الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حواشي السيد الشريف الجرجاني، والفناري، وملا خسرو، والسمرقندي، والشيرازي ونحوهم. ولكن أهم الحواشي وأكثرها تداولاً هي حاشية العلامة النظار المنقطع النظير عبد الحكيم السيالكوتي. فقد كانت مادةً أساسية، مع المطوّل شرح كتاب التلخيص، في المرتبة العليا بالمعاهد. ولا بدع إذن إذا وجدنا الإمام الأكبر يجاري الشيخ الجدّ. ولا يكتفي بما تركه من تعاليق، فسجل هو أيضاً ما عنّ له من ملاحظات، وانقدح في فكره من آراء أيام تدريسه لهذا الكتاب، وأثناء مراجعاته له. فترك لنا رحمه الله تعاليقه على المطول وحاشية السيالكوتي عليه. فما كانت لتغني التعاليق الأولى لجده عن تعاليقه شيئاً. فإن الأنظار تتفاوت، والأحوال تتباين، والأفكار والآراء تختلف وتتباعد. ولكنها مدعاة للتنافس، ونتيجة للتأمل والدرس، وثراء للبحث والنظر.
* * *
ومن المقالات التي يمكن إدراجها في هذا الباب مقالةٌ تَبحث أساليب العرب في بعض مقاماتها، وما تجري عليه مخاطباتهم فيها، وأخرى كوّة ينظر منها إلى أوصاف الكلام أو النظم نظرة عميقة نقدية كطريقة توجيه الخطاب إلى المرأة في شعر العرب.
وفي الأسلوب مقالان:
1 - طريقة من شعر العرب في توجيه الخطاب إلى المرأة
هذه المقالة لا تجري على المنهج الذي اعتدناه عند الإمام الأكبر إلا قليلاً. فهو لا يوغل فيها إيغاله في تتبع المفردات والتراكيب اعتماداً على القوانين التي ضبطها علماء اللغة العربية،
وتوصلًا إلى تفصيل الكلام في التصرّفات القولية، وتمكناً من التحقق من مدلولاتها في اللسان العربي. ولكنّه يتّجه بنا اتجاهاً جديداً فيعود بنا من الطريقة التطبيقية إلى الطريقة الاستنتاجية، ويسلك بنا سبيل المبرد، ومن كان من الأقحاح في زمنه، متحولاً بذلك عن منهج ابن الأنباري وابن الشجري وأمثالهما.
فهو بوقوفه على كلام العرب نثره ونظمه، خطبه ورسائله، ودرسه لعيون الشعر ودواوين العرب وجمهرات نظمها، لاحظ في هذا التراث الواسع البديع ما شدّ انتباهه إلى بعض الاستعمالات التي لزمها القدامى وتعودوا عليها. وعجب من خلو كتب اللغة والأدب، لكثرة استعمالها، من الوقوف عندها لدراسة خصائصها، وبحث ما تتميّز به من أساليب في كتب البلاغة والنقد. وذهب يقرّر أن لشعراء العرب في كلامهم سُنناً لا يكادون يحيدون عنها، يتبع فيها المتأخِّر خطى المتقدِّم، بحيث يعدّ الإخلال بها حَيَدَة عن الطريقة المألوفة. وقبل أن يضبط بعض هذه السنن ويمثل لها بالشواهد الثابتة المعروفة، يذكر سمات عامة للشعر عند العرب. منها:
1 -
افتتاحهم لكثير من أغراضهم في الشعر بالنسيب، وينبّه إلى موضع ذلك من معلّقات زهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة، ويتقدّم الغزل أو النسيب قصائد المَدْح، كما في قصيدة علقمة يمدح الحارث الغساني:
طحا بك قلب في الحسان طروب
…
بُعَيد الشباب عصرَ حان مشيب
وقصيدة كعب بن زهير:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
متيّم إثرها لم يُفدَ مكبول
وقصيدة القطامي:
إنّا محيّوك فاسلم أيها الطلل
…
وإن بَليتَ، وإن طالت بك الطول
وليس هذا الأمر بدعاً من القول، فقد سجّل هذه الظاهرة وأقرّها المتنبّي في قوله:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم
…
أكلّ فصيح، قال شعراً، متيَّم
2 -
ومنها خطاب المثنى بنحو يا صاحبيّ، خليليّ، يا فَتَيَان. ومن أقدم ما ورد من ذلك قول امرىء القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقول السليك بن السلكة السعدي:
يا صاحبيّ ألا لَا حيَّ بالوادي
…
إلا عبيد وآم بين أذواد
وقول الآخر:
فإن تسألاني عن هواي فإنّني
…
مقيم بأقصى القير يا فتيان
وهنا بعد تعليل البيت الأخير بأن من عادة المسافر أن يستصحب مرافقين، يتقدم بملاحظة عامة يبيّن فيها استخلاصه ممّا وقع عليه نظره في مطالعات الأدب العربي أنه وجد شعراءهم كثيراً ما يوجهون الكلام إلى المرأة بطريق الخطاب أو بالاسم أو الضمير أو يحكون عن المرأة، مع أن المقام أن تكون المرأة معيّنة مقصودة بذلك أو مقصوداً إبلاغ الكلام إليها. فربّما طلبوا من المرأة أن تسأل عن خبر وأن تتعرّف حادثاً. وأكثر ما لاح لي ذلك في السؤال المفروض، لأن الأصل فيه أن يبنى على فرض سؤال، فيكون مبنياً على التذكير كقوله تعالى:{سَأَلَ سَائِلٌ} (1)، أو:
(1) المعارج: 1.
{السَّائِلِينَ} (1). فلما لاح لي ذلك وتتبعته تبين لي أنَّ توجيه السؤال إلى المرأة بُني على ملاحظة الغرض الذي من شأن المرأة أن تسأل عنه، ثم انتقلتُ إلى البحث عن كل مقام فيه ملاحظة الأغراض التي من شأن المرأة أن يكون لها الحظ الأوفر فيها من الاعتبار أي من الشؤون التي يغلب على النساء الاهتمام بها أكثرَ من اهتمام الرجال. فكل ذلك مما يقيمون كلامهم فيه على منوال التأنيث.
وهكذا ضبط صاحب المقالة صور توجيه الخطاب إلى المرأة وطرقه في الشعر عند العرب. ولكنه لا يفتأ أن يقول إثر هذا: ثم وجدت توجيه الخطاب إلى المرأة في مواضع أخرى غير طلب السؤال عن خبر، فاتسع لي باب طرقته. فإذا وراءه كُوَى، تطل منها أفنانٌ لا يعتريها ذبول ولا ذوى.
ويحاول الإمام ضبط هذه الأغراض أو تقريبها، فيستجلي بذهنه ما مرّ به في بحوثه ودراساته، ونظره ومطالعاته. فإذا هي لا تعدو خمسة أغراض سبرها سبراً.
ونحن قبل أن نتعرّض لهذه الأغراض من طرق توجيه الخطاب إلى المرأة، لا بد لنا من الرجوع إلى أشعار العرب وأقوالها مؤتسين في ذلك بعمله الدقيق في هذه المقالة، إذ جعل الشواهد مرجعَ استنتاجه وطريق وصوله إلى تقريراته في هذا الشأن:
الغرض الأول: أنه كان من عادة النساء العربيات العناية بالأخبار والحوادث، يعمرن بالحديث عنها آناء اجتماعهن في الأسمار. فمن أجل ذلك يتناقلنها وتُشيعها المرأة والأخرى، وينبسطن بالحديث عنها إلى رجال بيوتهن في أسمارهم. ومن ذلك
(1) البقرة: 177؛ يوسف: 7؛ فصلت: 10.
حديث أم زرع الوارد بكتب السنة. فإذا قصد الشاعر إلى إبراز ذلك وجّه الخطاب إلى ضمير الأنثى، أو حدّث عنها بطريق الغيبة. وهذا ليس من التجريد أو انتزاع ذات من ذات أخرى، ولا هو من قبيل توجيه الخطاب إلى غير معيّن، وهو كثير في القرآن.
ولكن في الغرض الذي نحن بصدده ينبغي أن يلحق بالأساليب المتّبعة في الاستعمال. ولا يحقّ أن يعدّ في مبحث وجوه تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر من مباحث علم المعاني. والنقاد لم يبحثوا عن نظيره وهو خطاب المثنّى في نحو (قفا نبك)، كما قصدوا عدم التعرض لنظيره مع شهرته بين أهل الأدب. واستثنى في هذا المقام صوراً لا تدخل في غرضنا المحدود هذا، ممثلًا لها بكلام الأعشى ولبيد، وعبيد بن الأبرص وذهلول بن كعب العنبري.
الغرض الثاني: أن المرأة شديدة الإعجاب ببطولة الرجل لقصور قدرتها عما يستطيعه الرجال، ولأنّها ترى في بطولة الزوج والقرابة ما يُطَمئن بالها ويعيذها من كل شر. قال النابغة:
حذاراً على أن لا تنال مقادتي
…
ولا نسوتي حتّى يَمُتن حرائرا
فإذا كان الرجل جباناً نفرت منه لتعيير النساء إياها به، وهذا كالذي يومىء إليه عمرو بن كلثوم في بيته:
يقتن جيادنا ويقُلن لستم
…
بعولتَنا إذا لم تمنعونا
ومما يلحق بهذا قول عنترة:
إن تغدفي دوني القناع فإنّني
…
طب بأخذ الفارس المتلثّم
وقول أنيف بن زبان الطائي:
فلما التقينا بيّن السيفُ بيننا
…
لسائلة عنّي، خفيَّ سؤالها
وقول لبيد:
أو لم تكن تدري نوار بأنّني
…
وصّال عقد حبائل، جذّامُها
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها
…
أو يعتلق بعض النفوس حمامها
ومن هذا أيضاً مواجهة المرأة بأن تسأل عن كرمه، كما في قول مضرس العبدي:
فلا تسأليني واسألي عن خليقتي
…
إذا ردَّ عافي القِدرِ من يستعيرها
الغرض الثالث: رغبتهم في إظهار ثباتهم يوم اللقاء أو محامدهم بين أهليهم وقبائلهم كقول الآخر:
وترانا يوم الكريهة أحرا
…
راً، وفي السلم للغواني عبيدا
ويتغيّر هذا الغرض بتغيّر الأحوال. فمن ذلك أن تلوم المرأة زوجها على السخاء إبقاء على ماله. وقد جاء من هذا قول ضمرة بن ضمرة النهشلي:
بكَرتْ تلومك بعد وهن في الندى
…
بَسْلٌ عليك ملامتي وعتابي
وقال تأبّط شراً:
بل من لعاذلة خذّالة أشب
…
حرّق باللوم جلدي أي تحراق
تقول أهلكت مالًا، لو قنعت به
…
من ثوب صدق، ومن بزٍّ وإعلاق
وقال النمر بن تولب في حالة أخرى:
لا تجزعي إن منفس أهلكته
…
فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
وقال كثير يمدح عبد الملك بن مروان:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه
…
حَصان عليها نظم دُر يزينها
نهته، فلما لم تر النهيَ عاقهُ
…
بكت، فبكى ممّا شجاها قطينها
وقال سُلمى بن ربيعة:
زعمت تماضر أنّني إن ما أمت
…
يسدُد بُنَيُّوها الأصاغرُ خلّتي
تربت يداك، وهل رأيت لقومه
…
مثلي على يسري، وحين تعلّتي
الغرض الرابع: بناء الشعر على خطاب المرأة في الشؤون التي يليها النساء. فيكون ذلك الخطاب إخراجاً للكلام على الغربا. وأنشد على هذا قول مرّة بن عكان السعدي:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
…
ضمّي إليك رحالَ الحيِّ والغربا
وقول الآخر (وهو من شواهد المفتاح):
أتت تشتكي منّي مزاولة القرى
…
وقد رأت الأضياف ينحون منزلي
فقلت لها لمّا سمعت كلامها
…
هم الضيف جِدِّي في قراهم وعجّلي
والغرض الخامس: الذي ختم به ذكر الوجوه السابقة في أسلوب العرب في توجيه الخطاب إلى المرأة هو تذكر الخليلة عند الوقوع في مأزق من تذكر النعيم عند حلول البؤس، إذ الشيء يذكر بضدّه، أو في حالة المسرّة والانبساط. ومثّل الإمام الأكبر لهذا الغرض بشواهد أربعة:
الأول: وهو أقدم ما فيه، قول عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
…
منّي وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنّها
…
لمعت كبارق ثغرك المتبسّم
الثاني: قول أبي عطاء السندي:
ذكرتك والخطّيّ يذكر بيننا
…
وقد نهلت منَّا المثقَّفةُ السمرُ