الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العمل الإصلاحي للتعليم بالزيتونة
بجانب ما فطر عليه الشيخ ابن عاشور من تحليل دقيق، وعميق نظر، ونقد نافذ، سلَّطهُ في مجال التعليم على ذاته من السنة الأولى من مباشرته للتدريس، وقد تخرّج في ذلك العام بشهادة التطويع، اقترنت بنواحي نشاطه واهتماماته جوانب أخرى شجعته على الدعوة إلى الإصلاح، وعلى محاولته وبذل الجهد لتحقيقه، والمضي فيه بقوة واجتهاد.
وقد مرّ في خوضه لمعركة الإصلاح بتجربة كبيرة وفريدة أكسبته خبرة واسعة، وجعلته الأكثر معرفة بأحوال الزيتونة: جامعة، ومراكز تعليم، ومدرسين، وطلبة، وكتباً، وعلوماً، والأقدر على تقويم كل عنصر من هذه العناصر في ذاته أولاً، وبالإضافة إلى المحيط الفكري والثقافي والعلمي المعاصر ثانياً.
وللمضي قدماً في مجال الإصلاح والتغلّب على ما يوضع في طريقه من معوّقات وعقبات، نبّه الشيخ رحمه الله إلى شروط الإصلاح وواجباته، وجعل من نفسه بعزمه وسلوكه ومنهجه فيه مثالاً يحتذى، وقدوة لمن يروم من بعده القيام بمثل عمله، كلّما دعت الظروف أو الحاجة إلى ذلك، أو اقتضاه الأمر واستوجبته المصلحة.
شروط القائمين على إصلاح التعليم
من أبرز الخلال التي يتعيّن على القائم بعملية الإصلاح التحلّي بها الصبر على ما يمكن أن يلحقه من المكاره أو يناله من المكائد
والدسائس بسبب اختلاف الأنظار والآراء، ولانقسام الناس في هذا بين جامدين تقليديين لا يقدرون على شيء من التغيير، ومتطوّرين مصلحين يتّقدون عزماً وحماساً للتحول إلى الأفضل والأقوم.
وكذلك الصمود والثبات على المبدأ بصورة لا تني، وعزم لا ينثني في التلبس بالإصلاح والقيام بواجباته. ومنها الشجاعة على تغيير الأوضاع السيئة التي تمرّ بها مؤسسة الزيتونة، والصدع بالرأي الصحيح، مهما كانت منزلة المخالفين في الرأي قوةً وسلطاناً وجاهاً ودهاء وخبثاً ومكراً. ثم القدرة الفائقة على التنبيه إلى أسباب الانحطاط والتخلّف في كل ما يمسّ مظاهر الحياة الجامعية ولبابها، وعلى التذكير بالمسالك الكفيلة بإصلاحها وتغيير أوضاعها.
والنظرة الشاملة الواسعة هي تلك التي لا تقف عند إصلاح أوضاع الطلبة في مساكنهم ومعاهدهم، وانتظامهم وإقبالهم على دروسهم، وقيامهم بواجباتهم، أو عند إصلاح المدرسين والأساتذة بحملهم على القيام بعملهم على أكمل الوجوه، والتطوير والتغيير لمناهجهم، أو عند المؤلفات والكتب المعتمدة للتدريس بالدعوة إلى إصلاحها وتنقيحها، أو تعويضها بما يكون خيراً منها وأجدى في التنظيم العقلي والتكوين العلمي، مع تذييلها بما يتأكّد القيام به من تمارين وتطبيقات لا تعين على تكوين الملكات ومضاعفة قدرة الدارسين فحسب، ولكنها تمتد وتتطلع إلى علوم أخرى أصبح الناس في أشد الحاجة إليها وإلى المعرفة بها، بل والإتقان لها. فتكتب لدارسيها المشاركة في الحياة العملية، وترفع عنهم وصمة البعد عن واقع الحياة، بما يتطلّبه من تجهيز وإعداد. فالعلوم لا حدّ لها، والتخصّصات فيها متنوعة وكثيرة، والعلوم الرياضية والطبيعية والتقنيات المتقدّمة عماد القوة، وأساس التقدّم، وطريق الخير
والازدهار للأمة جمعاء. فإذا أَهملت ذلك وقنَعت بما دُونه، ذبلت زهرتها، وذهبت نضارتها، وأصبحت فريسة للأمم الأخرى ذات السيادة العلمية والتقدم الفكري والعلمي والثقافي.
فبتلك الشروط التي ألمعنا إليها قبل، وبهذه المجموعة من الصفات المميّزة، أمكن للإمام الأكبر أن يخترق أسوار المحافظين، وأن يحدث تغييراً ملموساً وتطوراً باهراً في حياة الزيتونة والزيتونيين. هذا، وإن لم يتمّ له في الولاية الأولى لمشيخة الجامع الأعظم مرادُه وغايتُه من العمل الإصلاحي لِقِصَر مدّتها أوّلاً، ولما أحكمه المعارضون للإصلاح من مقاومة نسفوا بها الجهود الإصلاحية ثانياً.
فقد نادى بالتغيير المدرسون أنفسهم بعد ذلك. وعقدوا في شوال 1363/ أكتوبر 1944 مؤتمرهم العلمي، ووضعوا فيه برنامجاً مفصلاً لخطط إصلاح التعليم، وانعقد إجماعهم على ذلك. ولما تبيّن لهم أنه لا يقدر على تنفيذ برنامجهم الإصلاحي غير الإمام الأكبر طالبوا بإرجاعه إلى المشيخة. وعقدت الحكومة لجنة للنظر في البرنامج المقدّم من طرفهم، ووافقت عليه في ذي القعدة 1363/ نوفمبر 1944. وبعد نحو ثلاثة أشهر في ربيع الأول 1364/ فبراير 1945 صدر الأمر العلي الملكي بتعيين الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور شيخاً للجامع الأعظم وفروعه.
* * *