المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الأولحركة التجديد في بلادي المشرق والمغرب - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ١

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌رموز وإشارات

- ‌تقديمسعادة وزير الأوقاف والشؤون الإسلاميةفي دولة قطر

- ‌تصدير

- ‌المقدمة

- ‌التعريف بالإمام الأكبر:

- ‌أ- التعريف بعصر الإمام:

- ‌ب - الأسرة العاشورية:

- ‌ج - حركة الإصلاح الشامل:

- ‌د - جوانب الإصلاح:

- ‌أسباب الإصلاح:

- ‌وضع التعليم في الزيتونة:

- ‌عوارض التأليف والتعليم:

- ‌القسم الأولحركة التجديد في بلادي المشرق والمغرب

- ‌المجتمع الإسلامي الجديد وبناؤه

- ‌دعاة التجديد في البلاد العربية

- ‌رفاعة الطهطاوي

- ‌من دعاة الإصلاح والتجديد بالمشرق والبلاد العربية

- ‌1 - السيد جمال الدين الأفغاني

- ‌2 - الأستاذ الإمام محمد عبده

- ‌3 - السيد محمد رشيد رضا

- ‌4 - الأمير شكيب أرسلان

- ‌بدء النهضة الفكرية بتونس وبلاد المغرب

- ‌1 - السيد خير الدين باشا

- ‌2 - أحمد بن أبي الضياف

- ‌3 - محمود قابادو

- ‌أعلام الزيتونة

- ‌1 - محمد الطاهر ابن عاشور الجد

- ‌2 - محمد العزيز بوعَتُّور

- ‌3 - الشيخ سالم بوحاجب

- ‌عمل الشيخ سالم في التدريس:

- ‌القسم الثانيشيخ الإسلام شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور

- ‌نسبه وولادته:

- ‌التحاقه بالجامع الأعظم:

- ‌شيوخه:

- ‌حصوله على شهادة التطويع:

- ‌دراسته العليا:

- ‌الإجازات العلمية:

- ‌تجربته في التدريس ونقده الذاتي لمنهجه فيه:

- ‌درجاته العلمية وعمله في التدريس:

- ‌الوظائف الإدارية:

- ‌الوظائف القضائية الشرعية:

- ‌مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:

- ‌القسم الثالثحركات الإصلاح في ربوع المشرق والمغرب

- ‌حركة إصلاح التعليم بالجامع الأعظم

- ‌صدمة الاحتلال:

- ‌يقظة الشعب:

- ‌ترتيبات خير الدين:

- ‌من رواد الإصلاح: محمد البشير صفر، رئيس الجمعية الخلدونية:

- ‌طلبة الجامع الأعظم

- ‌الشيخ ابن عاشور والإصلاح:

- ‌حركات إصلاح التعليم في القرن 14/ 20 في ربوع المشرق والمغرب:

- ‌1 - الأستاذ الإمام محمد عبده

- ‌2 - الأستاذ محمد كرد علي

- ‌3 - الشيخ محمود شكري الآلوسي

- ‌4 - محمد بن الحسن بن العربي الحجوي

- ‌5 - الشيخ عبد الحميد بن باديس

- ‌6 - الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

- ‌القسم الرابعإصلاح التعليم الزيتوني في نظر الإمام

- ‌تمهيد:

- ‌شروط القيام بالإصلاح:

- ‌التذكير بأمجاد الزيتونة:

- ‌ما آل إليه التعليم بالجامع الأعظم:

- ‌غايات التعليم الزيتوني وأهدافه:

- ‌الترتيب الصادقي 1292/ 1875، عرضه ونقده:

- ‌نظام التعليم سابقاً بجامع الزيتونة:

- ‌عناصر نظام التدريس:

- ‌أولها: التعليم بالجامع ليس بالضرورة أن يكون محدداً من طرف الإدارة:

- ‌ثانيها: طريقة اختيار الدروس وتعيينها:

- ‌أوقات الدروس بالجامع:

- ‌التدريس والدراسة:

- ‌المدرسون:

- ‌الطلاب:

- ‌الامتحانات:

- ‌امتحان التطويع:

- ‌العطل والإجازات:

- ‌المطلب الأول: الكتب والمصنفات المقررة للدراسة:

- ‌أغراض التأليف:

- ‌التأليف بعد القرن السادس:

- ‌الاعتماد على النقل أساساً:

- ‌المحافظون المقلِّدون:

- ‌تحرير الموقف من العلماء السابقين:

- ‌المطلب الثاني: عيوب التأليف:

- ‌بعض كتب المرحلة الابتدائية:

- ‌الاضطراب والاختلاط:

- ‌من اختلاط المسائل:

- ‌سير حركة التأليف في العلوم الإسلامية ونقد كتب التدريس:

- ‌المطلب الثالث: العلوم:

- ‌ملاحظات حول طلاب العلم:

- ‌الأسباب العامة لضعف التعليم وتأخر العلوم:

- ‌ الأسباب الاجتماعية:

- ‌ الأسباب المنهجية:

- ‌أحوال التأليف والتصنيف:

- ‌الدروس الأساسية للتعليم بجامع الزيتونة، وبيان طريقة المؤلف في نقد العلوم المقررة:

- ‌أ - من علوم المقاصد

- ‌1 - علم التفسير

- ‌كلمة عن المفسرين:

- ‌2 - علم الحديث

- ‌أسباب الأخلال في علم الحديث:

- ‌3 - علم الفقه

- ‌تأخر العلوم الفقهية وأسبابه:

- ‌4 - علم أصول الفقه

- ‌وضع علم أصول الفقه:

- ‌5 - علم الكلام

- ‌العقيدة الإسلامية ومدارس علم الكلام

- ‌ب - من علوم الوسائل

- ‌أسباب تدهور العلوم اللسانية

- ‌الأدب

- ‌علوم العربية: النحو والصرف

- ‌تأخّر علوم العربية وأسبابه

- ‌علم البلاغة

- ‌ج - العلوم المساعدة

- ‌العلوم الإنسانية

- ‌علم المنطق

- ‌علم التاريخ

- ‌العلوم الفلسفية والرياضية

- ‌العمل الإصلاحي للتعليم بالزيتونة

- ‌شروط القائمين على إصلاح التعليم

- ‌عودة الإمام الأكبر إلى مشيخة الجامع الأعظم

- ‌الخطاب المنهجي للإمام الأكبر

- ‌الجهود الإصلاحية

- ‌التعاون العلمي والعملي بين الزيتونة والخلدونية:

- ‌زرع المُعَوِّقات وإقامة العقبات في وجه الإصلاح:

- ‌القسم الخامسمؤلفات الإمام الأكبر

- ‌تمهيد:

- ‌مؤلفات شيخ الإسلام الإمام الأكبر:

- ‌ العلوم الشرعية

- ‌التحرير والتنوير

- ‌السيرة النبوية الشريفة:

- ‌مقالات الإمام الأكبر في السيرة والشمائل:

- ‌قصة المولد:

- ‌السُّنَّة:

- ‌تآليف الإمام الأكبر في السُّنة:

- ‌المطبوع من المقالات في السُّنة:

- ‌ومن المخطوط من المقالات:

- ‌البحوث في الحديث:

- ‌القسم الأول: من هذه البحوث وهي خمسة:

- ‌1 - درس في موطأ الإمام مالك رضي الله عنه

- ‌2 - ومن البحوث: من يجدّدُ لهذه الأمة أمر دينها

- ‌3 - تحقيق مسمى الحديث القدسي

- ‌4 - نشأة علم الحديث والتعريف بموطأ الإمام مالك:

- ‌5 - حديث: "شفاعتي لأهل الكبائِر من أُمتي

- ‌القسم الثاني: تنبيه على جملة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وفيه أربعة عشر حديثاً:

- ‌1 - التنبيه على أحاديث ضعيفة أو موضوعة رائجة على ألسنة الناس

- ‌2 - الأسانيد المريضة الرواية في حديث "طلب العلم فريضة

- ‌3 - مراجعة ونقد الإمام الأكبر لكتاب فتح الملك العلي بصحّة حديث: باب مدينة العلم علي، لأبي الفيض أحمد بن صديق الغماري:

- ‌4 - حديث أولية خلق النور المحمدي:

- ‌5 - الآثار المروية في مجيء المهدي:

- ‌تفصيل القول في طُرق الأحاديث:

- ‌كُتُب الإمام الأكبر في السّنة:

- ‌الكتاب الأول: كشف المغطّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطّا

- ‌أمثلة تحدِّد منهج الإمام مالك في الموطأ:

- ‌الكتاب الثاني: النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح

- ‌الأول: مقدمة كتاب التفسير في البخاري

- ‌الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها

- ‌الثالث: حديث حذيفة رضي الله عنه

- ‌الرابع: حديث أنس رضي الله عنه

- ‌الخامس: باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين بمكة

- ‌السادس:

- ‌السابع: عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}

- ‌الثامن: حديث عائشة رضي الله عنها

- ‌التاسع: من حديث طويل لأبي هريرة رضي الله عنه

- ‌العاشر: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

- ‌أصول الفقه والفقه والفتاوى

- ‌جملة من موضوعات ما حرره الإمام من هذه المادة:

- ‌قائمة فيما حرره الإمام من مقالات مختلفة:

- ‌مقاصد الشريعة الإسلامية

- ‌الفقه والفتاوى

- ‌1 - الموقوذة

- ‌2 - موقع الوقف من الشريعة الإسلامية

- ‌3 - الصاع النبوي

- ‌4 - زكاة الأموال

- ‌5 - حكم زكاة الأوراق النقدية

- ‌6 - زكاة الأنعام

- ‌7 - زكاة الحبوب والأموال

- ‌8 - الإرث

- ‌9 - مقال بعنوان لا صفَر

- ‌10 - شهرا رجب وشعبان

- ‌من فتاوى المجلة الزيتونية، وعددها ثمانية عشر:

- ‌تحليل بعض هذه الفتاوى، وبيان ما قارنها من مواقف وصفات:

- ‌1 - الفتوى الترنسفالية(حكم أكل الموقوذة ولباس القبعة)

- ‌2 - ثبوت دخول الشهر شرعاً، وتوحيد المواسم الدينية

- ‌الفتوى الأولى:

- ‌الفتوى الثانية:

- ‌توقيت فريضة الصوم:

- ‌القاعدة الأولى:

- ‌القاعدة الثانية:

- ‌القاعدة الثالثة:

- ‌3 - حكم قراءة القرآن عند تشييع الجنازة وحول الميت وحول قبره عند دفنه

- ‌4 - إحرام المسافر إلى الحج في المركبة الجوية

- ‌5 - وجهُ تحريم وصل الشعر أو الباروكة

- ‌6 - تعدد الزوجات

- ‌7 - حكم التجنس أو فتوى التجنيس

- ‌8 - الإفطار في رمضان

- ‌علوم الوسائل: علوم اللغة والعربية والبلاغة والأدب

- ‌عيّنات من المادّة اللغوية:

- ‌1 - الملائكة

- ‌2 - المال

- ‌3 - السِّلْم

- ‌مسائل نحوية:

- ‌1 - اسم الإشارة: (ذلك)

- ‌2 - البدل وعطف البيان

- ‌3 - كاد: فعل مقاربة

- ‌أمثلة في الاشتقاق والبلاغة والاستعمال والأسلوب:

- ‌1 - الاسم

- ‌2 - العالَم

- ‌3 - الصراط

- ‌ثلاث ملاحظات:

- ‌1 - تقديم الأهميّة العارضة على الأهميّة الأصلية في {الْحَمْدُ لِلَّهِ}

- ‌2 - المستقيم

- ‌3 - الغضب في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}

- ‌من تآليف الإمام في اللغة:

- ‌1 - شرح الاقتضاب

- ‌2 - غرائب الاستعمال

- ‌3 - اللفظ المشترك

- ‌4 - أخطاء الكتاب في العربية

- ‌5 - تصحيح أخطاء وتحاريف في اللغة العربية في طبعة "جمهرة الأنساب" لابن حزم

- ‌6 - استعمال لفظ "كل" بمعنى الكثرة

- ‌ففي مجال علوم العربية:

- ‌وفي علوم البلاغة:

- ‌1 - أصول الإنشاء والخطابة

- ‌2 - موجز البلاغة

- ‌3 - الأمالي على دلائل الإعجاز للجرجاني

- ‌4 - التعليق على المطول بحاشية السيالكوتي

- ‌وفي الأسلوب مقالان:

- ‌1 - طريقة من شعر العرب في توجيه الخطاب إلى المرأة

- ‌2 - الجزالة

- ‌الآثار الأدبية:

- ‌قصيدة الأعشى الأكبر في مدح المحلّق

- ‌ديوان النابغة الذبياني

- ‌ديوان بشار

- ‌مع أبي الطيب في مكتبته

- ‌معجز أحمد واللامع العزيزي

- ‌الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم وأبي محمد عبد الله الأصفهاني

- ‌البيت الخامس من الواضح

- ‌البيت السابع من الواضح

- ‌البيت الرابع عشر منه

- ‌عمل ابن عاشور في تحقيق الواضح

- ‌سرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن السراج

- ‌البيت الثامن والتسعون = الخامس عشر في الواضح

- ‌البيت الخامس عشر بعد الأربعمائة = الرابع والستون في الواضح

- ‌قلائد العقيان ومحاسن الأعيان لأبي نصر الفتح بن خاقان

- ‌نسخ القلائد المخطوطة التي اعتمدها المحقق في المراجعة: خمس:

- ‌فهارس من نسخ "قلائد العقيان" للفتح ابن خاقان المعتمدة لدى المحقق

- ‌التراجم الزائدة من نسخة مشهد

- ‌شرح المقدمة الأدبية للإمام المرزوقي

- ‌ شعر أبي تمام واختياراته

- ‌الاختلاف بين مدرستي الألفاظ والمعاني:

- ‌عمود الشعر:

- ‌النقاد ومذاهبهم:

- ‌أصول النظام الاجتماعي في الإسلام

- ‌إصلاح الفرد:

- ‌إصلاح الجماعة:

- ‌الأُخوة الإسلامية:

- ‌إصلاح العمل:

- ‌نظام سياسة الأمة:

- ‌مكارم الأخلاق:

- ‌المواساة:

- ‌حديثه عن منهجه:

- ‌ الفطرة

- ‌السماحة:

- ‌الحرية:

- ‌الوازع:

- ‌الإسلام حقائق لا أوهام:

- ‌ الحقائق

- ‌الاعتبارات:

- ‌الوهميات:

- ‌التخيّلات:

- ‌متعلقات الأعمال:

- ‌المساواة:

- ‌ حكومة الأمة

- ‌أبرز مقاصد الشريعة المعتمد عليها في إقامة أصول النظام الاجتماعي في الإسلام:

الفصل: ‌القسم الأولحركة التجديد في بلادي المشرق والمغرب

‌القسم الأول

حركة التجديد في بلادي المشرق والمغرب

ص: 45

تونس ما بين إيالة ومملكة وجمهورية

جمادى الأولى 1296 - رجب 1393 = سبتمبر 1879 - أوت 1973

ص: 47

بسم الله الرحمن الرحيم

في خلال هذه الفترة القصيرة من عمر التاريخ التي يلتقي طرفاها على نحو قرن من الزمن، انحسرت الأيام عن أحوال واضطرابات وأوضاع وانتكاسات، زلزلت العالَميْن الإسلامي والعربي بسبب ما حاق بالدولة العثمانية، رغم ما قامت به في آخر الأمر من إصلاحات ودعت إليه من تنظيمات (1)، من تداعٍ وتفكك وضعف ووهن. فانفرطت ولاياتها واحتجب سلطانها، ودخلت الواحدة منها تلو الأخرى تحت هيمنة الغرب والحكم الأوروبي. وأطاحت القوات الانفصالية؛ جمعيةُ الاتحاد والترقي، وحزب تركية الفتاة بباقي هياكل الخلافة، وزحفت الدول الاستعمارية على البلاد العربية، وتحوّلت الخارطة السياسية للولايات العثمانية، وأصبحت مناطق نفوذ أجنبي فرض نفسه عليها، حين فقدت المَنَعَة الذاتية والحامي والنصير.

إن ما أصاب العالم الإسلامي والعربي في أوائل تلك الفترة، بسبب الوضع الجديد الذي سحق عاصمة الخلافة، لهو أشد خطراً

(1) التنظيمات الخيرية بتركيا 1839 م، خط شريف كلخانة، خط همايون، قانون أساسي. هي جملة إصلاحات اعتمدتها الخلافة العثمانية في القرن التاسع عشر، تقضي أولاً بتعويض عساكر الإنكشارية بالعسكر النظامي، وبقطع دابر أمراء الإيالات، وبضبط السياسة الشرعية بإعانة من رجال الدولة وعلمائها العاملين، وبإحداث أنظمة كقانون إدارة مصالح الإيالات. انظر دائرة المعارف الإسلامية (1): 4/ 689 - 693؛ خير الدين. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تحقيق المنصف الشنوفي: 1/ 165 - 186.

ص: 49

وأبعد أثراً في حصول ذلك التحوّل. فقد أكّد المؤرِّخون أن الدولة العثمانية التي كانت أحوالها تسوء يوماً بعد يوم لم تسْعَ بجدٍّ إلى تطوير البلاد التابعة لها نحو الأفضل، وأنّى لها ذلك؟! ولكنها تركتها في الواقع ضحيّة لمشاكلها المزمنة، وأنظِمتِها الاجتماعية والإقطاعية الظالمة، حتى إذا جابهتها وجابهت الولايات المرتبطة بها المعركة العاتية - معركة التقدّم على كل الجبهات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية - وجدت السلطنة نفسها في أعقاب الحرب المدمّرة، وإثر المخططات الماكرة، تمثل عالماً واسعاً ممتداً بين القارات الآسيوية والأوروبية والإفريقية يتكوَّن من دول ممزَّقة وشعوب مفتَّتة تشكو جميعُها الفقر والجهل والمرض والتخلف وقلة الحيلة (1). واختار الكماليون الانحسار في حدودهم الترابية التركية الضيّقة، وقطعوا صِلاتهم بشعوب ودول الخلافة. وقامت الجمهورية عقب الإمبراطورية، وتنكّروا لكل المقوّمات غير الطورانية، واندفعوا يقلّدون الغرب، ويأتمّون به سياسياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً. وكأنهم لم تكن تربطهم صلة بمقوّمات الحضارة الشرقية الإسلامية التي دانوا لها وأقاموا عليها قروناً طوالاً.

وإذا التفتنا إلى الولايات أو الإيالات، التي كانت مرتبطة بها ثم انفصلت عنها، لمسنا آثار التطوّرات والأحداث المتسارعة بها صدًى لما كان يجري فيها. وفي تونس التي كان يحكمها من قِبَلِ الدولة العليَّة محمد الصادق باشا باي الثاني عشر للدولة الحسينية، عزَل هذا الحاكم وزيرَه الأكبر المصلح خير الدين باشا صاحب كتاب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، كما فصَله عن رئاسة اللجنة

(1) فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: 184.

ص: 50

المالية (الكومسيون المالي)(1).

وانتقل هذا الأخير إلى الآستانة، وولي بها رئاسة اللجنة الاقتصادية والمالية، ثم عيّن صدراً أعظم لدولة الخلافة (2). وبفصله عن مراكز النفوذ في بلاده واضطراره للاعتزال عنها والالتحاق بالآستانة خلا لمنافسيه الجوُّ في معالجة ما تردّت فيه الإيالة من أزمات مالية واقتصادية واجتماعية وصحيّة، وفق ما وضعوه من مخططات وارتأوه من مبادرات مشبوهة. وهكذا استفحل الأمر بعد ذلك باختلال ميزان الدولة أكثر مما كان عليه، وبمزيد حرص الباي وحاشيته على الاقتراض من الدول الأوروبية. وفُرضت الجبايات وأنواع الأداءات المجحفة على الشعب، وظهرت الفتن والثورات في أطراف البلاد. وصحب هذا الوضع ازدياد الغزو التجاري الأوروبي في مختلف الجهات، وتعطّل العمل بالتنظيمات التي وضعها خير الدين لتشمل القضاء والفلاحة والتجارة والاقتصاد والأداءات والأوقاف والتعليم (3). وعمت البلاد الفوضى، واكتنفت الناس الحيرة والمخاوف آخر الأمر بانتصاب الحماية الفرنسية واستلاب السيادة القومية، وقيام حكم جديد في البلاد أساسه الطمع والحقد والبغضاء، وآثاره الاستبداد والمهانة والتبعية. ومرت لتحقيق ذلك أحداث وأحداث أتت على الأخضر واليابس؛ استمرت من 1298/ 1881 إلى إعلان الاستقلال وخروج البلاد من محنتها 1375/ 1956 (4).

(1) ج. س. فان كريكن. خير الدين والبلاد التونسية (تعريب البشير بن سلامة): 169 - 170؛ المنصف الشنوفي. تمهيد كتاب أقوم المسالك: 1/ 23.

(2)

المنصف الشنوفي. تمهيد كتاب أقوم المسالك: 1/ 23.

(3)

المرجع السابق: 1/ 22 - 23.

(4)

محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الفكرية والأدبية في تونس: 21.

ص: 51

وإن السلطة الجديدة الفرنسية، رغم عنادها وشدّتها وما ابتدعته من ألوان التصرف الاستعماري البغيض، لم تقوَ على اقتلاع الشعب من جذوره، ولا تمكّنت من القضاء على هويته، ولا أفلحت في إغرائه وتلهيته عن مقوِّمات عزّته، أو صرفه عن أمجاده وبطولاته، أو تهوين إسهاماته الحضارية المتميّزة في نفسه.

أجل قامت السياسة الفرنسوية على الاستحواذ على كل شيء، وعلى الاستبداد بكل شيء. فالسلطة السياسية والإدارية والاقتصادية والأمنية كلها بيدها لا يمثل التونسي من ذلك شيئاً .. فليست الهياكل السلطوية سوى أجساد خاوية جامدة يحرّكها المستعمر، ويقتصر دورها على تنفيذ إرادة المحتلَّ فيما يعود إليها من شؤون. فلا إرادة ولا قدرة لها، وإنما هي مجرد آلات وهمية طيِّعة، لا تتجاوز وظيفتها ما أنيط بها من ردِّ الأمور - إذا دقَّت - إلى "الحاكم الأجنبي" السلطة العليا، ليزنها بميزان نظره ورغباته وتقديره للمصالح. فلا الباي ولا وزراؤه ولا العمال (الولاة) ولا مساعدوهم يسبِقون بالقول المقيمَ العام والكاتب العام والمراقبين وأعوانهم في شيء. والمحاكم الفرنسية والمختلطة تتقدم القضاء التونسي في جميع صوره ودرجاته. وشؤون الدولة الخارجية والأمنية والعسكرية ونفوذها كلها من خصائص دولة الحماية.

وتزيد من ويلات هذا الوضع البغيض عمليات السلب وانتزاع الأراضي الزراعية والأوقاف العامة والأملاك من أهليها بشتى الطرق والوسائل. والإمعان في تفقير المواطنين، ونشر الذلَّة والمهانة بينهم، وإقامة الأنصاب والتماثيل في الشوارع ومفترقات الطرق، إشادة بالسلطات الاستعمارية الغاصبة القاهرة، وتذكيراً وتأكيداً لسياسات القمع الظاهرة المتميَّزة في كل مجالات الحياة في أرض الحماية، من

ص: 52

تصرّفات عنصرية حاقدة جائرة كالثلث الاستعماري (1)، وما كان يقابلها من حركات التجنيس ووقائع الزلَّاج (2)، أو يتبعها من ألوان السخرة للعمال والمستضعفين، إلى إمعان في التجهيل، وصدٍّ للمواطنين عن سُبُل الكرامة، وصرفهم عن التمتع بأدنى الحقوق التي شرعها الله لهم في بلادهم حتى لكأنهم غرباء بين أهليهم، أجانب في أوطانهم.

وقد دُبّر ذلك الأمر بليل؛ فإن إنجلترة، وقد بدأت تفكّر في التوسع الاستعماري، وتتنازع مع غيرها من الدول الأوروبية، كما ألمعنا إلى ذلك، تلقّت من بسمارك اقتراحاً في شهر أبريل 1878 م باستعمال تونس عملة تبادل بينها وبين فرنسة للحصول على قبرص (3). وأكّد ذلك سلسبري بقوله في مؤتمر برلين للوفد الفرنسي:"خذوا تونس إذا شئتم، إن إنجلترة سوف لن تعارض في ذلك بل ستحترم قراركم"(4). وشيئاً فشيئاً تحصّلت فرنسة على الحرية الكاملة للعمل في تونس على حساب السيادة التركية. وكُلِّف روسطان بترتيب الحماية. وتعلّل الفرنسيون بأسباب ملفّقة، وفرضوا على الباي بعد اكتساح التراب التونسي معاهدة الحماية (5)، ولم تُجدِ استغاثة والي

(1) مِنحة إضافية تسند للموظفين الأوروبيين وحدهم تقدر بثلث جراياتهم.

(2)

أكبر مقبرة بتونس في طريق الضاحية الجنوبية، جرت بها أحداث دامية حين أرادت حكومة الحماية الفرنسية فرض دفن المتجنسين بالجنسية الفرنسية بها.

(3)

عبد الرحمن تشابجي، المسألة التونسية والسياسة العثمانية (تعريب عبد الجليل التميمي):45.

(4)

نفس المصدر: 54.

(5)

ابن أبي الضياف. إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس؛ محمد الفاضل ابن عاشور، الحركة الفكرية بتونس.

ص: 53

تونس بالدولة العليَّة ولا نداءاته المتكررة إلى الدول التي أمضت معاهدة برلين إجابة منها. وتواصل تقدم الجيش الفرنسي حتى دخل قائده قصر الباي مصحوباً بكتيبة من جنود الخيّالة. واعترف باشا تونس بأنه وقّع المعاهدة تحت وطأة التهديد مشيراً إلى أن ذلك يطعن في شرعيتها. وكانت إجابة الجنرال: "أسجل رضاءكم بدون أن أهتم بردود فعلكم"(1).

ولئن عجزت السلطة الرسمية عن مقاومة هذا الاحتلال لعدم وجود أية مساندة خارجية تذكر، وللعجز المادي عن مواجهة قوى الاستعمار الكثيفة، فإن سكان البلاد الذين لم يسكتوا عن الضيم من قبلُ مع باي الأمحال وجباة الأموال من أعوانه ومساعديه (2)، أوقدوها ثورة متأجِّجة. وكانت الانتفاضة الشعبية لتعزيز القوات المسلحة بالإيالة. واندلعت الاضطرابات في كل جهة، وظهرت بالجنوب حركة تلقائية امتدت من صفاقس إلى القيروان كما أعلنت قابس وجربة وجرجيس الانتفاضة مثل صفاقس (3). ولكن سرعان ما طغت القوة المادية على روح البذل والتضحية، وقامت الموازنة بين القبيلين المهاجم والمدافع.

وبسبب هذه النتائج انكبّ رجال الإصلاح على دراسة علل هذه النكبة، وظهرت ثُلَّة من المفكرين والقادة اشتهروا بدأبهم على انتهاج طريق التحول وسبيل الإصلاح لتجديد المقاومة للعدو وافتكاك السلطة وتطهير البلاد وحماية العباد من الغاصبين المستبدِّين. وكان

(1) نفس المصدر: 130.

(2)

أحمد بن أبي الضياف. الإتحاف: 6/ 35 وما بعدها.

(3)

عبد الرحمن تشابجي: 152 - 157.

ص: 54

أول دافع لهم للتحرك وتنظيم الصف والإعداد للمواجهة آيتان كريمتان ظلَّتا تسيطران على أولي النهى من المؤمنين الصادقين والدعاة الصالحين: الأولى قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (1)، والثانية قوله عز وجل:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (2). وبدأ المفكِّرون والعلماء بالدعوة والتوعية وتأكيد الارتباط؛ ارتباط المواطنين بمقوِّمات هويَّتهم وأسباب عزّتهم.

وتجدّدت روح الإيمان في النفوس - والإيمان أساس المواقف الصادقة والبذل والعطاء - وتَمسّكَ المناضلون بعقيدتهم، والتَزموا أوامر دينهم، ونَشرَ المصلحون أصول النهضة، وبنوا أسس وحدة الأمة، وغرسوا أسباب التقدم والرقي. وظهر بالآستانة وتونس مناصرو التنظيمات من الشيوخ والعلماء أمثال شيخ الإسلام أحمد عارف بإسطنبول، والعالم الصالح الفقيه الزاهد الشيخ إبراهيم الرياحي بتونس (3). وساندت هؤلاء جمهرة من رجال الفكر والعلم والسياسة كالشيخ محمود قابادو مدير المدرسة الحربية بباردو، وشيخ الإسلام سالم بوحاجب، والأستاذ المحقِّق الشيخ محمد النَّخْلي، والمؤرخ أحمد ابن أبي الضَّياف صاحب الإتحاف، والوزير المصلح خير الدين باشا التونسي.

وكان اعتماد هذه الثلّة المناضلة، في توجيه المواطنين، وبناء

(1) المنافقون: 8.

(2)

الأنفال: 60.

(3)

خير الدين. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك: 1/ 167 - 168.

ص: 55

الثقة في نفوسهم وشحذ أرواحهم وملكاتهم، على نشر العقيدة الصحيحة وأحكام الشريعة المطهَّرة بين الخاصة والعامة، والعمل الجاد من أجل إصلاح الحكم في البلاد، والدعوة إلى الاقتباس من الدول المتقدّمة الراقية، والشعوب المتحضّرة المتمدّنة، أسبابَ القوة والظهور، ووسائلَ الرقي والتقدّم في كل المجالات العمرانية والصناعية والاقتصادية وغيرها (1). ذلك أن العقيدة أساس وحدة الأمة، والشريعة ميزان العدل، بهما ضمان مصالحها ومنطلق القوة والمنعة فيها. فهي تحتوي على تعاليم دقيقة واضحة. وازدهار الأمة وانحطاطها يرتبطان أشد الارتباط باتباع قواعد الإسلام أو التنكب عنها (2). وهي الفيصل بين الحق والهوى، والصلاح والفساد {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (3).

والسياسة الشرعية هي الأحكام التي تنظَّم بها مرافق الدولة، وتُدار بها شؤون الأمة، مع مراعاة أن تكون تلك الأحكام مشتقة من روح الشريعة، نازلة على أصولها الكلية، محقّقة أغراضها الاجتماعية، ولو لم يدل عليها شيء من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في الكتاب والسنّة. وبالالتزام بالمنهج الديني الإسلامي تذاد صور الجور والفتن، غير أن ذلك لا يتم إلا بتوافر العدل والحرية اللذين هما أصلان من أصول الشريعة (4). وللتأكيد على هذا دعا خير الدين، في أقوم المسالك، وفي كثير من مقالاته وتصريحاته من أجل إصلاح الحكم، وتثبيت قواعده، والتوجّه به إلى صلاح الأمة

(1) المنصف الشنوفي. تمهيد أقوم المسالك: 1/ 63 - 70.

(2)

ج. س. فان كريكن: 121.

(3)

المؤمنون: 71.

(4)

خير الدين. أقوم المسالك: 1/ 131.

ص: 56

وخير المجتمع. وإنه لمن الواجب الجزم بأن مشاركة أهل الحلّ والعقد للملوك، في كلّيات السياسة، مع جعل المسؤولية في إدارة شؤون البلاد على الوزراء المباشرين لها، بمقتضى قوانين مضبوطة، يراعى فيها حال المملكة، أجْلَبُ لخيرها وأحفظُ لها (1).

وأما الدعوة إلى الاقتباس من الغرب، وهي ظاهرة الحداثة التي تكمل الجانبين الأولين الممثلين للأصالة في المجتمع الإسلامي، فإن الإلحاح عليها كانت تنطق به مقدمةُ أقوم المسالك، الداعية إلى الأخذ بسببين اثنين:

أولهما: إغراء ذوي الغيرة والحزم من رجال السياسة والعلم بالتماس ما يمكنهم من الوسائل الموصّلة إلى تحسّن حال الأمة، وتنمية أسباب تمدّنها، وتمهيد طرق الثروة، وترويج سائر الصناعات، والقضاء على البطالة.

ثانيهما: تحذير ذوي الغَفَلات، من عوام المسلمين، من تماديهم في الإعراض عمّا يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا. وقد قال الشيخ المواق من قبل:"إن ما نهينا عنه من أعمال غيرنا هو ما كان على خلاف مقتضى شرعنا"، وقال ابن عابدين:"إن صورة المشابهة فيما تعلّق به صلاح العباد لا تضرّ"(2).

تلك هي الاتجاهات الأولى التي سارت عليها حركات الإصلاح في البلاد التونسية قبيل صدمة الاحتلال وبإثرها. وكان الإمام محمد عبده يلاحظ ما ينشأ عن ذلك من تقارب مع سلطة الاحتلال تمثّله "فئة من الناس وَطَّنت النفس على الاقتناع بتفوّق

(1) خير الدين. أقوم المسالك: 1/ 137.

(2)

المرجع نفسه: 1/ 126.

ص: 57

هؤلاء الدخلاء، وأخضعت حياتَها لسلطان حياتهم. فتطلّعت إلى الأخذ بما هم عليه من ثروة أو بهجة أو لذة على قدر ما تسمح لهم به وسائلهم". فنادى بجهير صوته:"فنيت مذاهب الطامعين أزماناً ثم ظهرت، بدأت على طرق ربما كانت تنكرها الأنفس ثم الْتَوَتْ. أوغلَ الأقوياء في سيرهم بالضعفاء من الأمم حتى تجاوزوا بيداء الفكر، وسحروا ألبابهم حتى أذهلوهم عن أنفسهم وخرجوا بهم عن محيط النظام، وبلغوا بهم من الضيم حدّاً لا تحتمله النفوس البشرية. وإنّ الأمم الكبيرة إذا عراها ضعف، ثم صالت عليها قوة أجنبية أزعجتها، ونبَّهَتْها بعض التنبيه. فإذا توالت عليها وخزات الحوادث وأقلقتها آلامها، فزعت إلى استبقاء الموجود ورد المفقود، ولم تجِد بدّاً من طلب النجاة من أي سبيل".

ومن هنا كان حتماً أن يذكر الساسة والدعاة ما صار إليه المسلمون من الانحطاط بعد العلو، ومن الضَّعف بعد القوة، ومن المرض بعد الصحة، ومن الذلّة بعد العزّة، فإن سببه صدوفُهم عن عقيدتهم الصحيحة، ودينهم السمح، مقوِّم جماعتهم وأساس وحدتهم. وإن السعادة الحقيقية لهي طلبة الإنسان الأصيلة في حياته على الأرض لا يجوز أن تلتمس - كما قال جمال الدين الأفغاني - إلا في الدين الخالص الذي هو الإسلام. فالدين هو الذي يتيح للإنسان الارتقاء فوق مراتب البهيمية الدنيا لإدراك صورة مهذبة كاملة سعيدة لا يستطيع أن يحقِّقها أيُّ طريق آخر في الحياة. والدين هو الذي يسمح ببناء نظام اجتماعي متماسك متَّحد يسعى لخير المجموع وسعادته داخل إطار المجتمع البشري الخاص والعام على حد سواء (1).

(1) فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: 171.

ص: 58

وليس حقاً ما علّل به الغرب هجمته الشرسة على الإسلام من

حيث كونه ديانة مضادة للتمدُّن (1). فقد رد الأفغاني ومحمد عبده على هذه الدعوى التي انطلقت على لسان رينان وهانوتو وفرح أنطون وأمثالهم، وكَشَفَ الغلاييني عن روح المدنية في الإسلام، وأكد محمد فريد وجدي أن المدنية الحديثة تتقرب باستمرار، إن لم يمسها التواء أو انحراف، من روح الإسلام الحقيقي.

وسارت الأجيال جيلاً بعد جيل على مدى هيمنة الحكم الأجنبي بتونس، تتبع طلائعُها المسالك التي انتهجها رواد الإصلاح الأولون. وبقدر ما أظهر الغاصب من خطط سياسية ماكرة، وتظاهر به من دعاوى التغيير والإصلاح كان المناضلون، كلّ من موقعه، ومكان عمله، ومركز نشاطه، يحيط تلك التدابير والتصرّفات بما تتطلبه من صمود، وتمليه من تحركات. وامتلأت النفوس، نفوس الخاصة والعامة، بما مسَّها من قهر وعدوان وهضيمة، وبشعور قوي بالحاجة الملحّة إلى دفع كل صور الظلم، ومواجهة التحدّي، من أجل تعديل الوضع، ورفع الأسر، واسترداد الحق، واستعادة الكرامة والحرية.

وبما ترسّخ في روعهم من وجوب اكتساب أو استرجاع شروط كمال السعادة للأمم التي لا تحصل إلا بتقويم المنهج العقدي الإسلامي، وتطهيره مما يشين العقول من لوثة الأوهام وكدر الخرافات، واعتماد سبيل المؤمنين في منهجهم الذي دعا إليه الله على ما به من توجه النفوس إلى بلوغ أعلى مراتب الكمال الإنساني تطبيقاً لخلق القرآن، والتزاماً بالسنّة المطهرة والقدوة الحسنة،

(1) نفس المرجع: 411 - 412.

ص: 59

والاحتكام إلى العقل، الهبة الإلهية النورانية التي تعصم النفوس من التقليد وتحمل على النظر والاستدلال في طلب الحق والتوصل إليه، والأخذ بأصول التربية الإسلامية التي تخلّص النفوس من سلطان الشهوة وتهذّبها بالمعارف الكاملة والفضائل السامية (1).

شقّ الدعاة سبيل الإصلاح، وحرصوا على تحقيق النهضة الشاملة التي تسدّ على العدو الطريق، وتقرّبهم من الغاية التي رسموها لأنفسهم من أجل تقدُّم مجتمعاتهم وتحرير أوطانهم. ففي مجال التعليم كان الانصراف كلياً إلى أعظم معالم المجد القومي في البلاد التونسية، وأجمعها للمعاني التي تمثِّل عظمة الماضي وضمان الحاضر ونجاح المستقبل، وذلك المعلَم هو جامع الزيتونة. فإنه باعتبار كونه أعظم مساجد العاصمة يُمثل قدسية الدين، وباعتبار كونه أقدم مبانيها يمثل عراقة المجد، وباعتبار كونه معهداً تعليمياً يجمع علوم الملة ويخرّج حفظتها، يُمثل عظمة الحضارة الإسلامية وسلطان الثقافة العربية. فليس بدعاً أن الأمة التي تحرّك شعورها بالقضية القومية، واتصلت بحركة الارتقاء الثقافي، أن تجمع على تقديرها وإجلالها للمَعْلم الشامخ الذي تتمثل فيه عظمة ماضيها ممتزجة بثقافة عصرها. فهي إذا أرادت التسلّي عن أكدار حاضرها المؤلمة باستعادة ماضيها السعيد اتجهت بها تلك الإرادة اتجاهاً شعورياً وغير شعوري إلى جامع الزيتونة (2).

وبرزت العناية بجامع الزيتونة في المحل الأول، وتنادى الشيوخ والطلاب بإصلاح التعليم ومراعاة أحوال الطلبة، ومراجعة

(1) فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام: 169.

(2)

محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الفكرية والأدبية في تونس: 214.

ص: 60

مناهج التدريس، ودعم العلوم الإسلامية، مع التأكيد على تطويرها والتقدم بها غرضاً ومنهجاً، وإضافة كل ما تمس إليه الحاجة من العلوم الإنسانية والرياضية والطبيعية والتطبيقية (1). وقامت إلى جانب ذلك المطالبة بتعميم التعليم ومجانيته.

وبعد تأسيس المدرسة الصادقية 1291/ 1874 التي التحق خريجوها الأولون بالمدارس الثانوية ودور المعلمين الابتدائية بفرنسة 1897 - 1898 (2).

وبعد إنشاء المدارس الفرنسوية العربية التي قامت بالتخريج الشكلي للناشئة التونسية بعيداً عن متطلّباتها وأهدافها - وكأن دورها لم يكن يتمثل في واقع الأمر إلا في مسخ عقول الأطفال وتعويضهم لغة بلغة وعادات بعادات - انطلق المصلحون من قادة الفكر والعلماء بتونس، إلى دراسة الأوضاع، وكُشفت الحقائق ووُضعت الخطط لحمل العالم والمتعلم على انتهاج السبل التربوية المطلوبة والتعليمية الصحيحة؛ انطلاقاً بهذا الكيان ومدّه بما يستحق من جهد وأولوية.

وتأسست الجمعية الخلدونية فكانت سنداً ومعواناً للتعليم الزيتوني في شُعب المعرفة الطبيعية والرياضية، كما كانت بمكتبتها ومحاضراتها خير مركز لتوجيه العائدين من الخارج، بشدِّهم إلى أصول حضارتهم. وتنمية قدراتهم ومواهبهم. وقد كانوا من قبل أيام إقامتهم بفرنسة دعاة للإسلام، رفعوا أصواتهم بتمجيده والتنويه

(1) يُفصِّل هذه الدعوة الإصلاحية للتعليم الزيتوني كتاب مترجَمِنا أليس الصبح بقريب.

(2)

محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الفكرية والأدبية في تونس: 45.

ص: 61

بمبادئه، وإبلاغ أوروبة بنتائج الحركة الإصلاحية نقضاً لما شاع بين أهلها من سوء ظن بالإسلام، ولزعمها عدم تمشِّيه مع مقتضيات الحياة العصرية (1).

واستمر الكفاح من أجل التعليم حتى شيدت الجامعات التونسية، وتحققت على أيدي المواطنين الثورة الكبرى في هذا الميدان بإقامة المؤسسات العلمية في عرض البلاد وطولها، وإيجاد مختلف التخصّصات، ومراكز البحث العلمي بها، تحقيقاً للتنمية، وسعياً من القادة في هذا الميدان إلى مواكبة العصر، وتبادل الخبرات مع المراكز والمؤسسات الدولية والعالمية.

وقد انطلقت إلى جانب ذلك قيادات شبابية كثيرة بالبلاد، ظهرت مرّة متزامنة وأخرى متعاقبة، تلقّى بعضها عن بعض، في أكثر من نصف قرن، أزِمّةَ الأمر ومقاليد القيادة الشعبية الوطنية، وسارت بالناس قُدماً في ثبات وجرأة، في مجالات النضال من أجل تحرير البلاد وتحقيق ما وراء ذلك من أهداف.

فكان النادي التونسي، وحركة الشباب التونسي، ثم الحزب الحر الدستوري التونسي، فحزب الإصلاح المنفصل عنه، وكان الحزب الحر الدستوري الجديد: الديوان السياسي، والاتحاد العام التونسي للشغل، وجامعة الموظفين، وغيرها من الحركات والمنظّمات التي كان آيةَ إخلاصها الاتحادُ والتكتلُ وتنظيم العمل الجماعي في كل ناحية من نواحي الحياة لإقامة المنشآت الحرّة متسقة مع الكفاح السياسي ومبنية على روح التضحية (2).

(1) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الفكرية والأدبية في تونس: 99.

(2)

المرجع نفسه: 136.

ص: 62

وطبيعي أن يكون مجال الحركة لهذه الخلايا اليقظة الحيّة في المجتمع التونسي قائماً على اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات من جهة، وعلى الخطب والمحاضرات والمقالات والصحافة والنشر من جهة أخرى.

وهكذا امتدَّت الفروع، وتعددت الخلايا لتلك الحركات، وصدر العديد من الصحف والجرائد والمجلات والكتب نعدّ منها: جريدة التونسي، والاتحاد الإسلامي، والزهرة، والفجر، والبدر، والبرهان، والنهضة، والعرب، والإرادة، ثم العمل التونسي، وتونس الفتاة، والحرية، والشعب، وتاريخ الحركة الوطنية التونسية، ونحوها. وقد مثل كتاب تونس الشهيدة عند صدوره مادةً ثرية استغلّها رجال الصحافة يومئذ. فكان مرجعَهم لشرح النقط التفصيلية للإصلاح الحكومي المزعوم، وطريقاً لمهاجمة الإدارة وانتقاد تصرّفاتها في جميع نواحي الحياة العامة، بقياس ابتعادها عن الأصول الهامة التي نادى بها، كما نادى الصحافيون بالمبادئ الأربعة عشر التي أعلن عنها وِلْسُون وطالبوا بتطبيقها، وخاصة منها مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.

وعن طريق هذا التحرّك الجاد المبارك، فيما بين الحربين العالميتين وما بعدهما، سرى في البلاد عزم إجماعي، قوامه عقيدة وطنية مبنيّة على أن غاية العمل الشريف تتمثل أساساً في خدمة المصلحة العامة، وأن ذلك لا يثمر ثمرته المرجوة إلا متى كان الإخلاص سبيله لتحرير البلاد من قيود الوضع الاستعماري الذي يعوقها عن التقدم، ويمنعها من إنشاء المؤسسات الصالحة.

وجهود كهذه مهدّدة بدون شك بالإيقاف والتعطيل، تعقبها عادة

ص: 63

أنواع من العقوبات الصارمة والتنكيل .. وذلك بصدور الأوامر والأحكام الاستثنائية لإثارة عزائم المواطنين، واستفزاز سلط الطغيان والبغي. وتبعت ذلك انتفاضات شعبية، ومظاهرات جماعية، وفتن داخلية وخارجية، أذكتها العلاقات السياسية التي قامت بين الحركات التونسية والحزب الاشتراكي ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان بفرنسة مرّة، وتوسع نشاط القادة في الخارج بتعاونهم مثلاً مع الحركة الفلسطينية، ودعوتهم معها إلى أول مؤتمر إسلامي بالقدس 7 - 17/ 12/ 1931.

وقد كان رجال الكفاح يترصّدون كل بادرة حكومية تسوء الشعب، أو تلحق به ضرراً، فيدفعون المواطنين إلى التحرُّك وإبداء الاعتراض على تلك التصرّفات ومقاومتها. وحين سيم العمال الخسف في البلاد التونسية، واضطهدوا ومُنعوا حقوقَهم، ظهرت الهزّات الاجتماعية من ثورات وإضرابات ومقاومة مسلحة .. فكانت إضرابات الطلبة 15/ 3/ 1910، وواقعة الزلاج 7/ 11/ 1911، ومقاطعة الترمواي 1912.

وكانت حركة التجنيس، بما قامت عليه من تخطيط ماكر للأوضاع، واعتداء صارخ على الحريات، وإغراء مقيت بذلِّ التبعية. ونجمت فتن لم يكن يراد منها سوى استهداف الشعب في مقدساته، والدعم الدمغرافي للمحتل الأجنبي الجاثم على تراب الوطن، سواء كان ذلك منه عن طريق استلحاق الأجانب من إيطاليين ويهود ونحوهم من المقيمين بالبلاد، أو بتجنيس التونسيين أنفسهم، تمكيناً لقدم المستعمر، وإعلاءً لصوته، وفرضاً لسلطانه ونفوذه. وقد أعلنت الحركات العُمالية والنقابات عن مقاومتها للمثلث الاستعماري، وقوبلت هذه الخطة السياسية الاستعمارية المدبّرة بما يناسبها من

ص: 64

تنديد ومقاومة. وأزهقت الأنفس في سبيل ذلك، وأتلفت الأرواحُ وزجّ بمن لم يستشهد - وهي جموع كبيرة - في السجون، أو أبعدوا ونفوا من الأرض. وكذلك كان ديدن هذا الاستعمار عندما تحدَّى المغاربة وواجههم مواجهة عنيفة بمحاولة فرض الظهير البربري عليهم.

واستمرت سياسة القمع والعدوان على أشدّها، كما استمرت الحركة الوطنية في ائتلاف عناصرها وتوحيد صفوفها وانتشار خلاياها. وكانت واقعة (9) أبريل التي كان أكثر ضحاياها من الشباب الطالبي. ولحق فيها ما لحق من أذى وسجن ونفي بمدرسي المعاهد والأساتذة، ثم توالت الحركات الجهادية التحريرية باعتلاء رجال المقاومة وأجناد الكفاح قمم الجبال، واستقرارهم بالمناطق الوعرة التي كانت لهم جُنَّة ومنطلقاً للهجوم. وبدأت المفاوضات السياسية تجري بين الحزب والحكومة الفرنسية، ثم ما لبثت دولة الحماية أن أعلنت عن استقلال البلاد في 20/ 3/ 1956. وتبع ذلك إعلان الدستور. وفي 25/ 7/ 1957 عطل نظام الحكم الملكي واستبدل به النظام الجمهوري. وأعلن ذلك رئيس الحكومة بنفسه من على منبر قصر مجلس الأمة. وحرص المواطنون قادة وشعباً على مواصلة جهادهم بدخول معركة الجلاء 15/ 10/ 1963 استكمالاً لتحرير البلاد. ثم اندفعت الجهود من ذلك الوقت في معركة أوسع وأكبر؛ هي معركة التنمية، وابتداء مسيرة البناء، طلباً لصيانة مكتسبات الجهاد، ودعماً لمقوّمات السيادة والعزّة الوطنية.

ومن يعد إلى بدايات القرن الذي حدّدناه، وقدمنا صورة ملخَّصة موجزة عنه، وإلى ما اتصل بها من ظروف وملابسات كانت إرهاصات لها أو تمهيد ومقدمة لما نشأ فيها من دعوات وحركات، لم يتردّد في اعتبار أن العالم الإسلامي في تلك الأثناء كان يمر من

ص: 65

أقصاه إلى أقصاه بمرحلة قاسية وخطيرة، ساد فيها الجهل والفقر والمرض واختلال الأمن، كما ذاع فيها القلق والحيرة والتشاؤم واليأس، حتى رأيت أكثر الناس يتمثل فيها بقول الشاعر:

أتى الزمانَ بنوه في شبيبته

فسرّهم، وأتيناه على هرم

أو يردّد قولَ العتاهية:

أرى الأمس قد فاتني ردُّه

ولست على ثقة من غدِ

ويتفاقم هذا الوضع بالهزَّات والانتفاضات الاجتماعية والسياسية، فتدلهمّ الآفاق، ويزداد القنوط، وتنسد مسالك الرجاء في وجوه المسلمين. ولكن نسمة مباركة من الله تعالى، وروحاً من الإيمان المستقر في قلوب الصادقين المخلصين من عباده، دفعا بجمهرة كبيرة من أئمة الفكر وزعماء الإصلاح ودعاة التغيير، في مختلف الأقاليم، إلى تحدّي صروف الزمن، فرفعوا أصواتهم منادين بالحق وإلى سبيل المؤمنين، داعين مَن وراءهم من إخوانهم إلى الخير في المشرق والمغرب، يعملون على بعث الحياة، وتجديد أسباب العزة والمَنَعة والقوة في نفوس المسلمين. وما إن سرت هذه الروح فألهبت المشاعر، وشحذت العقول، وصقلت المواهب، وحفزت الهمم حتى شعر الناس بالانفراج، وببداية عصر التطور والتقدم الملهم. ونحن من أجل تسجيل هذه الظاهرة، وبسبب ما تقتضيه هذه العجالة من ضرورة الاقتصار على إشارات دالة خاطفة تشير إلى وجود تيارين مشرقيين تزامنا، وتصدَّرا ما كان يظهر بالبلاد التونسية من تيارات إصلاحية، وحركات تجديدية.

* * *

ص: 66