الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المهرة المتميزين بالعمق والدقة وجودة النظر، ووُضعت لها المناهج لكل سنة، يُعدّها المجلس العلمي بها، وينتقي لها أهم الكتب والمصنفات للدروس والبحوث والمحاضرات. وكانت تصدر في بداية كل سنة نشرة تضبط المناهج والأوقات، وترتب الدراسات والفنون التي يتعيّن الاشتغال بها لتمكين الطالب عند التخرج من الحصول على الملكة العلمية والنظرة الواسعة الفقهية واللغوية، والقدرة على البحث والاجتهاد فيما قد يعرض من الوقائع والنوازل المستجدّة.
زرع المُعَوِّقات وإقامة العقبات في وجه الإصلاح:
خشِيت سلطات الحماية من تفاقم الوضع، ومن تضافر جهود المواطنين على نقض أهدافها السياسية وتخطيطاتها الاستعمارية في كل المجالات. فحاولت أن تقضي على حركات الإضراب الطالبية بجامع الزيتونة وفروعه، مثلما قامت بشنّ حملاتها على العناصر الشبابية، ورجال الحركة القومية، وتسليط ألوان القمع والاضطهاد عليهم: إيقافاً وتعذيباً وسجناً وإبعاداً، متّهمة هؤلاء وأولئك بالتنكّر للمدّ الحضاري الأوروبي الذي أقامت عليه فرنسة سياستها في المستعمرات، وبالتآمر مع أعداء النظام على أمن الدولة والعمل على التخلص من الاحتلال بكل صوره وجميع مظاهره وأشكاله.
وهكذا لم تدع الإدارة الاستعمارية فرصةً تسنح إلا استغلتها من أجل إضعاف روح التكتّل القومي الهش، وفصل أتباعها السائرين على نهجها عن الثقافة العربية التونسية، كما عملت جاهدة على التحقير من شأن التعليم الزيتوني العربي الإسلامي أصليّه وعصريّه بصرف الناس عنه، مستعينة في ذلك بدعاة الفرنكوفونية الذين كانوا يسعون إلى مرضاتها، ويعملون جاهدين لاكتساب الأنصار من
المترددين وضعاف العزائم، موقرين في نفوسهم أن تقدم الشعب وتحقيق متطلباته لن يكون إلا بالخضوع للواقع، والسير وراء الأقوى، والأخذ بأسباب العزّة والقوّة من الحضارة الأوروبية القائمة، وإن أدى ذلك إلى اضمحلال الذاتية القومية بجميع مقوماتها وبالذوبان في الغير. وهو الاتجاه السياسي القديم الذي أملاه زويمر ودعا له من وقت احتلال فرنسة للجزائر عام 1830.
وتلت هذه الجهود الماكرة والدعايات السياسية المضلّلة ألوانٌ من التصرّفات الإدارية الاستعمارية، تمثلت:
أولاً: في تحجيم التعليم الزيتوني بعد انتعاشه.
وقد يكون من الضروري هنا أن نصف ما كان عليه التعليم بتونس من فوضى، وما كان عليه المعلمون والأساتذة من حيرة. فالتعليم الزيتوني الذي كان يشق سبيله في شعبتيه العلمية والعصرية بفضل الجهود الإصلاحية الذاتية، إلى الظهور على غيره والتقدم عليه، وجد من المواطنين إقبالاً وعناية. فهو بشعبته العصرية يمثل بادرة فريدة من نوعها، وتجربة رائدة في تاريخ التعليم المُعَرَّب بتونس. وازدادت أهمية واعتزاز المجتمع التونسي العربي المسلم به، لأنه تمكّن من جهة على المحافظة على أهمية العلوم العربية والشرعية، ومن جهة ثانية أقام تعليماً عصرياً تجهيزياً علمياً يعدّ خريجيه للتخصص في الجامعات الشرقية والغربية، كما لبّى رغبات الأمة في تحقيق التجربة الأصلية باستيعاب العلوم العصرية دون التفريط في علوم الشريعة الإسلامية (1).
(1) د/ علي الزيدي. تاريخ النظام التربوي، شعبة العصرية الزيتونية:382.
ووقع أثر هذا الصراع الموجه بين هذا المعهد الديني والعلمي في جميع مراحله، وبين المعاهد الأخرى المخالفة له مضموناً وهدفاً. فكان محاطاً بمعاهد ذات صبغة ومناهج فرنسية ترمي إلى فرنسة العقول بإخضاع تلامذتها، لما يخضع له التلميذ الفرنسي، والنوع الثاني من التعليم كان مقصوراً على المدرسة الصادقية والمعاهد التي جرت مجراها، وكانت تمثل التعليم التونسي خالياً - أو يكاد - من العلوم الإسلامية.
وحين اشتد الصراع وطغى العدوان الفرنسي قام ساسة ومفكرون تونسيون بإدخال أنواع من التطوير، تأكد بها القضاء على المعهد والجامعة الزيتونية. وكان هذا التصرف على مراحل: أولاً بإلحاق هذا التعليم بوزارة التعليم بعد أن كان من نظر رئاسة الحكومة ثم من نظر وزارة الدولة والمؤسسات الإسلامية. واستمر دعاة الإصلاح والمسؤولون عنه يحرصون على تعريب التعليم، ثم على توحيده. وكان من آثار ذلك فقط ترك التعليم الزيتوني مقصوراً على التعليم العالي دون أن تكون له روافد تسنده. ورغماً على الإصلاحات الجريئة تبخرت شعبة (أ) للتعليم العام التي كانت محط الآمال. وفصل الإمام عن المشيخة، وذَوَتْ الزيتونة وتعليمها العالي.
وتواصلت قبل ذلك صور القمع والهدم للزيتونة، فكان من ذلك:
أولاً: إيقاف حركة إنشاء الفروع الزيتونية.
- التضييق على موارد التعليم الزيتوني بالحد من الاعتمادات المالية الضرورية للقيام بشؤون التعليم على الوجه المطلوب.
- منع الأساتذة التابعين لإدارة التعليم والمعارف من الإسهام بدروسهم بالشعبة العلمية والعصرية قصد تحقيق النهضة العلمية الزيتونية.
- حجب تأشيرة الدخول للمملكة عن كثير من الأساتذة الضيوف الذين يتعاونون مع الزيتونة في نطاق تبادل الزيارات.
وثانياً: دعوة مجلس الإصلاح للتعليم الزيتوني للانعقاد في محرّم 1369/ مارس 1950. وحمله على اتخاذ قرارات تعسّفية مناقضة لما تمّ اعتماده من تدابير للنهوض بالتَّعليم في الجامع الأعظم.
وثالثاً: بثّ الفتنة بين أساتذة الزيتونة وتقسيمهم إلى مؤيدين للإصلاح ومناهضين له، وزعزعة الحركة الطالبية بإيجاد الفُرقة والنزاع بين الكتلة وصوت الطالب.
ورابعاً: إيقاع المصادمات المفتعلة بين رجال الزيتونة من أساتذة وطلاب، وبين العناصر الوطنية عن طريق التحريشات المدبرة والسعايات الحاقدة.
وقد كانت نهاية هذه التطوّرات إقصاء فضيلة الشيخ الجليل محمد الشاذلي بِالقاضي عن إدارة المدارس التي ساسها بما عرف به من عزم ورعاية وحكمة. وذوت الزيتونة أو كادت، وعاد عزيز أباظة يشيد بدورها الخالد في قوله:
يا حجة الإسلام إنك، إن دَجَتْ
…
رِيَبٌ عليه، سراجُه الوضّاءُ
تحمين حوزته كما تحمي الألى
…
والوا إليها القلعةُ العصماء
فإذا امتَحنت فعزمةٌ سلَفيّة
…
وإذا هززتِ فصخرة صماء
نشروا على دنيا العروبة علمَهم
…
وصلاحَهم أعلامُك العلماءُ
وعلى المطهّر من حماك تفقّه الـ
…
ـحفّاظ والقرّاء والحكماءُ
ولم تفتر حركة الإصلاح بعد ذلك. فتتابع التجديد والنظر في برامج الشعبتين الأصلية والعصرية، واستمرت إرساليات الخريجين
إلى المشرق وإلى أوروبة، كما تحصّل الطلاب بعزمهم الشديد وصبرهم وصمودهم على بناء مراكز مناسبة للتعليم الزيتوني.
ثم تعطّل ذلك كله بعد اتخاذ القرارين الحكوميين القاضيين بتوحيد القضاء بالبلاد التونسية، وبتوحيد التعليم في كل المدارس والمعاهد الابتدائية والثانوية.
ومع تزايد الإقبال على الزيتونة من طرف طلاب العلم، وأمام تكاسُل الإدارة الاستعمارية وقعودها عن تشجيع هذه المؤسسة الأم للتعليم ببلادنا، قامت إدارة الجامعة الزيتونية باستئجار كثير من الدور والمنازل الكبيرة لإيواء شُعَب التعليم بأقسامها، كما أسَّست بالتعاون مع أهل البر والإحسان في بلادنا مقراً كبيراً لإقامة الطلبة، هو الحي الزيتوني. ومن مظاهر التطوير العلمي للتعليم الزيتوني تعديل المناهج، واختيار الكتب الصالحة للتدريس. وبدأت حركة التأليف تظهر بتونس في مختلف العلوم كالرياضي والطبيعي منها باللغة العربية.
ولا بدع إن تغنّى الشعراء بهذه النهضة الكبرى المباركة، أو فاخروا بهذه الأمجاد الرفيعة. فقد جاء من ذلك على لسان مصطفى خريف:
فدى لأبي الزيتونة القرم وابنها
…
وشيخ علاها، جاحد الفضل كافره
لقد كاد نور العلم فيها لينطفي
…
فأوقده الشهم ابنُ عاشور طاهرُه
إمام على نهج الحقيقة سائر
…
هَداه إلى نهج الحقيقة فاطرُه
أخو عزمات لا تلين لغامز
…
ورَبُّ مزايا ليس تفنى مآثره
* * *