذا ولد المولود أعمى وجدتَه
…
وجدِّك أهدى من بصير وأجْوَلا
عميتُ جنيناً والذكاء من العمى
…
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للقلب فاغتدى
…
بقلب إذا ما ضيّع الناسُ حصّلا (3)
ويعلن أخرى عن تعويضه العمى بحسٍّ أشد رفاهة، وأقوى تأثيراً فيقول:
أنّى ولم ترها تصبو؟ فقلت لهم:
…
إن الفؤاد يرى ما لا يرى البصر (4)
ومرّة يجعل السمع والفؤاد خَلَفاً عن البصر في اجتلاء المحاسن فيقول:
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 1/ 35.
(2)
المرجع السابق: 1/ 30.
(3)
مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 577.
(4)
مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 447.
نبئت عنها شكلاً فأعجبني،
…
والسمع يكفيك غيبة البصر (1)
وأجمل من هذا وذاك قوله:
يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة
…
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا: بمن لا تَرى تهذي؟ فقلت لهم:
…
الأذن كالعين تولي القلب ما كانا (2)
وهذه المعاني المتولدة عن تلك الروح الفياضة هي التي حملت الشيخ ابن عاشور على القول بصحة غرام بشار وعشقه. فقد كان ذا نفس خليعة تحب المجون، وجعل طريقة عشقه حُسن النغمة ورقة المزاج ولين الملمس وحلاوة الحديث. وهو يتوسل بذلك إلى أن يجيد النسيب، فإنه سَدى الشعر ولُحمته. ومما ينبئك بذلك أنك تجده يكثر في نسيبه وصفَ حُسن منطق النِّساء:
وكأنّ رَجْعَ حديثِها
…
قِطَعُ الرياض كُسين زهرا (3)
وإذا كنا ذكرنا أغراضه الشعرية: كالمديح والغزل اللذين تفوّق فيهما أيّ تفوّق، وأبدع فيهما كلّ إبداع، فإن أحاديث الملوك والنقاد، وهم أصحاب علمٍ بالعربية، وثقافةٍ بالشعر في عصره، لتدعونا إلى إرجاع النظر كرّتين لتلمّس إبداعه وفائق مقدرته.
أما المديح فقد سئل أبو عمرو بن العلاء وهو النقادة الخبير بكلام الشعراء، عن أمدح الناس. فقال: هو الذي يقول (يعني بشار)(4):
(1) ابن عاشور. ديوان بشار: 1/ 44.
(2)
مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 613.
(3)
ابن عاشور. ديوان بشار: 4/ 69.
(4)
مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 239.
لمست بِكَفِّي كفَّه أبتغي الغنى
…
ولم أَدْرِ أن الجود من كفّه يُعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
…
أفدتُ، وأعداني فأتلفتُ ما عندي
وفي باب النسيب الذي فتحه على مصراعيه تاركاً امرأَ القيس فيه عيياً. وأبدع في وصف مشاكاة المتحابين، وتوسيط الرسل، ومراقبة الرقباء، وعذل العذال، بما لم يسبِق إلى تفصيل الوصف فيه أحدٌ من الشعراء. وبهذه المهارة وببديع تصرّفه في الأغراض الغزلية بزّ الشعراء وسار أتباعه منهم على إِثْرِه. وكانوا يتباهون بشعره. ويقلّدونه فيما يسعهم من روائعه مثل قوله (1):
طال التنائي، فكل غير مُتّرك
…
حتى تَرَيْ عاتباً منّا ومضطردا
حتى التقينا فمن شكوى ومَعْتَبة
…
تَكرُّهاً، لا نخاف العين والرَّصَدا.
غاب القذى فشربنا صفو ليلتنا
…
حِبَّين نلهو ونخشى الواحد الصمدا.
قالت: فَأَنَّى - بنفسي - جئتَ مسترقاً
…
من العدو تخطّى الوعر والجَدَدا.
جورٌ أتى بك أم قصد، فقلت لها:
…
ما زلت أقصد لو تُدنينَ مَن قصدا.
لا تعجبي لاجتيابي الليل منسرقاً
…
ما كنت قبلكِ رِعديداً ولا بَلِدا
يا رب قائلة يوماً لجارتها:
…
إن المرعّث همِّي غاب أو شَهِدا
وبقية أغراض الشعر التي عني بها بشار: الهجاء، والفخر، والحماسة، والوصف، والأدب. وجرب حظّه في الأراجيز.
فمن ذلك قوله في الفخر والحماسة:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو تقطر الدّما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة
…
ذُرَى منبر صلّى علينا وسلّما (2)
(1) المرجع السابق: 290.
(2)
ابن عاشور. ديوان بشار: 2/ 93.
وله في الوصف روائع من أجودها قصيدته في زفاف حبيبته وسفرها. ومنها طالعها:
دَعَوْتُ بِوَيْلٍ يوم رَاحَ عَتَادُها
…
وأودعني الزفزافَ ليلة أدلجوا.
وقد زادني وجداً عليها وما درت
…
مجامر في أيدي الجواري تأجّج.
وما خرجت فيهنّ حتى عذلنها
…
قياماً، وحتى كادت الشمس تخرج.
فقامت عليها نظرة واستكانة
…
تساقَط كالنشْوى حياءً وتَنْهَج.
وما كان منّي الدمعُ حتى توجَّهَتْ
…
مع الصبح يقفوها الفنيد المسرّج (1).
ومن بديع شعره في الأدب:
إني وَعَيْشِكَ يا عبّادَ فاستمعي
…
لو أبتغي فوق هذا الحب لم أزد
كأنّ قلبي إذَا ذِكراكُمُ عَرَضت
…
من سحر هاروت أو ماروت في عقد
ما هبّت الريح من تلقاء أرضكُمُ
…
إلا وجدت لها برداً على الكبد
ولا تيمّمت أخرى أستسرُّ بها
…
إلا وجدت خيالاً منك بالرَّصد
فهل لهذا جزاءٌ من مودتكم
…
مُرَوّع القلب بالأحزان والسُّهُد (2)
ومن بديع ما يروى له في الأدب والحكمة وضرب الأمثال، ميميته التي يقول فيها:
فقل للخليفة إن جئته
…
نصوحاً ولا خير في متّهَم.
إذا أيقظتك حروب العدى
…
فنبّه لها عمراً ثم نم.
فتى لا ينام على ثأره
…
ولا يشرب الماء إلا بدم.
إذا ما غزا بشَّرت طيرُه
…
بفتح، وبشَّرنا بالنعم (3).
(1) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 590.
(2)
ابن عاشور. ديوان بشار: 2/ 221.
(3)
مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 589.
وتدبُّر هذه الألوان الفنية الرائعة من الشعر يعود بنا إلى التعرف على شخصية بشار الأدبية ومنزلتها بين أعلام الشعر في الأدب العربي. فهو المحافظ على النهج العربي السليم، الداعم له، والسائر على وفق قوانينه، مع ما ابتكره من صور، وعرض له من أغراض، طوّر بها الشعر وناسب بينها وبينه بما يليق بعصره، ويتماشى مع الحداثة التي كان يتطلع إليها كثير من أهل الفن في ذلك الزمن.
وأكثر شعر بشار ممّا جاشت به نفسه، وسمت به روحه، ورشحت به مواهبه. لم ينظم منه أبداً عن طلب، ولا أجاب فيه لِاقتراح أحد إلا قليلاً.
ومما يُستثنى من هذا الوصف ما جرت به فكاهات المجالس، أو ذُكر في النوادر، أو سَمَحت به نفس شاعر يجيز. فمن ذلك طَلَب المهدي من بشار أن يقول في الحب شعراً، يجعله فيه قاضياً بين المحبّين من غير تسمية أحد ولا إطالة. فقال على البديهة:
اجْعلِ الحُبَّ بين حِبِّي وبيني
…
قاضياً، إنَّني به اليوم راضِ
فاجتمعنا، فقلت: يا حِبَّ نفسي
…
إنّ عيني قليلة الاغتماض
أنت عذّبتني، وأنحَلتَ جِسمي
…
فارحم اليوم دائم الأمراض
قال لي: لا يحلُّ حكمي عليها
…
أنت أولى بالسّقم والإحراض
قلت لمّا أجابني بهواها:
…
شمل الجورُ في الهوى كل قاض (1)
ومن أبرز أنواع الشعر وأشهرها الأراجيز. وهي لون فريد بديع صعب من الشعر. تفرد به كبار الحذاق من الشعراء، وأهل المعرفة باللغة، والإخباريون، وأصحاب القدرة على نسجه.
(1) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 547.
وقد جاء مبيناً هذه الحقيقة ما دار بين الراجز عقبة بن رؤبة ابن العجاج، وبين بشار في مجلس والي البصرة. واتّهم الراجز بشاراً قائلاً له: هذا طراز يا أبا معاذ لا تنسجه. فاستشاط شاعرنا غضباً عليه. وقال له: ألِمثلي يقال هذا الكلام؟! أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدِّك. وأنشد الوالي في الغد بذلك المجلس أرجوزته الفائقة:
يا طللَ الحيِّ بذات الصَمْدِ
…
باللَّه حدّث كيف كنتَ بعدي.
أوحشتَ من دَعْد ونُؤْيِ دَعدِ
…
بعد زمانٍ ناعمٍ ومَرْدِ،
عهداً لنا، سَقياً له من عهدِ؛
…
إذ نحن أخياف بما نؤدِّي (1).
وهي طويلة تزيد على مائتي بيت. فلمّا فرغ من إنشادها طرب عقبة بن سَلم وأجزل صلته. وقام عقبة بن رؤبة فخرج من المجلس بخزي، وهرب من تحت ليلته (2).
وبعد هذه الجولة التي أخَذَنَا فيها الإمام الأكبر إلى أجمل الرياض وأحسنها، وأزهاها وأطيبها، نحاول أن نجد لروائع القصائد والأشعار التي مررنا بها سنداً في الحكم أو تعليلاً، وسبباً للانبهار بما قرأناه أو سمعناه أو رويناه من هذه الغرر الشعرية، فلم نلف من ذلك الأنماط الأدبية السحرية. وإننا لا نترك إمامنا في الاهتداء إلى ذلك، بل نسير معه بخطى وئيدة استكمالاً للروعة، واستزادة من المتعة.
وقد كان بشار ممَّن وصفه النقاد بالتقدم والإجادة بين معاصريه فيما ينظمه من قصائد ويُعرف عنه من روائع.
قال الجاحظ وهو يتحدث عن كوكبة من فحول الشعر في عصر
(1) ابن عاشور. ديوان بشار: 2/ 156.
(2)
الجاحظ. البيان والتبيين: 2/ 540.
المولدين مناظراً بينهم وموازناً بين مقاماتهم. فلم يكن فيهم أصوبُ بديعاً من بشار وابنِ هرمة والعتابي. وكان العتابي يحتذي حذو بشار في البديع
…
والمطبوعون على الشعر من المولدين، بشار والسيد الحميري وأبو العتاهية وابن أبي عيينة وسَلم الخاسر ويحيى بن نوفل وخلف بن خليفة وأبان بن عبد الحميد، وبشار أطبعُهم كُلِّهم. فهو من أصحاب الإبداع والاختراع، المتقنين للشعر، القائلين في أكثر أجناسه وضروبه.
والشواهد على هذا كثيرة تضمنتها بطون أمهات كتب الأدب والنقد.
قال الرشيد: بشار أمدح الناس شعراً حيث يقول:
ليس يعطيك للرجاء ولا الخو
…
ف، ولكن يلذ طعم العطاء (1)
يسقط الطير حيث ينتثر الحبّ
…
وتغشى منازل الكرماء.
ومن مستحسن شعره الذي تفوَّق به على غيره ما ذكره أبو حاتم حين سُئل عن أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول (يعني بشاراً):
ولها مبسِمٌ كثغر الأقاحي،
…
وحديثٌ كالوشي وشي البرود.
نزلت في السواد من حبة القلـ
…
ـب ونالت زيادة المستزيد.
عندها الصبر عن لقائي، وعندي
…
زفرات يأكُلن صَبر الجليد (2).
وهو مبرَّأ بين الأدباء مما وقع فيه كثير غيره من سرقة الشعر. فقد ذكر الخطيب البغدادي عن علي بن يحيى بن منصور أحد
(1) عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز: 272 - 273، 315، 323.
(2)
ابن عاشور. ديوان بشار: 1/ 136.
أصحاب إسحاق الموصلي. قال: ما عرف بشار بسرقة شعر جاهلي ولا إسلامي (1).
ويمكن أن نضمّ لهذه الملاحظات المتعلقة بشعر بشار موقفين نذكر منها: ما روي عن الأصمعي من قوله مقارناً بين بشار ومروان بن أبي حفصة أيّهما أشعر؟ قال: إن مروان سلك طريقاً كثُر من يسلكه. فلم يلحق بمن تقدّمه، وشركَه فيه من كان في عصره. وبشار سلك طريقاً لم يُسلك وأحسن فيه وتفَرّد به. وهو أكثر تصرفاً في فنون الشعر، وأغزر وأوسع بديعاً. قال: وقد وجدت أهل بغداد قد ختموا الشعراء بمروان، وبشار أحق بذلك منه. وما كان مروان في حياة بشار يقول شعراً حتى يصلحه له بشار ويقوّمه. فبشار مطبوع لا يكلّف طبيعته شيئاً متعذّراً. وكان الأصمعي يُشَبِّه بشاراً بالأعشى والنابغة، ويلحق مروان بزهير والحطيئة. ويقول: هو متكلِّف.
وكان أبو عبيدة يفضل بشاراً على مروان (2).
الموقف الثاني: موقف الجاحظ منه حين بلغه أنهم يقارنون بين بشار وحماد. فقال: وما ينبغي بشار أن يناظر حماداً من جهة الشعر وما يتعلق بالشعر، لأن حماداً في الحضيض، وبشاراً مع العيّوق. وليس في الأرض مولّد قروي يعدّ شعره في المحدَث إلا بشارُ أشعرَ منه
…
ومع هذا فإنا لا نعرف بعد بشار أشعر منه (3).
ومن دلائل استقرار هذا الإعجاب بشعر بشار في النفوس أن نوّه المحكِّمون ببديع نظمه ورائع شعره. وقد وردت في مختلف
(1) ابن عاشور. ديوان بشار: 3/ 190.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 1/ 71.
(3)
ابن رشيق. العمدة: 1/ 194، ط. بيروت.
دواوين الأدب شواهد من ذلك تدل على اهتمام أهل اللغة وأهل الصناعة به. نجد أكثر ذلك عند اللغويين في كتب: العين، وتهذيب اللغة، والتنبيه والايضاح، وجمهرة اللغة، والمخصّص، واللسان، والتاج، والنهاية. كما نجده في كتب الأدب والصناعة مثل: الأغاني، والصناعتين، وطبقات الشعراء، والحماسة البصرية، وعيون الأخبار، وشرح المرزوقي لديوان الحماسة وغيرها. ومن بين هذه الشواهد من شعر بشار:
- قُل ما بدا لك من زور ومن كذب
…
حِلمي أصمّ وأذني غير صمّاء
- أخوك الذي إن رِبْتَه قال: إنّما
…
أربتَ وإن لم ينته، لان جانبه (1)
- وفرعٌ زان متنيك
…
وزانته التقاصيب
- فإذا ظهرت تقنَّعي
…
بالحُمر، إنّ الحُسن أحمر (2)
مع قول بشار:
لخدّك من كفيك في كل ليلة،
…
إلى أن ترى وجه الصباح، وسادُ
تبيت تراعي الليل ترجو نفاده،
…
وليس لليل العاشقين نَفاد (3).
(1) البيت من قصيدة طالعها:
جفا وُدُّه فازْوَرَّ أو مَلَّ صاحبه
…
وأزرى به أن لا يزال يعاتبه
مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 141.
(2)
وفي الديوان الرواية:
وإذا دخلنا فادخلي
…
في الحمر، إن الحسن أحمر
ابن عاشور. ديوان بشار: 4/ 75.
(3)
كذلك للشوق الغريب إذا سرى
…
من الوجه مشدود عليك صفاد
وطالع القصيدة:
نبا بك خلف الظاعنين وساد
…
وفي تلك إلا راحتيك عماد
مهدي محمد ناصر الدين. الديوان: 418.
ومثَّل عبد القاهر الجرجاني أيضاً للنظم يتّحد في الوضع، ويدقّ فيه الصنع بقول بشار:
كأنّ مُثار النقع فوقَ رؤوسنا
…
وأسيافَنا، ليلٌ تهاوى كواكبه
وهو قرين لبيت امرىء القيس:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
…
لدى وكرها العُناب والحشف البالي
ولبيت الفرزدق:
والشيب ينهض في الشباب كأنَّه
…
ليل يصيحُ بجانبيه نهار (1)
وقد قدم صاحب دلائل الإعجاز لهذه النظائر بقوله: ومما ندر من الشعر، ولطف مأخذه، ودقّ نظر واضعه، قول بشار:
كأنّ مثار النقع فوقَ رؤوسنا
…
وأسيافَنا، ليلٌ تهاوى كواكبه.
ثم عقّب على ذلك الجرجاني بقوله: "وانظر هل يتصوّر أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفراداً عارية من معاني النحو التي تراها فيها، وأن يكون قد وقع "كأنّ" في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء، وأن يكون فكَّر في مُثار النقع من غير أن يكون أراد إضافة الأول للثاني، وفكر فى فوق رؤوسنا من غير أن يكون قد أراد أن يضيف فوق إلى الرؤوس، وفي الأسياف من دون أن يكون إيراد عطفها بالواو على مُثار"(2).
ثم جرى على هذا النحو من التفصيل في إبراز حقيقة النظم بقوله:
(1) الجرجاني. دلائل الإعجاز: 92.
(2)
المرجع السابق: 411.
"وليت شعري كيف يتصوّر وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من غير أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى"(1).
وفي المقارنة بين بيت بشار هذا وقول امرىء القيس:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
…
لدى وكرها العنابُ والحشف البالي
وبينه وبين قول زياد:
وإنّا وما تُلقي لنا إن هجوتنا
…
لكالبحر، مهما يُلقَ في البحر يغرق
وكذلك بينه وبين بيت الفرزدق:
وما حملت أم امرىء في ضلوعها
…
أعقّ من الجاني عليها هجائيا
يثبت الجرجاني أن لبيت بشار مزيةً على قول الفرزدق لأنك تجد في صدر بيت الفرزدق جملة تؤدي معنى، وإن لم يكن معنى يصح أن يقال: إنه معنى فلان، ولا تجد في صدر هذه الأبيات ما يصحّ أن يعدّ جملة تؤدي معنى، فضلاً عن أن تؤدي معنى يقال: إنه معنى فلان. ذلك لأن قوله: "كأن مُثار النقع إلى أسيافنا جزء واحد. وليل تهاوى كواكبه بجملته الجزء الذي ما لم تأت به لم تكن قد أتيت بكلام"(2).
ومما ورد بشأن هذا البيت أيضاً سبقُ بشار إلى معنى مستجاد فيه، نازعه في ملاحظته غيرُه، ولكنه لتأخّر هذا عن المبادرة إليه، يكون الأول قد غلب عليه. ولهذا قضى الجاحظ لبشار في بيته هذا بعد أن ذكر نظائره. ثم قال: وهذا المعنى قد غلب عليه بشار كما غلب عنترة على قوله:
(1) المرجع السابق: 411 - 412.
(2)
الجرجاني: 535 - 536.
وخلا الذباب بها فليس ببارح
…
غرداً كفعل الشارب المترنّم
هزِجاً يحك ذراعه بذراعه
…
قدح المكب على الزناد الأجذم (1)
ومما له علاقة بقضايا النحو إتيانك بالذي، التي يجاء بها كثيراً على أنك تقدر شيئاً في وهمك ثم تعبّر عنه بالذي. ومثاله قول بشار:
أخوك الذي إن ربْتَه قال: إنما
…
أرِبت، وإن عاتبته لان جانبه
يقول الجرجاني: "إنك بهذا قدرت إنساناً هذه صفته وهذا شأنه.
وعرض صاحب دلائل الإعجاز إلى قول بشار:
بكّرا صاحبي قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح في التبكير
وذكر إنكار خَلف عليه قوله: إن ذاك النجاح في التبكير، واقتراحه استبداله ببكرا فالنجاح في التبكير. وهنا يستوقفنا الإمام عبد القاهر، ويبيّن محل كلمة "إنّ" وموضعها من الجملة في قول بشار هذا (2).
وقد عدّ حازم القرطاجني مما اختير في المبادي أي من الإبداع في الاستهلال بيت بشار هذا. وذكر معه من البدايات الجميلة مطالع قصائد للنابغة والأعشى والقطامي وأبي تمام والبحتري وغيرهم (3).
وشاعر كبشار بلغ من العلم ما بلغ، وسبق أهل عصره في إبداعاته ومبتكراته، لم يخل من حاسد أو كائد أو منافس. ومن ثم فإن دواوين الأدب، مهما جمعت له من نصوص تنطق بتفوّقه، وتشهد
(1) الجرجاني: 602 - 603.
(2)
الشاهد 251 من خزانة البغدادي.
(3)
منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 312 - 613.
له بكونه المخضرم واسطةَ عقد العصر الإسلامي الأول وعصر المولدين، فقد ذكر له خصومه ومن هو قريب من طبقته أبياتاً ضعيفة ومعاني سخيفة لتستوقف الناظر والباحث.
قال خلاد بن مهرويه لبشار: إنك تجيء بالشيء الهجين المتفاوت، بينما تقول شعراً يثير النقع ويخلع القلوب. وقارن مخاطبه بين بيتين له وبين قوله:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدَّمَا
وقوله:
ربابة ربّة البيت
…
تصبّ الخلّ في الزيت
لها عشر دجاجات
…
وديك حسن الصوت
فأجاب بشار: لكلّ وجهٍ موضع.
واستغرب بعض النقاد الفارق الكبير بين قوله:
قد زرتنا مرّة في الدهر واحدة
…
عودي، ولا تجعليها بيضة الديك
وقوله:
إنما عظمُ سُليمى خُلَّتي
…
قصَب السكر لا عظم الجمل
واذا أدنيت منها بصلا
…
غلب المسكُ على ريح البصل
فكان بشار في كل ما اعترض به عليه يقول: إنما الشاعر المطبوع كالبحر: مرّة يقذف صدفة ومرة يقذف جيفة.
وممن ابتلي به بشار من الخصوم في عصره إسحاق الموصلي (1). فقد كان يتتبع سقطاته ويضع من شعره وينسب الجميل
(1) ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 100.
منه إلى غيره. ولم يسعه بعد طول تردّد، ونسبة بعض نظمه إلى غيره كالمتلمس ونحوه، أن يظهر إعجابه وتَسليمه بتقدم بشار في قوله يمدح مروان بن محمد:
جفا جفوة فازورّ إذ ملّ صاحبه
…
وأزرى به أن لا يزال يصاحبه (1)
ومنها:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
…
أخاً لك، لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً، أو صِلْ أخاك فإنَّه
…
مقارف ذنب مرّةً ومجانبُه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
…
ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه
وبسبب المكانة العالية التي فرض بها بشار وجوده، ومن أجل إقبال الشعراء على أدبه، وتسابقهم إلى حفظه وروايته، احتل هذا الشاعر الكبير بين معاصريه مرتبة متميزة. وأصبحت تعرض عليه روائع الشعر في عصره، أو يحدّث في مناسبات كثيرة بنصوص مختلفة من الشعر فيقارن بينها، ويبدي رأيه فيها. فهو إلى جانب ملكته الأدبية ومواهبه الشعرية، نقادة بصير بوجوه الكلام، يجيد الفهم لما يقال، والحُكم فيما يسمع.
ومثال قدرته على التفريق بين أقاويل الشعر وما نسب منها إلى أصحابها قولُه حين سمع أحدهم ينشد للأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
…
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
هذا بيت مصنوع، ما يشبه كلام الأعشى.
وقال أبو عبيدة: كنت من نحو عشرين سنة جالساً يوماً عند يونس. فقال: حدثنا أبو عمرو بن العلاء أنه صنع هذا البيت وأدخله
(1) مهدي محمد ناصر الدين. ديوان بشار: 141.
في شعر الأعشى. فعجبوا من فطنة بشار، وصحّة قريحته، وجودة نقده للشعر.
وفي مقدمة ديوان بشار نجد الشيخ ابن عاشور يبني ملاحظاته وآراءَه في شعر أبي معاذ المرعَّث على أصول وقواعد ثابتة: منها التئام العربية بما يكون فيها من ارتباط بين الألفاظ والأحكام. وهذه الألفاظ أو المفردات نوعان:
النوع الأول: كلمات موضوعة للدلالة على المعاني الخاصة، وهي الجوامد من أسماء الأعيان، ومن الحروف، والأفعال الجامدة، وأسماء المعاني، والمصادر الدالة على الأحداث لا على الذوات.
النوع الثاني: الصيغ الدالة على معانٍ هي صورة لمعاني المصادر، زائدة عليها، كدلالة فَعَل على المضي، ويَفعَل على الاستقبال، وفاعل على المتلبس بالفعل، ومعاني صيغ أخرى كثيرة نذكر من بينها صيغ مفعل، مفعال، ومفعلة. وكلها يدل على الآلة التي يحصل بها الحدث المستفَاد من المَصدر. ومَوضع معرفة ذلك علم متن اللغة والتصريف.
وأما الأحكام فهي الكيفيات الترتيبية التي يتألف الكلام العربي منها تألفاً مطرداً ولو بوجوه متعدّدة. ولو خَرج انتظام الكلام عن تلك الكيفيات لكان غير جار على وفق ما تكلّم به العرب، ولأصبح عسير الفهم على أهل هذه اللغة. وموضع الوقوف على هذه الألفاظ والأحكام المستمدة منها علوم النحو والبلاغة والعروض. وقد ذكرنا من قبل استخدام الشيخ الطريقة التطبيقية في غالب شروحه. وذلك اعتماداً على ما أشار إليه عبد القاهر الجرجاني في قوله: ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان ويجعله على ذكر أنه لا يتصور أن يتعلق الفكر
بمعاني الكلم أفراداً أو مجردة من معاني النحو. فلا يقوم في وهم ولا يبلغ في عقل أن يتفكّر متفكّر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يتفكّر في معنى الاسم من غير أن يريد إعمال فعل فيه، وجعله فاعلاً أو مفعولاً، أو يريد فيه حكماً سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأً أو خبراً أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك (1).
هذا وقد فرّق العلماء بين ما اجتمع لهم من ذلك من القياسي والمخالف للقياس. وبيّن الإمام الأكبر المتفرع ذاته إلى أنواع من الشذوذ: منها ما يكون قياساً مع كونه لم يسمع عن العرب إلا نادراً، ومنها ما يكون على قياس مع شذوذه. وهذا مقابل للأول. فإذا اجتمع الشذوذ ومخالفة القياس فاستعمال اللفظ مستقبح، وإذا انفردت مخالفة القياس مع الشيوع فالاستعمال جائز، وإذا انفرد الشذوذ مع القياس فهو محلُّ خلاف بين أهل اللغة. ومن تلك الأنواع أيضاً ما يجري اللفظ فيه على القياس مع كونه غير مسموع عند العرب. وهذا يكون العمل به مشروطاً بكون القياس قابلاً له، ولم يأت فيه شيء ينقضه. وهو محلُّ خلاف بين أبي الحسن الأخفش وسيبويه.
وأتبع المؤلف هذه التقسيمات بذكر مَن يحتج بقولهم من العرب، وهم المتبدّون الذين لم يدخلوا الحواضر. وجعل من بينهم بشاراً. فهو قد أدرك العرب الباقين من بني عامر بن صعصعة، ولم يخلط في معاشرته بين العرب والمولدين. وهو اعتباراً لنشأته لا يُتَّهم بأنه يخترع لغة أو يقيس فيها على غير أصل. فما نجده في شعره، من صيغ لمواد عربية مما لا شاهدَ لثبوته باتفاقهم، عربي السليقة،
(1) عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز: 410.
وذكر من المولّدين الذين وقع الاحتجاج بلغتهم في كلامهم وأشعارهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي، والمتنبي، والزمخشري، ومعاصري بشار أمثال العجاج، ورؤبة بن العجاج، وذي الرمة، وأبي النجم، والراعي (1).
ورغم هذه المكانة العالية لبشار في اللغة وتصاريفها كان محلَّ نزاع فيما بدر منه من مخالفات اللسان أو القواعد بين عدد من علماء العربية والبلاغة.
وبقراءة متأنِّية أمكن للشيخ ابن عاشور، أن يقف على عدة مخالفات أو تجاوزات لغوية وعربية وقعت في شعر بشار (2).
فمن أخطائه اللغوية قوله:
دع عنك حماداً وخُلقانه
…
لا خير في خُلْقان حماد
فقد جاء بخلقان جمعاً لخُلق، وهو في العربية جمعُ خَلَق، ولا يصح قياس الأول على الثاني لأنهما ليسا من باب واحد، كما لا يصح أن يكون خلقان مصدراً كالكفران والغفران والسكران. فتعيّن أن يكون بشار قد سمع هذا اللفظ من العرب فأجازه. ولا يصحّ اعتبار خلقان جمعاً لخَلَق هنا، فإن الأبيات في سياق الشاهد تؤكد تخريج الشيخ ابن عاشور. قال بشار:
يا طالب الحاجات لا تعصني
…
واسمع فإني ناصح هاد
دع عنك حماداً وخُلقانه
…
لا خير في خُلقان حماد
الموثر الرأسَ على ربه
…
والجاعل الخنزير في الزاد
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 79.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة الديوان: 3/ 92.
برئت من هذا ومن دينه
…
يصبح للخشف بمرصاد (1)
ومن ذلك توسُّعُه في اشتقاق الأفعال، لكونه أخفّ من القياس على الأسماء: وكذلك عدم اكتراثه بالتعدية واللزوم، واستعماله القاصر متعدياً كما في لفظ آدوا من قوله:
وحاسد قبّة بنيت لروح
…
أطال عمادها سلف وآدوا (2)
فآد بمعنى اشتد وقوي. والمعروف في لسان العرب أنه قاصر.
وكان بشار مع إدلاله بعلمه وأدبه، وسعة معرفته بكلام العرب نثره وشعره، لا يأبه أن يأتي في نظمه بما يفارق أحكام العروض. فقوله:
تحمّل الظاعنون فأدلجوا
…
والقلب منِّي الغداة مُختلَج (3)
من بحر المنسرح. وهو أحد البحور التي تمتاز بعض أوزانها بأناقة التعبير ورصانته، وكأنه منبثق من الكامل. ووزنه:
مستفعلن مفعولات مستفعلن
…
مستفعلن مفعولات مفتعلن
ومنه قول بعضهم:
إن ابن زيد لا زال مستعملاً
…
للخير يفشي في مصره العرفاء
وهذا البيت من المنسرح، عروضه صحيحة، وضربه مطوي.
وقد استعملها بشار في الشاهد الذي ذكرناه من شعره بعروض مطوية وضرب مطوي، آتياً هكذا بالعروض والضَّرب كليهما على وزن مفتعلن. ولم يكتف بهذا في البيت الأول، ولكنه جرى عليه في كامل أبيات القصيدة. فقال في الثاني:
(1) ابن عاشور: 3/ 93.
(2)
ابن عاشور. مقدمة الديوان: 82.
(3)
ابن عاشور: مقدمة الديوان: 83.
بانوا كخود كأن رؤيتها
…
بدر بدا والظلام مرتهج (1)
قال الشيخ رحمه الله: ولو اقتصر على ذلك في البيت الأول لاغتفر، لأن القصيدة إذا وقع فيها التصريع يكون المصراع الأول على وزان الثاني عروضاً وضرباً.
وتكرر هذا في قصيدته من بحر المجتث التي مطلعها:
يا مالك الناس في مسيرهم
…
وفي المقام الخير من رهبه
لا تخش عذري ولا مخالفتي
…
كل امرىء راجع إلى حسبه
وأصل وزنه:
مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن
…
مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن
كما شذّ استعماله عند المولدين تاماً. وهو غير مسموع عند العرب، سداسي يزعم فيه التمام، على نحو ما رسمه الخليل في الدائرة الرابعة، وإنما هو مجزوء وزنه:
مستفعلن فاعلاتن
…
مستفعلن فاعلاتن
وبهذا الوزن يكون اجتثاثه من الخفيف، كقول الشاعر:
ما قاله وهو إفك
…
ذو فرية وهو باغ
والتزم بشار في قصيدته هذه زحافين تخفيفاً لثقل الوزن، وهما زحاف الكف في فاعلاتن الأولى، وزحاف القبض في فاعلاتن الثانية، فصارتا في الصدر والعجز على فاعلتن (2).
ومن هذا القسم الأخير من المقدمة المتعلق بالكشف عن بعض
(1) مهدي محمد ناصر الدين: ديوان بشار: 233.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. مقدمة ديوان بشار: 84.
مخالفات بشار وأخطائه، يبدو لنا تباين مواقف أهل اللغة والبلاغة إزاء أدبه وشعره. ومما يرجح القول بإجادته، وأنه القرم والفحل في فنه، واعتداده بعلمه، وسلامة لغته، وإحاطته الواسعة بالصحيح من مادتها، أنه كالعرب القدامى لا يجد حرجاً في الخروج عن قواعدها والتصرف في مبانيها من حين إلى آخر، لسليقته، وعدم إمكانية اتهامه بالجهل، ولكونه بحكم نشأته ومعارفه حجة في نفسه في العربية ومرجعاً للمتكلمين بها.
وديوان بشار الذي نشره الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، بعد جمعه وتحقيقه وشرحه، أكملُ نصاً، وأصحُّ مادة من سائر ما نشر من شعر بشار حتى اليوم، وهو يقع في ثلاثة أقسام:
الأول: مقدمته النفيسة التي سبق لنا التنويه بها.
الثاني: ديوان بشار كما ورد في النسخة الأصلية من اقتناءات الإمام الأكبر.
الثالث: مستدركات لناشر الديوان على ما توفّر له من شعر بشار. وذلك بما ضمّه إليه من نصوص جديدة عثر عليها أثناء مطالعاته الواسعة في كتب الأدب المختلفة.
وإنا لنلاحظ به وجود فقرات في نهاية المقدمة، تشتمل على أخبار ومعلومات وفرائد، لها علاقة متينة بشعر بشار، وبمنهج المحقق في إعداده العلمي والفني للديوان.
أما المصادر التي احتفظت بقسم من أشعار بشار، رغم ما قدّر على أدبه من الاحتجاب، ورغم خلو المجالس والمنتديات من ذكره أو الحديث عنه، حتى دُعي شعر بشار بحلقة الأدب المفقودة، فهي الأجزاء الثالث والخامس والسادس والسابع والثالث عشر من كتاب
الأغاني للأصفهاني، وقسم تضمنه كتاب أمالي الشريف المرتضى الموسوي، وما وراء ذلك فأوزاع في كتب الأدب. وبعد حين من الزمن بُعِثَ شعر بشار على أيدي أبي بكر محمد وأبي عثمان الخالديين الموصليين في مصنف دَعَوَاه المختار من شعر بشار.
وسبقت عصرنا الحاضر طائفة من المؤلفين والمحققين في القرن الماضي أسهموا في إحياء هذا التراث البديع، فكان منهم السيد أحمد حسنين القرني الوراق المصري صاحب المكتبة العربية بالقاهرة. أصدر كتاباً أسماه بشار بن برد، شعره وأخباره. تمَّ طبعه بمطبعة الشباب بمصر 1343.
والأستاذ الأديب حسين منصور المصري بوضعه لكتاب بشار بن برد بين الجد والمجون. وهو كتاب جامع لمعظم ما هو متناثر من شعر بشار في كُتب الأدب. طبع بمصر بالمطبعة الرحمانية 1348.
وقام العلامة محمد بدر الدين العلوي من جامعة عليكره بنشر وتحقيق المختار من مختار شعر بشار لأبي الطاهر إسماعيل التجيبي القيرواني من رجال القرن الخامس. وهو ما انتقاه من كتاب الخالديين وشرحه. أعان العلوي على هذا المهم المستشرق كرنكو والعلامة الشيخ عبد العزيز الميمني. وكانت طباعة هذا الكتاب بمطبعة الاعتماد بالقاهرة أواسط 1353. وقد ضمّ إليه صاحبه التجيبي شيئاً كثيراً من شعر ابن برد وقف عليه أثناء مطالعاته.
وبعد هذا العرض لقصة ديوان بشار الذي تعاقبت عليه الأنظار والجهود عصراً بعد عصر ينتهي ابن عاشور إلى المخطوطة التي اقتناها وحظي بها واحتفظت بها خزانة كتبه. وهي وحدها تمثل قرابة نصف ديوان بشار. تبدأ من أوله وتنتهي أثناء حرف الراء. والقصائد
والمقطعات بها نحو من مائتين وخمس وخمسين. وتشتمل هذه في مجموعها على ستة آلاف وستمائة وثمانية وعشرين بيتاً.
وبعد وصفِ المخطوط، وخطِّه العتيق، والسِّفرِ المهذَّب الجامع له، نبّه إلى عنوان الكتاب ديوان بشار، قال: وهو مكتوب، أي الديوان، على ورق عتيق فاختي اللون، والمظنون أنه من نسخ عبد القوي. أما التملك الذي عليه في شكل أهليجي في حجم ظفر الإبهام الكبيرة فنصّه: من ممتلكات الفقير الحاج مصطفى صدقي غُفر له سنة 1129.
وتاريخ جمع الديوان ونسخه كان قريباً من زمن المهدي العباسي. يدلّ على ذلك نص جامعه في أوائل القصائد، التي مدح بها بشار الخليفة المهدي، على عبارات وصيغ من الثناء والدعاء لأمير المؤمنين، من نحو ما كان يتحلّى به الخلفاء في حياتهم. وهذا المجموع من شعر بشار من رواية يحيى بن الجون. فقد ورد في بعض صفحاته ما يشير إلى ذلك كقوله من قول الناسخ: وقال أيضاً، ويقال لأبي همام الباهلي: زعم [ذلك] يحيى بن الجون.
وبعد هذا الوصف الدقيق للمخطوط يذكر الإمام الأكبر: أن هذه النسخة نقلت عن أصل صحيح إلا أن خطّه غير واضح تمام الوضوح. وكأنّ الناسخ لم يكن من أهل الضبط والإتقان. وبسبب ذلك وقع فيها تحريف كثير ولحن كبير في غريب الألفاظ. ولولا ممارسة شيخنا الإمام صاحب المخطوط، لأدب العرب، وشعوره الفائق بمآخذ بشار ومراميه لعَسُر عليه إصلاح كثير من ذلك، عند إعداد النسخة التي استخرجها من الديوان، توليه إقامة نصّها وتحقيقها.
وقبل أن ينهي الشيخ الإمام حديثه عن المخطوط يقف عند ثلاث نقط: الأولى بيان منهجه في تحقيقه وطريقته في الإصلاح والتصويب التي جرى عليها في كامل الديوان، والثانية التزامه بالنصّ بعدم تفويته في شيء مما أثبته كاتب النسخة، والثالثة التحذير من عقبى الاختيار المطلق، والانتخاب في عمل النشر والتحقيق، والتنبيه إلى أن فيه من طمس معالم الأثر المحقق وإفساد صورته الكاملة ما فيه. ويختم ملاحظاته هذه بقوله: من أجل ذلك كله أثْبَتُّ ديوانه على ما هو عليه، وألحقت ملحقاته كلَّها كما نسبت إليه.
ويتحدث قبل أن يلج مجال الشرح لديوان بشار عن أهمية ما هو مقبل عليه من عمل، وما هو باذل من جهد في سبيله، قصد خدمة اللسان العربي، وتحقيق النفع لمن يقف على هذا الأثر.
ويدرك الواقف على هذا الديوان أن شارحه عني عناية خاصة بعلم العروض، لزهادة المتأدبين فيه في هذا العصر. وحمله هذا على التنبيه في كل قصيدة على بحرها وعروضها وضربها غير ملتفت إلى ما يكون بها من زحاف أو علة إلا في مواضع محصورة تحتاج إلى بيان، وهذا ثقة بأن التنبيه على بحر القصيدة وعروضها وضربها يفتح للمطالع طريق البحث عن معرفة ما يعتور بعض الأعاريض من اضطرابات أو أخلال. فجاء هذا الشرح وما سبقه من تقديم للديوان، وألحقه به من تذييل، منية الطالب ورغبة الراغب.
* * *