الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
شَيخُ الْإِسْلَامِ الإِمَامِ الْأَكْبَرِ
مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عَاشُور
طبعَة وزارةِ الْأَوْقَاف والشؤونِ الإسلاميَّة
دوْلة قطَر
عَلَى نَفَقَةِ
حَضْرَة صَاحبِ السُّمُوِّ
الشَّيْخ حمد بن خَليفَة آل ثَانِي أَمِير دولة قطر - حَفِظَهُ الله -
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة
1425 هـ - 2004 م
صورة الإمام الأكبر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور
رموز وإشارات
دواوين السنة:
[خَ] صحيح البخاري.
[مَ] صحيح مسلم.
[دَ] سنن أبي داود.
[نَ] سنن النسائي.
[تَ] سنن الترمذي.
[جَه] سنن ابن ماجه.
[حَم] مسند أحمد.
[طَ] الموطأ.
[دَي] سنن الدارمي.
[هق] سنن البيهقي.
[ك] مستدرك الحاكم.
[()] وضع النص القرآني بين قوسين مع ذكر اسم السورة ورقم الآية بالحاشية.
[" "] وضع نص الحديث بين هلالين، يلحقه التخريج بالحاشية.
الهلالان يحصران العناوين كأسماء الفنون أو العلوم.
[[]] بين العاقفتين الكلام المنقول أو المستدرك غير ما أثبت في النص مما وقع السهو عنه أو إغفاله.
[،] التفريق بين أجزاء الجملة.
[.] نهاية الجملة.
[؛] الإشارة إلى ترتيب أجزاء الجملة مع الحفاظ على استقلالية مدلولها الخاص بها.
[:] ما بعدها يكون بيانًا لما قبلها أو تفصيلًا.
[
…
] إشارة إلى اختصار في القول أو في النقل.
[إلخ] وما بعده.
[/] الفصل بين رقم الجزء ورقم الصفحة.
الفصل بين التاريخين الهجري والميلادي.
علامة على بداية الصفحة الجديدة من النص الأصلي المحقق.
[*] نجمة تشير إلى أن التعليق من المؤلف نفسه: أثبتت في المتن وفي التعليق.
[=] علامة مساواة توضع في الهوامش بين طبعات الكتاب المتعددة، مع وضع رقم الطبعة بين قوسين.
[؟] علامة الاستفهام.
[؟!] للاستفهام الإنكاري.
[!] نقطة التعجب عقب ما يكون محل استغراب أو إبداع.
[اهـ.] تشير إلى انتهاء النص من نقل أو غيره.
[ب] البغدادي.
[تع.] تعليق.
[ح] حديث.
[د] ديوان.
[ط.] الطبعة ويوضع بجانبها رقمها، وكذا الثانية.
[ع.] ابن عاشور؛ عدد.
[ف] فقرة.
[مخط.] المخطوط.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
سعادة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
في دولة قطر
أحمد بن عبد الله المُرِّي
الحمد لله الذي جعل التفقُّه في الدين سبيل خيريَّة الأمة المسلمة، وطريق وَعْيها، ونهوضها، وتحقُّقها بالحَذَر والوقاية الحضارية، وحمايتها من الضلال، وجعل النُّفْرة للاجتهاد، والكسب الفقهي، من الفروض الكفائية على الأمة عامة، ومن الفروض العَيْنية على القادر عليها، المتخصِّص بها. فقال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1).
واعتبر النُّفْرة للاجتهاد، والتفقُّه في الدين، مقدَّمة على النُّفْرة للجهاد ومدافعة الظالمين، وحماية الأمة من تسلُّط الأعداء، حتى يأتيَ الجهاد على بصيرة، واضح المقصد، بيِّن الهدف، مُنْضبطًا بضوابط التشريع، بعيداً عن الانفجارات العشوائية، وهَدْر الطاقات، وشتات الأمر، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
(1) التوبة: 122.
أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
…
} (1)، وأولي الأمر هنا أهل الفقه في الدين.
والصلاة والسلام، على الرحمة المهداة، الذي كان المقصد من رسالته وشريعته، إلحاق الرحمة بالعالمين، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2)، الذي بَيَّن أنَّ خيريَّة الأمة المسلمة، إنما هي بسبب التفقُّه في الدين، وأنَّ استرداد هذه الخيريَّة اليوم، مَنُوط في الفقه في الدين فقال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"(أخرجه البخاري).
ذلك أنَّ الفقه في الدين، ومعرفة مقاصد التشريع، مؤشِّر الخيريَّة، وأن الكثير من الإصابات والهزائم والعجز عن النهوض، كان بسبب غياب الفقه الصحيح بالدين، والقعود عن النُّفْرة للتفقُّه في الدين.
ولقد أشار القرآن في مواضع كثيرة، إلى أن السقوط والهزيمة تتأتَّى من غياب الوعي، والفقه، بالمعنى العام. وكثيراً ما عَلَّلت الآياتُ، سبب الهزائم بوصف المهزومين بقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (3).
ونسارع إلى القول: بأن الفقه في الدين، لا يتحقق بحفظ الأحكام الشرعية فقط، فقد يكون هذا حَمْلًا للفقه، وليس فِقْهاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أفقَهُ مِنْهُ"(أخرجه الترمذي).
(1) النساء: 83.
(2)
الأنبياء: 107.
(3)
الحشر: 13.
ومن هنا ندرك بعض أبعاد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، بقوله:"اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ"(أخرجه الإمام أحمد)، فكان ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم حَبْرَ الأمة، بما وَعَى، وبما فَقُه، من إدراك العواقب، والمآلات، (وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) في ضوء سنن الله وأقداره الفاعلة في الحياة.
وبعد:
فهذه الطبعة الأولى من كتاب "مقاصد الشريعة" للإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله، بتحقيق فضيلة معالي الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، تضطلع بطباعته والإشراف عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، على نفقة حضرة صاحب السمو أمير دولة قطر الشيخ حَمَد بن خليفة آل ثاني حفظه الله ورعاه.
وقد لا نكون بحاجة للتدليل، على أهمية عِلْم مقاصد الشريعة، بالنسبة للمجتهد، بشكل خاص، والمسلم بشكل عام، يقول فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجمع الفقه الإسلامي، حفظه الله: "فهذا العلم الشريف يثمر فيما وُضِعَ له، معرفة غايات جنس الأحكام، وحِكَمَها، ومقاصِدَها ووظيفتها، وما تَهدي إليه، وتدلُّ عليه من حفظ نظام العالم، وتحقيق مصالح العباد في الدّارَين
…
وهذا العلم المتميِّز، هو أحد رُكْني علم أصول الفقه، الموضوع لدلالة الفقيه على معرفة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، من أدلَّتها التفصيلية، وكيفية الاستدلال بها" (1).
(1) تقديم الشيخ بكر أبو زيد لكتاب الموافقات للشاطبي رحمه الله.
ويقول الشيخ عبد الله دراز رحمه الله في بيان علم المقاصد: "وهذه الشريعة المعصومة، ليست تكاليفها موضوعة حيثما اتَّفق، لمجرد إدخال الناس تحت سلطة الدين، بل وُضعت لتحقيق مقاصد الشارع، في قيام مصالحهم في الدين والدنيا معاً، ورُوعي في كل حكم منها، حفظ الضروريات الخمس: (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال) التي هي أسس العمران المرعية في كل ملَّة، ولولاها لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة"(1).
ولعلَّ أول من أنضج منهجاً واضحاً، في علم مقاصد الشريعة، هو الإمام العالم الفذّ أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي رحمه الله المتوفَّى (790 هـ) في كتابه الموافقات، يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: إن الإمام الشاطبي رحمه الله هو: (الرجل الفذُّ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين)(2)، حتى لقد اعتبر الشيخ رشيد رضا رحمه الله أنَّ الشاطبي يُعَدُّ بكتاب - (الموافقات مقاصد الشريعة) - نظيراً لابن خلدون في المقدمة (3).
ولا يخفَى على الباحثين: بأن الامتداد بعلم المقاصد، ولمح آفاق جديدة ومقاصد جديدة، وتطبيقات معاصرة، لم يتحقق بالشكل المأمول، إلا من خلال بعض البحوث والرسائل الجامعية، التي قد تكون ساهمت باستدعاء الموضوع وطرحه، على ساحة الاجتهاد الفكري والفقهي، وجعل حَبْل التفكير موصولاً بهذا العلم المهم، الذي يضبط حركة الاجتهاد بمقاصدها وأهدافها، ويخرج بها عن أن
(1) مقدّمة كتاب الموافقات للشيخ مشهور بن حسن آل سلمان.
(2)
المرجع السابق نفسه.
(3)
المرجع السابق نفسه.
تكون قواعد تجريدية نظرية، هي أقرب للجدل، وعلم الكلام، منها للتمكين من أدوات تحقيق المقاصد الشرعية، حيث عجز الكثير من المشتغلين بها عن تعدِّيه تلك القواعد إلى الإتيان بمثال آخر، غير ما استدلَّ به الأقدمون. فالمثال الواحد يتكرر بتكرار التأليف، وعدد الكتب المؤلفة، دون القدرة على الإتيان بمثالٍ جديد، أو معاصر، مما يدلُّ على أن الحركة الفقهية تجمدت، وظلَّت تراوح مكانها بشكل أو بآخر.
ولعل كتاب: مقاصد الشريعة المحقَّق، الذي نضطلع بطباعته، يمكن أن يشكِّل نَقْلة نَوْعيَّة، ومَعْلَمة كبرى، ومنهجاً نضيجاً، في فقه المقاصد، خاصة وأن مؤلفه هو الإمام العالم المجدِّد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله، وأن محقِّقه هو فضيلة الشيخ الحبيب ابن الخوجة حفظه الله.
يقول الشيخ محمد الطاهر مبيناً عمله حيال مقاصد الشريعة: "فنحن إذا أردنا أن ندوِّن أصولاً قطعية، للتفقه في الدين، حقَّ علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه، المتعارفة، وأن نعيد ذوبَها في بوتقة التدوين، ونعيِّرها بمعيار النظر، والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة، التي عَلِقت بها، ثم نعيد صَوْغ ذلك العلم، وتسميته عِلْم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله، تُستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية (1).
أما الدافع إلى تأليف كتاب المقاصد، فيقول الشيخ: "الذي دعاني إلى صَرْف الهمَّة إليه، ما رأيت من عُسْر الاحتجاج، بين المختلفين، في مسائل الشريعة، إذ لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلَّة
(1) مقاصد الشريعة، للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، ص 22.
ضرورية، قريبة منها، يذعن إليها المكابر، ويهتدي بها المشتبه عليه" .. ففكرة الحدِّ من التشتت الفقهي كانت مسيطرة عليه، فإن منطلقه والغرض الذي رسمه لهذا العلم، هو أن يصل في مقاصد الشريعة، إلى تأسيس ما هو كلِّي عام، يكون كفيلاً عندما يتحاكم إليه الفقهاء، والأصوليون، بأن يقطع جدلَهم .. (1).
ولعلَّ جهود ابن عاشور رحمه الله الذي أفاد من كتاب الإمام الشاطبي في الموافقات اتجهت إلى الارتقاء بالمقاصد، ليصير علماً قائماً بحدِّ ذاته، تُنتخب مسائله من بين علم أصول الفقه، لتصبح أصولاً قطعية للتفقه .. والحقيقة العلمية التي لا مجال للتشكيك فيها، أن الكثير من أئمة الفقه والأصول، تكلَّموا عن المقاصد كجزء من علم الأصول، وأفردوا لها عناوين خاصَّة، وإن لم يُفْرد لها كتباً خاصة إلا القليل منهم، على أهمية ذلك وضرورته. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (المتوفَّى عام 728) عنايةٌ بالغة، ولَهَجٌ شديد بالكشف والبيان، عن مقاصد الشريعة، وإدارة الأحكام عليها.
ولعلَّ مما يلفت حقاً، أن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - لم يُسَلِّم بحَصْر الكلِّيَّات في الخمس المذكورة، في بحوث المقاصد، وإنما رأى أن الاجتهاد في المقاصد مفتوح، لكشف المزيد من مقاصد الشريعة، بحسب أولويات الاجتهاد، والاستدلال، لتنزيل الأحكام على واقع الناس.
وكم يتمنى الإنسان، أن يهيِّئ الله بعض الباحثين والدارسين
(1) انظر: مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة بين الشاطبي وابن عاشور للدكتور عبد المجيد النجار.
المجدِّين، لتتبع نظرية مقاصد الشريعة، عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على الرغم من معاصرته للشاطبي، ليقدِّم للمكتبة الفقهية نظرات خاصة، ومتميِّزة، لم يُسبق إليها شيخ الإسلام رحمه الله إضافة إلى تراث تلاميذه، وفي مقدمتهم العلامة ابن قيِّم الجوزية (المتوفى عام 751)، حيث جِماع المقاصد عنده:
"أنَّ الشريعة مبناها وأساسها، على الحِكم، ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورَحْمةٌ كلُّها، وحِكْمَةٌ كلُّها، فكل مسألة خرجت عن العَدْل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العَبَث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْلُ الله بين عباده، ورحمته بين خلقه .. فكل خير في الوجود، فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فبسبب من إضاعتها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله، هي قُطْب الفلاح والسعادة، في الدنيا والآخرة"(1).
وقد يكون من الأمور الجديرة بالذكر في هذه العُجالة، أن الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور كان فقيه ميدان، لم يكن يعيش بعيداً عن وَعْي الواقع، منصرفاً إلى أوراقه وبحوثه النظرية، والاكتفاء بالحديث عن خلود القِيَم الإسلامية، وعظمة الفقه الإسلامي، دون النظر في كيفية تنزيل الأحكام الشرعية على واقع الناس، وتقويم حياتهم بقِيَم الإسلام، في الكتاب والسنّة، والارتقاء بأدوات الاجتهاد، والتعامل مع النصوص التكليفية في الكتاب والسنّة، تفسيراً، وبياناً، واجتهاداً، وفق منهج علمي أصيل .. يظهر
(1) ج (3) ص (1).
ذلك بشكل واضح وجليّ في نشاطه وعمله العلمي، مدرِّساً، وقاضياً، ومفتياً، وشيخاً للجامعة الزيتونية، وتآليفه المتنوعة خاصة في التفسير، حيث يعد كتابه التحرير والتنوير مدرسة في التفسير قائمة بذاتها، بدأت من حيث انتهى المفسِّرون الذين سبقوه، إضافة إلى التأليف في الحديث ومصطلحه، ولعل من أبرز مؤلفاته فيه كشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، والنظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح، إضافة إلى الفقه والأصول، حيث يأتي كتاب مقاصد الشريعة في مقدّمتها، هذا عدا تآليفه في النقد، والأدب، والبلاغة، والسِّيَر، والتاريخ.
والمأمول أن يشكّل هذا الكتاب إضافة متميزة للمكتبة الفقهية، خاصة وأن مؤلِّفه عالم موسوعي فذٌّ، ومجتهد مجدِّد مُبْدع، وأن محقِّقه عالم محقِّق متمرِّس، يشكّل الاجتهاد والفقه مِحْور حياته وجلّ اهتمامه.
وأن يساهم بالارتقاء بتنمية المَلَكة الفقهية، وتأصيل أدوات الاجتهاد، وإغنائها، لتواكب الشريعةُ إيقاعَ العصر المتسارع، ويتحقق خلودها بالقدرة على الإنتاج في كل زمان ومكان، ويتحول الفقه الإسلامي إلى مواقع الريادة والسبق، لحركة المجتمع، وبيان حكم الله في النوازل الواقعة والمتوقعة.
سائلين الله أن يكتبَ له القبول، ويجعل عملنا خالصاً لوجهه، ويجعله من العلم الذي يُنتفع به، مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذَا مَاتَ الإنْسانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(أخرجه مسلم)، ويجزي مؤلفه ومحققه خير الجزاء، إنه نعم المسؤول.
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
يتهيب الباحث والدارس لشخصية مرموقة نادرة، كشخصية شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور، أن يكون ما يكتبه عنه دون منزلة من يترجِم له. وهذا أمر وعر جِدُّ متعذّر على من لم يخالطه أو يسمع عنه، أو يقرأ له ولم يتخرج به، أو ينقل عن لداته ما كتبوه من مقالات عنه وشهادات له، وهو أجنبي عن مدرسته القائمة على علمي الوسائل والمقاصد، وقوة النظر وصحة المدارك، مما خص الله به بعض عباده، فرفع بذلك درجاتهم، وجعلهم أئمة علم وأعلام هدى.
ميز الله تعالى هذا الإمام الجليل بما وفّقه إليه من التحرير والتنوير لكتابه العزيز الكريم، وبما رواه وحققه ونقده من أسانيد ومتون، أو دلَّ عليه من ضوابط وحقائق، وما حاط به سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من بيان شامل ذاد به عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
كان رحمه الله مرجعاً في العلوم الشرعية وهي المقاصد بقدر ما كان حجةً في الوسائل والعلوم اللسانية، كما سنبيّن ذلك. وهذا بما رَزَقَهُ الله عز وجل من فقه في الدين، وعلم بفروعه وأصوله، وبما جرى به قلمه أو نشره من فتاوى دقيقة مركزة ومعللة، مبنية على العلم
والفهم والفطنة والملكة الواسعة الأفق، وعلى استعماله وسائل البحث وآلات النظر، للخلوص في ذلك كله إلى ما يمكن الاعتداد به. فلم يكن يصدر إلا عن رأي صائب وحجة قاطعة وقول فصل.
وإنك بتتبعك لآثاره ووقوفك على تعاليقه وتحقيقاته، مُلْفٍ بما ذكرناه وما لم نذكره، عالِماً لغوياً، ونحوياً بارعاً، وناقداً بصيراً، وبحراً من الأدب، ذا مكنة في أسرار العربية، وجودةٍ في إبراز مقاصد الشريعة. فلا تكاد تجد له نظيراً بين علماء عصره، أو منافساً له فيما خصّه الله به إلا أن يكون هذا النظير والمناسب ممّن تخرّج على طريقته ونبغ نبوغه، وقليل ما هم.
وإن ما احتوت عليه هذه المقدمة من التعريف بصاحب مقاصد الشريعة الإسلامية لقليل جداً إزاء ما يتأكد العلم به. فهي لم تحقق إلا جزءاً من غرضنا، وهو تصوير شخصية العالِم والمفكر مترجمنا، وتقديمٌ موجزٌ عن كتبه وآثاره المطبوعة منها خاصة. وإن الواقف عليها لمكتفٍ بها على الجملة، لما تثيره في نفسه من أذواق وأشواق. وإن كانت لا تغني من لم يعلق شيئاً من ذلك قبل. ولذلك دعت الحاجة إلى إشارات وتنبيهات قدمنا بها شخصية المؤلف، مع ما لابسها من ظروف في حياته، أو مر بها من متغيرات سياسية، وتقلبات فكرية واجتماعية واقتصادية، كان لها جميعها أثر أي أثر في عصره. وأصبح من الضروري لإدراك كنه ذلك، وما ترتب عليه أن نقف قليلاً عند عينات مما حرّره وحبّره، أو درّسه وحقّقه. ومن ثم بات لزاماً التعريف بإنتاجه ليعلم طلاب العلم أيَّ رجل فقدوا، وأيَّ عالم ما زالوا يستفيدون من علمه، ويطمئنون إلى تقريراته وأحكامه في مؤلفاته. فبذلك نكشف عن جوانب الإمتاع والإبداع فيها، وعن استدراكه على ما انتهى إليه المتقدمون من حقائق العلم وجواهره.
ولذلك لا يمكن في هذه الحال أن نقتصر على ترجمة موجزة لا تصلح أن تكون طريقاً لإبراز منهجه، وسبيلاً للسير على دربه العلمي والفكري والخلقي.
فجعلنا هذا الكتاب ثلاثة أجزاء:
• الأول منها: في ترجمته، وبيان حركته الإصلاحية، والحديث عن مؤلّفاته. وقد اختصرنا الحديث عن الحياة السياسية سوى بعض نقاط تعرضنا إليها، خوفاً من البُعد عن الموضوع الأساسي والأصلي من ترجمته. كما أحلْنا في نقوله وتضميناته لكلام النقاد وعلماء البلاغة على شرحه للمقدمة الأدبية للمرزوقي، الذي تضمن إيراد ما أورده من ذلك من حفظه على عادة العلماء المتقدمين.
• والثاني: سايرنا به مقاصد الشريعة مضيفين إليها جملة من البحوث الأصولية لما يوجد بينها من علاقة. وفصّلنا الحديث عن منهجه في جملة ما وقفنا عليه من تحاريره العلمية.
• والثالث: هو كتاب المقاصد المتميز بمسائله وبحوثه، والذي رأينا أن نخصه بشيء من الاهتمام. وهكذا قمنا بتحقيقه ونشره بعد إقامة نصه، والتقديم له والتعليق عليه، طمعاً في أن يكون أمره ميسوراً على من يقف عليه من الطلاب والمراجعين والدارسين، كما بذلنا الجهد في ذكر ما عناه من إشارات أو مراجع بالإحالة عليها وتفصيل القول فيها أحياناً، جاعلين في نهايته فهارس تكشف عن مادته وأغراضه جملة وتفصيلاً.
وإني في نهاية التعريف بأجزاء الكتاب الثلاثة لأتقدم بعظيم الشكر وأجزله لحضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر، حفظه الله ورعاه، وذلك على تفضله بالإذن بطبع هذا
الكتاب على نفقته. وإني لأشكره عن معرفة بقدره، واعتراف بحقه، وإعظام للنعمة فيه، واعتداد بالمنة منه.
وإني لأذكر بغاية التقدير والشكر كل من أمدّني في هذا المهم بآرائه، وملاحظاته، من الأساتذة الشيوخ أمثال أصحاب السماحة الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وسماحة الأستاذ الشيخ محمد المختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية سابقاً، والعالمين الجليلين صاحبي الفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى الغزالي، والأستاذ الشيخ محمد الشريف الرحموني جزاهم الله عني خير الجزاء وبارك فيهم.
ولعلنا بعد هذا الجهد نبلغ بعض غرضنا من خدمة مقاصد الشريعة الإسلامية للإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور، تغمده الله بغفرانه، وأغدق عليه شآبيب رحمته ورضوانه.
* * *
المقدمة
الحمد لله الذي بعث محمداً رسولاً، ليكون إلى معرفته سَبيلاً، وجعله إلى دينه هادياً ومُهيباً، وعلى خلقه شاهداً ورقيباً، وبالخير مُخبراً ومبشّراً، ومن الشرّ مخوّفاً ومحذّراً، ولأعلام الإسلام ناصباً، ولأحكامه ناصراً. فصلى الله عليه أفضل صلاة صلاها على أحد من خلقه، وصلِّ اللهم عليه صلاة تليق بك منك إليه كما هو أهله.
وبعد، فإن الله عزّ شأنه وأحاطت ألطافه بخلقه، قد جعل من كتابه الكريم، ومن سُنة نبيه الأمين مصدرَي علم وهداية. قال تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (1)، وقال:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (2)، وقال رسول الله الأكرم صلى الله عليه وسلم يوصي المؤمنين من حوله:"تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما كتاب الله وسُنة نبيه"(3).
وقد ورث العلم والحكمة عن الرسل دعاةٌ إلى الله أصبحوا بميراثهم الزكي مصادر معرفة وعناوين نجابة وهداية. انتظمت فرائدهم ولآليهم كواكبَ منيرة كالأنجم الزهر ثم انطفأت، ولمعت في سماء العزّة والكمال أنوارها ساطعة ثم خبت، وهي على الدهر ذؤابة تضيء للناس وهي تحترق.
(1) سورة النساء: الآية 113.
(2)
سورة البلد: الآية 10.
(3)
طَ: 899.
وإنما حملنا على الاقتراب من هذا الكوكب اللامع، والاختلاف إليه، والاستنارة به، والاغتراف من فيوضه، طمعٌ يُدنينا من اقتباس بعض مزاياه، واكتسابِ جملة من عناصر نفاسته ومجادته. وقد لُذنا في ذلك بالعصابة الزكية من أبناء الرحم العلمية السادة الغرّ الميامين القائمين على شرف الفصحى وخدمة الدين. ولِما وثِقنا به من سعة المعرفة، وجميل الآداب من شيخنا وإمامنا، صاحب مقاصد الشريعة الإسلامية، تقدّمنا إليه مستأذنين، ومن علمه مسترفدين. والإمام، رغم تعدّد نشاطه في المجالات الدينية والعلمية والإصلاحية، كان لا يتوانى عن القيام بما يشعُرُ به من واجب، فيؤدّيه أحسن أداء، موفّياً إياه حقّه من البحث والنظر، سُنة عرفناها منه، وخُلقاً نبيلاً درج عليه. وهو في كل ذلك يتحمّل العلوم أجملَ تحمّل، ويبلّغها أكمل تبليغ. كيف وقد رأينا جمهور الدارسين ينجذب إليه، ويقبل على دروسه ومجالسه، حيث العلم المستفاد والعمل المستجاد. ولم يكن يصدر عنه في هذه المقامات وبخاصة في حياته العلمية والسلوكية غير فهم صائب، ورأي ثاقب، ونظر عميق، وقول بليغ فصل.
ذلك هو ديدَنُه وما طَوَى عليه جوانحه من إقبال على الدرس، واهتمام بالثقافة الأصيلة، وتعلّق بالعلوم الإسلامية، ومنابع الحكمة التي تَرجع أصولها ومعاقدُها إلى حذق كتاب الله وسنة رسوله، اللذين ثافَنهما كبيرَ مثافنة، واكتسب منهما إيماناً صادقاً، وتصوّراً دقيقاً، وحُجة بالغة، ونفوذاً إلى أسرار ما همَّ بتحليله وعَرْضه، شاكراً لأنعم ربه، متمسّكاً بحبله، منغرساً في حقيقة التوحيد، مستجلياً من خصائص هذا الوجود صحَّةَ عقيدة، وصفاء نفس، ورقة مشاعر، وإخلاصاً لله في السر والعلن.
وإني لأستميح الله من فضله وتوفيقه ورعايته، عونَه على القيام
بهذا العمل الجليل الذي ندبني إلى القيام به الواجب. وإنّي وإن تأخّرت عن الوفاء بذلك، قِبَل شيخنا رحمه الله لأَجدُ لدَيَّ فيما أقدمه - إن شاء الله - انشراحَ نفس ورضاها، وعند إخوتي من أهل الطلب والعلم والفكر الإسلامي والأدب العالي إنعاشاً لنفوسهم، وإمتاعاً لأرواحهم، بوقوفهم جميعهم على هذه المشارف، حافظين شريعة ربهم، قائمين عليها، ساهرين على لغة قرآنهم التي كرمهم الله بها، وميّزهم بأن جعل الفصحى لسانهم، ومن أذواقها الرائعة تصرفاتِهم البديعة في أقوالهم. فهم لذلك منها يرتوون، وعنها يذودون.
وإني لأرجو الله أن يكون لي ولإخوتي من العلماء كافَّة بهذا الصنع الجميل سببٌ تتجلّى به رحمةُ ربنا علينا، فيَضع عنا أوزارنا، ويرفع بمنته أقدارنا، ما حرَصنا على التعريف "بمقاصد الشريعة" النيّرة السمحة التي فتح الله بها علينا، وجعلنا نتتبع فرائدها من خلال مصنّف شيخنا، عاملين إن شاء الله على تحقيق المراد من كتاب الله الكريم، بامتثال أمره ونهيه سبحانه، وبما أودع قرآنه من أسرار التشريع، ومقاصدِ الأحكام، وطرقِ الوصول إليها عند الخاصة من العلماء، أو حسبما درج عليه السلف من قبلهم، وبما تفجّرت به ينابيع السُّنة المطهرة من تشريع وبيان وهداية وحكمة.
وقد يُعيننا على إدراك ذلك، على الوجه الكامل، ما كان من حِرص الإمام الأكبر على طلب هذه المعاني، وتعظيمِه لها في التحرير والتنوير وفي سائر كتبه ورسائله الشرعية. وما كان يمكن لنا أن نُلمّ بجملة ما قصدناه من أغراض مقاصد الشريعة، إلا بجعل هذا الكتاب الذى نُقدّمه ثلاثة أجزاء متماسكة، تربط بينها وحدة الموضوع العلمي، والحديث عن الآثار الباهرة التي صدرت عن الإمام طوال حياته المباركة.
قصمت الظهر، باحتلال الجيشِ الفرنسي لبلادنا، وإبرامه معاهدتي باردو والمرسى بين السلطتين القائمتين بالبلدين فرنسة وتونس. وقد أثارت هذه الصدمة اضطرابات ومظاهرات، أدت إلى مواجهة الاحتلال الأجنبي.
وبسبب الذهول الذي أصاب الناس يومئذ ألحّ الخوف والحزن على بحث أسباب هذه المحنة، في كامل سلطنة الدولة العثمانية وبخاصة ما حصل بها من آثار في البلاد التونسية بسقوط دولة الخلافة.
وكان هذا الوضع المؤلم منتشراً ومستقراً في أكثر بلاد المشرق والمغرب من ديارنا. وكانت الدول الغربية تقوم بالتخطيط للقضاء على العروبة والإسلام، غير أن نهضةً شاملة في أطراف البلاد الإسلامية والعربية، قامت تهيِّئ أصحاب هذه الأوطان إلى تدارك الأوضاع البغيضة والمهينة، وإلى العمل بحزم على استرجاع السيادة والكرامة.
واحتدم الشباب الوطني في نزاعه مع المنافقين والمتخاذلين الذين باتوا يخشَون على مصالحهم من التلاشي، وعلى نفوذهم من التقلّص. وتغيّرت أوضاع تونس السياسية والإدارية. وكانت طائفة من المواطنين قد اختارت السلاح لمواجهة العدو ومحاربته، وأخرى كانت تعزّز الأولى وتوجّهها، وتثبّت أقدامها في المعركة، تثير في نفسها ما هي في مسيس الحاجة إليه، من حميّة وحماس وعزم على مواصلة الكفاح:
والعرب لا تبدأ بجمع جموعها
…
إلا سمعت نشيدها وحداءها
وهكذا ظهرت في المشرقين الأقصى والأدنى حركة إصلاحية مباركة، ونهضة فكرية شاملة: اجتماعية وسياسية، زلزلت الأرضَ من تحت أقدام المستعمرين أو كادت. وشكا الباغون المستعمرون، رغم