الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للسماحة وما يحصل من جفاء وبعد عن الهدي عند الاتِّسام بما يضادها بقوله: "إن للسماحة أثراً في سرعة انتشار الشريعة وطول دوامها، إذ أرانا التاريخ أن سرعة امتثال الأمم للشرائع ودوامَهم على اتباعها كان على مقدار اقتراب الأديان من السماحة. فإذا بلغ بعض الأديان من الشدّة حداً متجاوزاً لأصل السماحة لحِق أتباعَه العنتُ ولم يلبثوا أن ينصرفوا عنه أو يفرّطوا في معظمه"(1).
ولاعتبار السماحة أولَ أوصاف الشريعة وأكبرَ مقاصدها، يُرفع بها العنت والحرج عن الفرد والجماعة. وذلك حين يعرض لهم من العوارض الزمنية أو الحالية ما تصير به التكاليف مشتملة على شدّة عليهم، يأذن الرحمن في الرخصة فيها تخفيفاً على المكلفين، وحفظاً للإسلام على استدامَة وصف السماحة للأحكام (2).
الحرية:
وأما الحرية فلها أيضاً مقامها الأعلى في تصرّفات الناس وتقرير أحوالهم والرقي بهم. وهي كما صورها الإمام الأكبر خاطر غريزي في النفوس البشرية، فبها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل. وبها تنطق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق. فلا يحق أن تسام بقيد إلا قيداً يُرفع به عن صاحبها ضُرٌّ ثابت أو يُجلب به نفعٌ، حيث لا يقبل رضا المضرور أو المنتفع بإلغاء فائدة دفع الضرر وجلب النفع. وذلك حين يكون لغيره معه حظ في ذلك، أو يكون في عقله اختلال يبعثه على التهاون بضرِّ نفسه وضياع منفعتها (3). وبقدرِ ما يحرك هذا الخطاب إلى الاستمتاع بقدرٍ فائق من
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 27.
(2)
المرجع السابق: 27.
(3)
المرجع السابق: 163.
الحرية، نجد كلاماً آخر يختلف عن هذا، غير مناقض له لافتراق الجهة. وهو الذي يقول فيه الشيخ ابن عاشور:"الحرية من الفطرة. وهي مما نشأ عليه البشر، وبها تصرّفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت المزاحمة، فحدث التحجير"(1). وهذا المعنى هو الذي ردّده المحدثون في هذا العصر بقولهم: حرية المرء ليست مطلقة ولكنها تقف بل تنتهي عند وجود حق للغير ليس لها أن تتجاوزه.
وتحت عنوان الحرية المنشودة، يذكر المؤلف أصناف الحرية وأنواعها، مفصلاً ومقارناً. فيتحدث عن حرية الاعتقاد قائلاً: "هي أوسع الحريات دائرة، لأن صاحب الاعتقاد مطلق التفكير فيما يعتقده
…
وأمرها مختلف بين المسلم وغير المسلم. فهي عند الأول محدودة له بما جاء به الدين ممّا تتكوّن جامعة المسلمين بالاتفاق على أصوله. ولا تقبل من المسلم ردّة، لأنّ المرتدَّ خارج من الملّة ناقض للعهد. وهي عند المسلم فيما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة ثابتة فله الخِيرَة من أمره.
وحرية الاعتقاد عند غير المسلم من أصحاب الملل الخاضعين إلى حكومة الإسلام دلّت نصوص القرآن والسُّنة على أنهم يُدعون إلى الدخول في الإسلام، فإن لم يقبلوا دُعوا إلى الدخول تحت حكم المسلمين، فيصيرون من أهل الذمة. وكذلك أهل الصلح والعهد يبقون على أصل الحرية في البقاء على ما هم عليه من الملل، لأنهم لم يلتزموا للإسلام بشيء من عقائده (2).
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 162.
(2)
المرجع السابق: 172 - 173.
ويتحدث المؤلف عن حرية الفكر مما يشمل التفكير في الآراء العلمية، والتفقه في الشريعة، والتدبير السياسي، وشؤون الحياة العادية. وهذا النوع من الحرية لا يكاد يستقل بنفسه لارتباطه الوثيق بالقول أو العمل. وهو لا يرى في هذا تحجيراً، إذ يتعذّر كَبتُ الفكر عن الحرّية في المعقولات والتصوّرات والتصديقات. وأعلى مراتب هذه الحرية حرية العلم، أي فهم قواعد العلم المدوّنة. وعلى هذا الوضع من إطلاق الرأي والنظر في العلم في دائرة الأصول الإسلامية نشأ المجتمع الإسلامي في القرنين الأولين، فلم يُرح أحد عن رأي أو نِحلة، ولكنّه إن أخطأ أحد يُبين له خطؤه أو تقصيره بالتي هي أحسن، نصيحة له وتهذيباً، إلا إذا تبيّن منه قصد التضليل. وما حدث في التاريخ بين أهل النحل من نزاع وهرج إن هو إلا انحراف عن الجادة ناشىء في الأخلاق وظاهر في التعصّب، وفي الإفراط في التعصّب: وأكثره لا يخلو من إغراء الدعاة وأهل المطامع (1).
وحرّية القول تقوم أساساً على الصدق في الأخبار. "فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون عند الله صدِّيقاً. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"(2). وأعظم مظاهر حرية القول في الإسلام حرية القول في تغيير المنكر.
وحرية العمل أصل أصيل في الإنسان، ومقصد مهم من أصول النظام الذي وضعه الشارع للمجتمع الإسلامي، تدل على ذلك
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 174 - 175.
(2)
المرجع السابق: 175 - 177.