الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تدارك ذلك بتتبّع استعمال المتكلّمين بالعربية في مختلف البلاد الإسلامية.
وقبل الانتقال إلى فني الإنشاء والشعر، يلفت الشيخ ابن عاشور نظر المتدبّرين إلى أن الأمة إذا سَمَتْ مداركها، وارتقت لغتها، وأُودعت من دقائق الحكمة والشعر والخطابة ما كان به انتصاب أعلامها وارتفاع شانها وتنويه الخاصة والعامة بها، فهي لا محالة مصونة بتراثها، متجدِّدة من نفسها. والعربية جمعت من دواعي الخلود الاعتبارين العلمي والديني. فهي لغة الحضارة الإسلامية، وعن طريقها انتشرت العقيدة في ربوع الإسلام. وهذا كافٍ للتمسك بها والعودة إليها. فهي مقدّسة بقداسة الدين الذي نشرته، ومحصَّنة بما نقلته للأمم والشعوب من الحضارات القديمة وطوّرته، وكذلك بما نمته من علوم إنسانية وطبيعية ورياضية طوال قرون.
الأدب
وما من شكّ في أنه لا يُقتدر على إحياء اللغة العربية إلا بمخالطة أهلها، واكتساب خصائصهم اللغوية والأدبية. فإن انقطعَ هؤلاء أمكنَ الرجوع إلى الكتب الأصيلة القديمة، وإلى دواوين العرب التي حفظت لنا مجالسهم الرائعة، ورسائلهم النادرة، وخطبهم المؤثّرة، وأشعارهم الساحرة. وفي آخر هذا الفصل يدعو المؤلف إلى:
1 -
إنشاء مدرسة خاصة لصغار التلاميذ، يؤدَّبون فيها بتلقين الفصحى والتمرّن عليها، والأخذِ بفنون هذه اللغة من أشعار وخطب ورسائل، مع التعمّق في دراسة القرآن والتخرّج به في مباني الألفاظ وتصرّفات المعاني.
2 -
إنشاء جمعية من جلّة العلماء تعنى بإحياء المفردات المناسبة، وتمحيص الحقيقة من المجاز، وتعليق كل لفظ على المعنى المناسب له. وفي ذلك طريق عملي ونافع يُعين على إحيائها وإبراز أهمّ خصائصها.
وقبل أن يقف عند علوم العربية وأسرارها، يؤكّد على وجوب العناية بفنون هذه اللغة من شعر ونثر، لتكوين الملكة اللسانية علماً وعملاً وحسّاً وذوقاً. فمعرفة طرائق العرب في ذلك شرط أساسي، وحفظ نماذج من الكلام البليغ يرسم في الفكر أمثلة ومقاييس يسير عليها الكاتب والشاعر، والدربة والممارسة شرط لشحذ الملكة وتعويدها انتقاء الصيغ، وتخيّل الأفكار وأدائها بأبلغ صورة في الكلام المتميّز الذي يخضع لشروط الصحة والإحسان، وضوابط الإحكام والإبداع.
والشعر في بداية عصر المؤلف كان يعرف بالكلام المقفّى الموزون. فهم يكتفون بذلك، ولا تنشغل عقولهم بطلب المعاني الجيّدة والمبتكرة. فتوقفُ الشعر عند القوافي والأوزان لا يكسبه أهمية، ولا يسمو به إلى منزلته العالية عند العرب، بل ينزل به على العكس ليكون مجرد نظم.
وما الحرص على التفوُّق فيه علماً وذوقاً وممارسة إلا ليبلغ غايته ويحقّق هدفه. وفي إشارات قصيرة نبّه الإمام الأكبر إلى مقوّمات هذا الفن لتنغرس في نفس الشاعر، ولتتجاوب ثقافته مع إنتاجه ومقدرته مع إبداعه.
فالشاعر يحتاج إلى معرفة الأوزان لبناء نظمه أتم بناء، وإلى الاختيار من الأوزان والقوافي أطوعَها لغرضه، وأكثرَها تناسباً مع مقامات النظم وحالات التصوير والتخييل اللازمين للشعر، كما يحتاج إلى شيء من علم العروض لعلاج صحة البيت مثلاً، ولا يتكلف حفظه وإتقانه والإحاطة بكل قواعده إذا كان ذا طبع موهوباً
وملهماً. وفي كثرة الأوزان والأعاريض واختلاف البحور وتنوّع القوافي ما جعل الشاعر العربي أروع تخييلاً وأكثر تميزاً من غيره في هذا الفن، لأن الشعر في غير العربية محصور في أوزان محدودة لأغراض مخصوصة. ويتجلّى الشاعر عندنا بمعرفته العميقة بأسرار العربية وأساليبها. وهذا جزء مهم من علم البلاغة اعتمده النقاد للنظر في صحّة المعاني واختلالها، وابتكارها وسرقتها، وبساطتها وتكلُّفها. ولا يبلغ الشاعر من الإحسان أعلى درجاته، ومن الإبداع أرقى صوره إلا إذا التقى لديه حسنُ اختيار المعاني المناسبة للظروف والمقامات التي تدعوه للنظم والإنشاء، وحُسْنُ اللفظ والميزان اللذين يمكّنانه من بديع التخييل وعميق التأثير.
والنثر كالشعر، وقع إغفاله والانصراف عن الاعتناء به. وقد كانوا يظنونه كلمات تحفظ وتردَّد في المناسبات. وقالوا: هو غير قابل للتعليم إذ لا قواعد له، ومن ثم وقع إهماله كالتاريخ. وما كانوا يرون في قراءة كلام البلغاء فائدة. فهم يعتبرون ذلك مجرد تظرف. ولم يعلموا أن في مطالعة كتب النثر والشعر من جيد الكلام ومحاسنه ما يورث القراء والمشغوفين بالمطالعة سعةَ في التفكيرِ، وصحةً في التعبير، وفصاحةً في اللسان. وهذا لا يتوقّف على تعلُّم قواعد تدرس، لأن قواعد هذا الفن قواعد إجمالية لتوصيف أحوال الكلام والمعنى. وإنما المعتمد في هذا المجال مخالطة البلغاء والوقوف على آثارهم والإقبال عليها، تفهماً وتذوقاً وحفظاً، ثم محاكاتها والنسج على منوالها والتدرّب عليها. ففي ذلك سر الاقتدار والتأليف في جميع فنون النثر والكتابة.
* * *