الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستغراقية، إلى أن المراد في الأصل من التعريف العهد أو الجنس. فجاء الجمع تنصيصاً على الاستغراق. وتلك سنة الجموع مع أل هذه على التحقيق. وهكذا تصير الجمعية قرينة على الاستغراق وبطل منها معنى الجماعات، ويصبح استغراق الجموع مساوياً لاستغراق المفردات أو أشمل منه، خلافاً لما ذهب إليه السكاكي (1).
وصرّح الإمام في مقام آخر بتحقّق ذلك فقال: والذي ينبغي اعتماده أن استغراق المفرد والجمع في المعرّف باللام وفي المنفي بلاء التبرئة سواء. وإنما يختلف تعبير أهل اللسان مرّة بصيغة الإفراد، ومرّة بصيغة الجمع، تبعاً لحكاية الصورة المستحضرة في ذهن المتكلم والمناسبة لمقام الكلام.
* * *
3 - الصراط
بالوقوف على تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} نجد الإمام في تحرير كلمة الصراط يتحدث أولاً عن تعريفها وعن مادتها ووجوه قراءتها قائلاً:
الصراط: الطريق. وهو مستعار هنا لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله. وهو بالصاد وبالسين. قرىء بهما في المشهورة. ونطق به جمهور العرب بالسين، إلا أهل الحجاز فإنهم نطقوا به صاداً مبدلة من السين قصد التخفيف في الانتقال من السين، إلى الراء ثم إلى الطاء. وهذا سبق إليه أهل اللسان ودارسو اللهجات والأصوات عند العرب.
وفي تعليل هذا الإبدال في لغة الحجازيين يقول الجعبري كما
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 168 - 169.
في لطائف الإشارات: "إنهم يفعلون ذلك في كل سين بعدها غين أو خاء أو قاف أو طاء. وإنما قلبوه هنا صاداً لتطابق الطاء في الإطباق والاستعلاء والتفخّم مع الراء، استثقالاً للانتقال من سفل إلى علو".
وأشار بعد هذا إلى الاختلاف في كلمة صراط، أهي عربية أم معربة؟ وصرّح بأن أهل اللغة لم يقل أحد منهم إنها معربة. والذي ورد في الإتقان عن النقاش وابن الجوزي أن معناها بلغة الروم: الطريق. ولكن أبا حاتم ذكرها في كتاب الزينة له وقال: هي معربة. واعتمد ذلك السيوطي فزادها في منظومته في المعرّب (1).
ولئن كانت الأمثلة والنماذج التي قدمناها حتى الآن تصوّر مدى اهتمام الإمام الأكبر بأحكام اللغة وقوانين العربية، وأنه مع التمكن منها والعناية بها، قد استخدمها أبدع استخدام في الكشف عن المعاني والأغراض، معتمداً في هذا كله الضبط والدقة، فإن ما نشير إليه من عيّنات يجعلنا نلمس الوجه الآخر البديع المتمثل في مؤدّى التعابير والصيغ والتصرّفات القوليّة لنلمس الملامح الجمالية والإبداعية التي تشهد لها علوم البلاغة وأسرار العربية. ولا نمضي في طلب ذلك بعيداً. فالقرآن الكريم مادة لا تنضب، ولا تغيض محاسنه ولا روائع فن القول فيه.
وبالوقوف مرّة أخرى على ما جاء في بداية التحرير والتنوير عند الجملة الأولى من الفاتحة: الحمد لله، ووصفه سبحانه للصراط بالمستقيم، وحديثه عن الغضب في المغضوب عليهم، نطمع أن نستجلي أعمق المعاني معتمدين على الجوانب الفنية الإبداعية، والتصرفات البلاغية القولية.
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 190.