الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - أحمد بن أبي الضياف
هو الوزير المؤرخ والفقيه الأديب أبو العباس أحمد بن الحاج أبي الضياف بن عمر بن أحمد العوني 1219/ 1804 - 1291/ 1874. كان من أعلام السياسة وأقطابها في عهدي المشيرين: الأول أحمد باي، والثاني مَحَمد باي.
حفظ القرآن في صغره بمكتب سيدي ابن عروس، ثم دخل جامع الزيتونة فتخرّج على أئمته. وأخذ عن مشايخ الإسلام إسماعيل التميمي ومحمد بيرم الثالث وإبراهيم الرياحي ومحمد ابن الخوجة، وعن القاضي الشيخ محمد البحري بن عبد الستار، وعن المفتي الشيخ أحمد الأبي، وعن العالم الصالح الشيخ محمد بن ملوكه، وعن الكاتب البارع محمد بن سليمان المناعي. برع في علوم الوسائل والمقاصد، وبرّز في قلم الإنشاء على طريقة لسان الدين بن الخطيب.
بدأ حياته العملية بخطة العدالة، ثم اختاره الأمير حسين باي لكتابته الخاصة قبل أن يُلحقه بديوان الوزير محمد شاكير صاحب الطابع. وهكذا ذاع صيته وبزغ نجمه، وأصبح مضرب الأمثال في صناعة الكتابة حتى تمثلوا فيه قول الشاعر:
وإن أقرّ على رقّ أناملَه
…
أقرّ بالرقّ كتّاب الأنام له
وهو إلى ذلك من أبدع الناس نظماً وأجودهم شعراً. وأول من
كتب من الإيالة للدولة العلية بالقلم العربي. له رسالة في المرأة، ومقامة دعاها المقامة البشرية في الأنوار البشيرية.
تقلد المراقب العسكرية، فتدرّج من آلاي أميني وقائم مقام إلى أمير لواء وأمير أمراء. ولِما ظهر فيه من القدرة والفطنة وليَ السفارة بإستانبول مرتين، وانتقل من كاتب سرّ الباي إلى وزيره. صاحبَ المشير الأول أحمد باي في زيارته إلى باريس، وعيّن عضواً بمجلس المشير الثاني مَحَمد باي. وفي عهد المشير الثالث محمد الصادق باي سماه الأمير عضواً بالمجلس الأكبر المنبثق عن عهد الأمان.
وإن محبته للوزير خير الدين، وتقديره لآرائه، وإعجابه بتصنيفه لأقوم المسالك جعله يقول في تقريظه:"فرأيته كالصبح في الدجى الحالك، يحذّر السالك من مهاوي الغرور والمهالك، فزادك الله كمالاً على كمالك. أوضحتَ فيه من قواعد شريعتنا المحمدية الصالحة لكل زمان، بما فيها من اعتبار المصالح والاستحسان، ما يروي الظمآن بأبلغ بيان، حتى اتَّضح سرّها للعيان، وبيّنتَ أسباب التقدم في المعارف التي أساسها العمران، الذي جاءت به الشرائع والأديان، على أعذب أسلوب جاذب للقلوب. وقمت فيه بشهادة الله مقام علماء الدين والأئمة المهتدين، بنقل ما حررته عن أولئك المجتهدين، فكان كتابك في ذلك كسراج المهتدين"(1).
وبعد ذلك بدأ نجم ابن أبي الضِّيَاف في الأفول في الأشهر الأخيرة من سنة 1281/ 1864، بعد أن حيكت له من الخصوم والمزاحمين الدسائس. ففقد حظوته بإبعاده من السلطة، ولم يعد له
(1) المنصف الشنوفي. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك لخير الدين التونسي، تقديم وتحقيق:(2) 2/ 866.
أي نشاط ظاهر. وتدارك أمرَه صديقُه خير الدين في تلك الآونة لما كان بينهما من صفاء ومودة. فسمي عضواً في اللجنة المكلّفة بمحاسبة الجنرال أحمد زرُّوق، وعيّن بعد ذلك مستشاراً أولاً بالقسم الثالث بالوزارة الكبرى، قيِّماً على الأحوال الشخصية بما له هناك من الصلاحيات القانونية. وبظهور التعاطف بينه وبين الوزير خير الدين، وتقدُّم العمر به، ازدادت مضايقة الوزير الأكبر مصطفى خزنة دار له. واضطَره الأمر إلى الاستعفاء من أعماله ومهامه في الدولة في ذي قعدة 1288/ فيفري 1872. وقد سعى الوزير خير الدين لدى الأمير محمد الصادق باي لإعطائه مرتباً عمرياً تقديراً لما كان له من خدمات، كما اشترى منه مجموعة كتبه التي أودعها الوزير خير الدين المكتبة الصادقية بالجامع الأعظم (1).
ولقد كانت الفترة، التي قضاها ابن أبي الضياف في الأعمال الإدارية والكتابة في الديوان، والممارسة لشؤون السياسة في الدولة الحسينية طويلة لا تقلّ عن خمسة وأربعين عاماً من حين ضَمَّهُ الأمير حسين باي إلى كتابته الخاصة، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة في أوائل شوال 1142/ أبريل 1827، إلى حين مغادرته القصر نهائياً قبل وفاته بعامين.
وفي الأيام القليلة التي بقيت من عمره، والشبيبة ولّت، والقريحة كلّت، والقوى ألقت ما فيها وتخلّت، عكف على تدوين تاريخه الشهير المعروف بإتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان. وقد جعله على مقدمة ذات عقدين: العقد الأول هو خلاصة آرائه وآثار تجربته، ومظهر إصلاحه ومجتلى دعوته، والعقد الثاني
(1) محمد محفوظ. تراجم المؤلفين التونسيين: 3/ 266، 323.
رواية وتلخيص. ففي تمهيده إلمام بأخبار أمراء إفريقية من الصحابة والتابعين ومن خَلَفَهم، وحديث عن بيوت الملك في القيروان والمهدية وتونس على الإجمال. وأبواب الكتاب بعد ذلك ثمانية للملوك بعددهم، لم تدوّن أخبارهم، ولا قيّدت آراؤهم من أحد قبله. وهي القصد من التأليف. عرّف فيها بالملوك وسيرهم، والأحداث التي حصلت في عهودهم. لم يبخل فيها عن ذكر رأيه ببيان الأسباب للمسببات، وعوامل الهزّات والفتن والاضطرابات، ونتائج الأحداث المتعاقبات، مع بذل النصيحة لمستحقيها، وعرض المواقف وتوثيقها ونقدها. وقد ضمن كتابه ما خطه بقلمه في تلك المناسبات من رسائل للساسة والعلماء عن ملوك الدولة أو عن نفسه، وارتفعت بذلك أهمية تصنيفه، خاصة بما حواه من شهادات معاصرة.
وأقبل الناس من حين فراغه منه على استنساخه وقراءته وروايته وتهادي نسخه على قِلَّتها، رغبة في الوقوف على ما فيه، والحصول على فوائده ودراريه. ولعل مما يتأكّد ذكره من أعمال ابن أبي الضياف وآرائه الإصلاحية الاجتماعية والسياسية يكمن في قضايا باشرها، وملاحظات سجّلها، وأفكار ارتآها، وتيارات سايرها أو كان له أثر فيها. ومن أبرز ما نحتاج إلى بيانه من ذلك قضية عهد الأمان التي جعلها المؤلف جزءاً من عنوان تاريخه، تنبيهاً إليها وتنويهاً بها، وتأكيداً عليها، بسبب ارتباطها بالتنظيمات الخيرية التي دعي إلى تطبيقها في كل الإيالات من طرف ولاتها وحكامها. وكما ألمعنا إلى هذا من قبل فإن نصوصها وقوانينها صدرت بعاصمة الخلافة: خط شريف كلخانة 1839، وخط همايون 1856. وهي من الدولة العثمانية ضبط للنظام، وأولى خطوات الإصلاح التي اقتضتها
مصالح العباد والبلاد. قد تدخلت السلط الأجنبية ومن يمثلها لدى الدولة العلية للالتزام بها وتطبيقها. وورد على الإيالة التونسية في محرم 1256/ مارس 1840 فرمان بها من السلطان عبد المجيد إلى المشير الأول أحمد باي. فجمع هذا له رجال الدولة وأعيانها. وبعد عرضه على أسماعهم أعلن الباي امتناعه من تطبيق التنظيمات قائلاً: "إن هذا غرض محمود، ولا بد من زمن لإبرازه إلى الوجود، لاختلاف الطباع والبقاع، وهو أمر لا محيص عنه ولا بد منه"(1).
وتدخل بعد ذلك الصدر الأعظم في الأمر فلقي نفس الصدود والإعراض. وحرص قنصلا فرنسة وإنجلترة روش ووود على الباي بشتى الطرق، وكان من أخطرها إبحار أسطول فرنسي في مياه تونس في أغسطس 1856، دعا قائدُه الباي على لسان دولته إلى إعطاء الحرية والأمن للرعية بالاستجابة للأمر السلطاني خط همايون. فما كان من المشير الثاني محمد باي إلا أن سارع بقبول الإصلاحات، تاركاً الناس من حوله منقسمين إلى فئتين: فئة يمثلها الجنرال حسين الذي يرى في هذه الإصلاحات تحكيماً للقوانين بدل الشريعة، وانتزاعاً للسلطة من أيدي أربابها بإسنادها إلى المجالس والمحاكم التي جاءت بتأسيسها التنظيمات، وألحّ على إيجادها قناصل الدول الأجنبية، وفئة ثانية مقتنعة بالإصلاحات، قابلة لها. أبرز من يمثلها الوزير الأكبر مصطفى خزنة دار ووزير البحر الجنرال خير الدين.
أما ابن أبي الضياف فقد كان في تلك الآونة من المتردّدين الرافضين بدعوى أن الإصلاحات ستغلّ أيدي الباي. وكان ردّ المشير
(1) المنصف الشنوفي. تحقيق أقوم المسالك لخير الدين: 18 - 19.
على ذلك حاسماً حين قال: "أرضى بفقد حرية التصرّف من أجل نفع الرعية"(1)، والباي متأثر في موقفه هذا بمقالة شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع:"إننا نخشى غضب الدولة العلية، وأصول التنظيمات لا تخالف ديننا"(2)، وكان هذا جارياً على رأي شيخي الإسلام عارف بك بالآستانة، وإبراهيم الرياحي بتونس.
وبتكليف ابن أبي الضياف بصياغة قانون عهد الأمان الذي يعتبر صورة من التنظيمات الخيرية وتطبيقاتها، وبالاستجابة للفرمان السلطاني استبشر خير الدين بموقف المشير الثاني، ودعا له "أن يمنحه الله من يعينه بنصائحه على إعداد نص القانون التنفيذي". واعتبر المؤرخون وأهل تونس هذه الإصلاحات نهاية للمجتمع الإسلامي التقليدي، وبداية مسارٍ آخر لا يعلم منتهاه إلا الله (3).
وفحوى عهد الأمان الذي تمّ الإعلان عن قانونه بمجلس الباي بحضور أعضاء الحكومة، وأهل المجلس الشرعي، والأعيان، ورجال الدين من الملَّتين اليهودية والنصرانية، وقناصل الدول، والأميرال الفرنسي في 20 محرم 1274/ 9 سبتمبر 1857، تتمثل فيما نصت عليه بنوده، وتعهد به الباي من ضمان مساواة كل رعاياه أمام القانون، وأمام الضرائب، كما أعلن فيه عن تأسيس محاكم تجارية مختلطة لفض النزاعات بين التونسيين والأجانب، وتنظيم الخدمة العسكرية، وضمان حرية الأديان، ومنح الأجانب حق ممارسة كل المهن، وحق الملكية العقارية في البلاد (4).
(1) ابن أبي الضياف: 2/ 266.
(2)
كريكن: 5 - 7.
(3)
كريكن: 8 - 9.
(4)
ابن أبي الضياف: الإتحاف: (2) 4/ 268 - 271.
وحين قال بعض المتزلّفين في مجلس الباي عند قراءة شرح المادة الأولى من قانون عهد الأمان - وهي كما ذكر ابن أبي الضياف قاعدة كل القواعد - أي شيء بقي لسيدنا؟ ردّ عليه الوزير خير الدين، وكان أثبت القوم جناناً وأقواهم إيماناً: بقي لسيدنا ما بقي للسلطان عبد المجيد، وما بقي لسلطان فرنسة، وسلاطنة بريطانية، وغيرهم من السلاطين بالقانون (1). وفي ذكر هذا دلالة صريحة على تغير اتجاه ابن أبي الضياف في نظرته إلى نظام الحكم، وهو ما وضع لتحليله العقد الأول من مقدمة تاريخه كما ذكرنا.
فالملك أو الحكم لديه منصب ضروري للنوع الإنساني. وهو واجب على الأمة شرعاً، راجع إلى اختيار أهل الحل والعقد فيها. وهو ثلاثة أصناف: ملك مطلق، وملك جمهوري، وملك مقيد بقانون شرعي أو عقلي سياسي (2). وتتضح من المقارنة بين الأصناف الثلاثة خصائص ومميزات ينفرد بها كل صنف منها. فالمَلِك المطلق يسوق الناسَ بعصاه إلى ما يراد منهم بحسب اجتهاده في المصلحة، والملك فرد غير معصوم. وأجساد الخلق منساقة منقادة له انقياد البهائم والأنعام، خوفاً من حاميته التي جعلها آلة غلبته وقهره، وربما حصل من هذه السياسة انطباع الرعايا على صبغة الانقياد والتسليم بما تخلقوا به من ذلّ المغارم والقهر الذي جدع أنوف آبائهم، ومحا عزّة نفوسهم بمرور السنين.
وهذا الصنف من الحكم مرفوض شرعاً وعقلاً، لأنه تصرف في عباد الله وبلاده بالهوى - والشرائع إنما جاءت لإخراج المكلف من
(1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 4/ 276 - 277.
(2)
المرجع السابق: (2) 1/ 7 - 9.
داعية هواه - ولما هو فيه من التغلب والقهر اللذين هما سبب العصيان والفتنة والثورة.
والاستبداد متى وقع زال معه الأمن، وبزوال الأمن يزول الأمل، وبزوال الأمل يزول العمل (1). وقد قرر ابن خلدون من قبل أن الظلم مؤذن بفساد العمران، كما أنه مفضٍ في تقدير ابن أبي الضياف إلى نقص في بعض الكمالات الإنسانية، حتى صار بعض أهل الجهات من المسلمين عبيدَ جباية، ليس لهم من مسقط رؤوسهم وبلادهم ومنبت آبائهم وأجدادهم إلا إعطاء الدرهم والدينار، عن مذلة وصغار، والربط على الخسف ربط الحمار، إلى أن زهدوا في حب الوطن والدار، وانسلخوا من أخلاق الأحرار. وهذا أعظم الأسباب في ضعف الممالك الإسلامية وخرابها (2).
وقد ذكر من صنوف الظلم وضروبه ما هو ترجمة بل صورة من واقع المسلمين في مختلف ديارهم، وحمله ذلك على دفعه، وردّه وإنكاره على النظم التي قامت عليها حكومات الإطلاق.
أما الملك الجمهوري فهو كذلك الذي يشاهد في بلدان أميركة وغيرها؛ يقوم الناس منهم باختيارهم من يلي سياستهم ومصالحهم لمدة معينة. فإذا تمت المدة، يخلفه غيره ممن يقع عليه الاختيار. وقد يستحسنون سيرة أحد رؤسائهم فيمدّدون له. ولا يجعلون لمن يقدم لرئاستهم وحكمهم شيئاً من فخامة الملك وشاراته، بل هو كواحد منهم، ينفذ ما يتفق عليه الرأي من أهل المشورة. ولهم في
(1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 1/ 11، 20.
(2)
المرجع السابق: (2) 4/ 1، 26.
ذلك قوانين يحترمونها احترام الشرائع المقدسة ويقفون عند حدِّها (1).
ولما كانت تونس دولة ملكية، كان الأصل أن تلتزم بقانون الملك الإسلامي من كتاب الله وسنّة رسوله، واستنباطات الأئمة المجتهدين وقياساتهم، وحفظ مقاصد الشريعة في تصرّفاتها مع الخاصة والعامة حتى يكون الملك الذي هو ضروري للمجتمع الإنساني جارياً على قانون قويم من الدين في شروط صاحبه، وما يجب عليه من العدل والرفق والأمانة، واتباع المصلحة وإن خالفت هواه، والاستشارة في الأمر كله، والانقياد لأوامر الله على لسان من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (2).
وحين امتدت العصور، واختلفت الأوضاع، انتبه السلطان العثماني سليمان القانوني إلى السبب الرئيسي في تغيّر الأحوال، فخطب في أهل ديوانه معلناً عن إحداث نظام للدولة. وجاء في خطابه:"سبحان الدائم الباقي الذي لا يزول ملكه. ها نحن سلكنا طريق آبائنا وأجدادنا، ولا نعلم ما سيكون بعدنا. وربما كانت ذريتنا فيهم الصالح والطالح، والمستقيم وغير المستقيم، والحائد عن الاستقامة ربما يكون سبباً لزوال هذا الملك بعد انتظامه وتشتيت الإسلام. وإني عزمت على جعل قانون يحتوي على تخويفٍ وردعٍ لمن يخرج من ذريتنا عن الصراط المستقيم"(3).
وفي هذا العقد الأول من مقدمته يلتفت ابن أبي الضياف إلى
(1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 1/ 37.
(2)
المرجع السابق: (2) 1/ 45 - 46.
(3)
المرجع السابق: (2) 1/ 47.
مسالك الغربيين في تنظيم دولهم، ويحيل على رفاعة الطهطاوي في الفصل الثالث من المقالة الثالثة من تأليفه تخليص الإبريز، يلخّص القانون الفرنسي تلخيصاً حسناً بديعاً، يقول فيه:"وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لِتعرِفَ كيف حكمت عقولهُم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيهم من يشكو ظلماً أبداً. والعدل أساس العمران"(1).
وعلى هذا النحو جرى الوزير المصلح خير الدين في أقوم المسالك، حيث جمع فيه من فرائد السياسة ما تتحلى به الرئاسة. عرَّبَ أكثره مما نقله من كتب فرنسية بأسلوب ممتع غريب المنحى، يشهد لصاحبه بالتقدم وقوة العارضة (2).
وابن أبي الضياف وهو يُوَجِّه إلى هذا المنحى السياسي، على الوجه الذي دلّ عليه الطهطاوي ورغّب فيه خير الدين، لا ينسى أن يؤكّد ذلك بمقالات الفقهاء والمؤرخين أمثال الشاطبي في مقاصده، وابن خلدون في مقدمته. وهو مثلُ معاصريه لم يُخْفِ إعجابه وانبهاره بما شاهده في رحلته إلى فرنسة حين كان في معيّة المشير الأول أحمد باي. نلمس ذلك في قوله يشيد بما رآه في باريس: "هي الغانية الحسناء، الباسمُ ثغرها في وجوه القادمين، مشحونةٌ بأعاجيب الدنيا، جامعة لأشتات المحاسن، ينطق لسان عمرانها الزاخر بقوله: كم ترك الأول للآخر. ما شئت من علوم وصنائع، وثروة وسياسة، وطرق
(1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 1/ 60.
(2)
المرجع السابق: (2) 1/ 60.
وحضارة، وعدل تزكو أنواره. تموج شوارعها بالساكن في مراكز الأمن ومضاجع العافية .. يقودهم الأمل، ويسوقهم الحرص على العمل" (1).
ولو حاسب المشير الأول نفسه، وهو يشاهد ما شاهده في رحلته الباريسية، لتأثّر لما تأثّر به وزيره وكاتبه خير الدين، وابن أبي الضياف، ولوقف أمام هذا التقابل البغيض الذي يثير في نفوسهم كلهم الشعور بالمرارة:"حضارةٌ زاهية زاهرة، وعدلٌ وأمن، وتقدّمٌ وعلم، وثروة ورخاء في البلد المزور، يقابلها من وراء البحر المتوسط تخلف وظلم واضطراب وجهل وفقر وشدّة". وطبيعي في مثل هذه الأحوال البحث عن الأسباب لتلافي الأمر وتغيير الحال.
ومن أجل تصوير ذلك نكتفي بومضات تتبعها لمحات، نرجو أن تكون صادقة معبّرة. فاعتناء الدول الصغيرة والبلاد الفقيرة مثلاً بجمع العساكر فوق الحاجة وترتيبها وتدريبها، وصرف كل العناية إليها طلباً للأبهة والمفاخرة، والتشبّه بالدول الكبيرة والبلاد الغنية، تضطر الملوك إلى إحداث ضرائب ومكوس تؤثّر نقصاناً كبيراً في ثروة الدولة. وليس من الحكمة القيام بمثل هذا، والدنيا اليوم مؤسّسة على الحقوق. وهذا العسكر الذي بالغ المشيرُ الأول في جمعه، إن كان لحماية المملكة ودَفعِ الأجنبي عنها فالمحقق أن ذلك لا يقع وهو مطلب لا طمع فيه، وإن أُعدّ لدفع الضرر داخل المملكة فالظاهر أنه أكثر من الحاجة، وإن سرّحنا البعض فلا مانع من جلبه في وقته (2).
وانتقد ابن أبي الضياف هذا الأمير عند ترجمته له، وشنّع
(1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 4/ 110 - 111.
(2)
المرجع نفسه: (2) 4/ 28 - 29.
بتصرّفاته في قوله: "إنه ذو همة عالية استصغر بها ما أقامه الله فيه، فحمّل هذه الإيالة، على ضعف حالها وضيق مجالها، ما لا طاقة لها به من التقدم في ترف الحضارة، والاستكثار من الجند، والإفراط في تكثير قادتهم، وغالبُهم أسماء بلا مسميات، مع التفنن في الكرم الحاتمي، فجاد وما لديه قليل:
وأتعبُ خلق الله مَن زاد همه
…
وقصَّر عما تشتهي النفس وُجدَه
إلى غير ذلك من مقتضيات علو النفس والإمرة المطلقة، حتى تجاوز الحدود، وهو نقصان من المحدود، والتقدم للغاية تأخر عنها، والزيادة على الكفاية نقصان منها" (1).
وإذا زاد على ذلك فاستطالته أيدي العلماء وقع كما قال بعض الحكماء: الاختلال في بيوت الأموال، وجاء النقص يتبعه الاضمحلال (2). وذلك ما دعا دون شك إلى الإسراف في الاقتراض، ومضاعفة المديونية من الدول الأجنبية، مما هدّد استقلال البلاد، وسمح للدائنين بالتدخّل في شؤون الدولة والعباد.
وتفاقم العجز المالي في شعبان سنة 1269 عن صرف الرسوم المالية لعدم وجود المال الناضّ بها. وأسباب ذلك كثيرة: منها أن الباي مطلق التصرّف بمشيئته، وفي طبعه شغف بكثرة عدد العسكر النظامي لسياسة انفرد بها، ظناً منه أن الدولة العليّة سوف تغصبه على الأخذ بالتنظيمات ولو بحرب، وثمرة الجهاد تكثير سواد المسلمين، وثمرة التنظيمات إصلاح ما فسد من أمرهم المؤدّي إلى ضعفهم واضمحلالهم (3).
(1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 4/ 201.
(2)
المرجع نفسه: (2) 1/ 62.
(3)
المرجع نفسه: (2) 4/ 160.
ومنها سوء التدبير السياسي وتجنّب حُسن السلوك في التصرّف في شؤون الدولة. فلا أضرّ بالعمران وأَدْعى لأسباب الخراب من تقديم الأمر التحسيني على الواجب الضروري. ودليل ذلك المشاهدة والتجربة، لأن التحسين قبل استقامة ما يراد تحسينه تقبيح (1). ومن أجل ذلك كان من أفدح الأغلاط والأخطاء السياسية إقبال الأمير على التأنّق، والسرف في الكراريس (2)، وفي الأبنية الضخمة، وغير ذلك مما يدعوه ترف الحضارة. والناس على دين أمرائهم. وأنشأ النواشين (الأوسمة) على اختلاف مراتبها. وقبلها منه الملوكُ وأعيان الوزراء والأكابر من غير المملكة، وبالغ في كثرة إعطائها للناس، حتى قال له دقرنج مترجم سلطان الفرنسيس:"أيها السيد، إن النيشان لا يعمل السلطان، والسلطان يعمل النيشان"(3).
ولئن تتبعنا هذه الصور والنماذج وأمثالها في تاريخ ابن أبي الضياف لألفيناه بعد تقريره لأوجه الفرق القائمة بين الدول الأوروبية والدول الإسلامية في عهده، يدعو الملوك إلى حُسن السلوك والرشاد، والتغيير المبطل للفساد، واعتماد المشورة في كل أمر، وقبول النصيحة من أهلها، واتباع مناهج الفرنجة الذين بلغ العمران في بلدانهم إلى غاية يكاد السامع أن لا يصدّق بها إلا بعد المشاهدة. فألحَّ على ابتغاء الرقي والتقدم والعزة والمنعة بمسايرة النمط الأوروبي، والسير على طريقه في التدرُّج المعقول عند اتخاذ الأسباب لذلك. فإنهم أسّسوا قوانين عدل حتى استقرّ الأمن وذاقوا
(1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 1/ 72.
(2)
واحدها (كروسة) في العامية التونسية، معناها: العربات التي تجرها الخيل.
(3)
ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 4/ 186.
لذته وتفيؤوا ظلاله، وأقبلوا على شؤونهم بما وسَّع دائرة عيشتهم وثروتَهم، فقوي الأمل واستقام العمل.
وعندما دعتهم الحاجة إلى كثرته جعلوا المعامل لآلات الغزل والنسيج، ولُيِّن الحديد حتى تصرفوا فيه تصرّف النجار في ليّن أخشابه. وحين كثر المصنوع احتاجوا إلى إنفاقه بالبيع والشراء خارج أوطانهم، وأعون شيء على ذلك الخلطة. فسهلوا طرقها في البحر بالسفن البخارية، وفي البر بتأمين السبل وتمهيد الطرقات، واتخاذ ما يلزم من المراكب والعربات. وجعلوا البريد يحمل مكاتيب الخلطاء، واقتضت نهاية الحضارة نقل الأخبار فاستعملوا التلغراف.
وظهرت آثار العقول الصافية الناشئة في معهد الأمن المغذاة بلبان الحرية. كما أن ملوكهم يترفّعون عن الانتصاب للحكم بين المتداعين تفادياً من معاداة الناس، وأوكلوا الأمر إلى الحكام في مجالس الأحكام.
وهذا التدرج هو الذي أعانهم على ما يطلبونه من العمران، وسهّل عليهم أسباب الحضارة من غير تكلف. ذلك أنّ الأمر الضروري إذا تمّ على أحسن حال طلبَ بطبعه الأمر الحاجيَّ لما في الطباع من طَلَب المزيد، فإذا تمّ طَلَبَ بطبعه أوّل درجات التحسين. ولم يزل يتدرّج فيه بحسب قبوله واستعداده، ولو طمحت أنظارهم إلى التحسين من أول الأمر ما حصلوا على هذه الدرجة (1).
وتلك هي السُّنة في طلب الأسباب، والسعي وراء المقاصد على المنهج الرابح الذي دعا إليه الإسلام وأصَّلته الشريعة، وقضت به الحكمة، وهدت إليه سنن الراشدين في المنهجين السياسي والعملي، النظري والتطبيقي.
* * *
(1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 1/ 72 - 73.