الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - نشأة علم الحديث والتعريف بموطأ الإمام مالك:
اقترحته عليه جمعية النهضة الإسلامية بالرباط في 19 ربيع الأول 1390، ووافاها به 13 جمادى الأولى 1390.
وهو بحث جليل، غني بما تناوله من مسائل، رغم وجازته.
افتتحه بذكر بدايات التعامل مع علم الحديث والحاجة إليه. وإذا تتبعنا الأطوار التي مرّ بها الاشتغال بعلم السنة حتى وضع الإمام مالك الموطأ وجدناها متعددة، تسير مع تطورات العصور ومقتضياتها، ويتزايد إقبال الدارسين عليها واهتمامهم بها في كل طور من أطوارها.
أ - فالصحابة في أول الأمر كانوا في عظيم الحاجة إلى السنة، لما حدث لهم من نوازل يدعوهم الأمر فيها إلى الفتوى والقضاء بين الناس. فعندما أثيرت قضية ميراث الجدة، وجزية المجوسي، وتحقيق معنى الربا، اشرأبت الأعناق إلى من يحفظ من الصحابة في ذلك شيئاً. فكان تقدم هؤلاء واستشارتُهم لما لهم من رواية في ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان الخلفاء الراشدون والصحابة من حولهم، وأكثر الصحابة لا يكتبون، يعتمدون الحفظ والرواية. فكان ذلك مرجعَهم.
ب - المرحلة الثانية استند فيها أبو بكر رضي الله عنه إلى إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتابة في الصدقات، فسأل أنس بن مالك الذي كان عاملاً على الزكاة عن ذلك. وكتابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم في الصدقة.
ج - الموقف الثالث: موقف عمر بن الخطاب الذي استشار الصحابة في كتابة السنن، ثم عدل عن ذلك.
د - ذهاب الحفاظ لولا بقية من الصحابة كانت المرجعَ في
السنة (العلم). فعبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير كانا يكتبان الحديث لعبد الله بن عمر ويستشيرانه. وهذا الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أراد تدارك الأمر فكتب أواخر القرن الأول إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم أحد فقهاء المدينة: "أن اكتب إليّ ما كان من سنة أو حديث".
هـ - تلقُّفُ العلم من التابعين في مسائل كادت تُوقِع الناس في الفتنة بسبب اختلاف المذاهب والنحل والأحزاب، كمسألة الخلافة. فكانوا يحتجّون بما يصنع لهم من أحاديث موضوعة لمذاهبهم، وابتغاءَ دعم سياساتهم. فكثر بذلك الكذب عمداً أو جهلاً، تقليداً أو تحريفاً. واحتاج أهل الحديث إلى الذب عن السنة، وإخراج ما صح منها عن النبي بإخضاعه إلى نقد الرواة، وضبط أحوالهم، وعرض مروياتهم على أصول الشريعة ومشهور السنة. وهكذا تمّ نقد الأسانيد والمتون على وجه يحصل به الاطمئنان إلى ما يرويه العلماء والمحقّقون من السنة الشريفة: المصدر الثاني للتشريع.
وعقب هذا تعرَّض الباحثُ إلى انتشار السنة في الآفاق، وإلى عناية الأئمة بنقدها والتأليف فيها. فذكر أول المصنفات والكتب في ذلك، وهو الموطأ للإمام مالك بالمدينة، وكتاب عبد الملك بن جريج بمكة، وكتب الأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، وهُشيم بواسط، ومعمر بن راشد باليمن، وعبد الله بن المبارك بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالري. وجميع مصنفات هؤلاء الأئمة يعود إلى عصر واحد.
وأتبع الباحث هذا بما لاحظه مؤرخو المادة من اختلاف في الآثار المدوّنة قوّة وضعفاً، منتهياً إلى تقديم طريقة أهل المدينة في
الجمع والاختيار على غيرها. وتأكيداً لرأيه خصّص قسماً من هذا البحث بما يعرّف بشروط الصحة التي هي القاعدة الأساسية المنطلق منها إلى عملية نقد الحديث.
فشروط الصحة ثلاثة:
أولها: تحقّق أمانة الراوي فيما رواه. ويشمل هذا العدالة والسلامة من الابتداع.
ثانيها: تحقّق عدم الالتباس والاشتباه. وهو نتيجة قوّة التمييز التي تحول بين الراوي وبين التدليس والغفلة. وهذان الشرطان يكفلان الاطمئنان إلى صحة الإسناد.
ثالثها: تحقّق مطابقة ما يرويه الراوي للثابت من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه تتولّد شروط الترجيح عند التعارض. وهذا الشرط يرتبط بنقد المتن والتأكد من صحة معنى الحديث.
وقال آخرون: إن من الأسباب الموجبة للطعن في الحديث وردّه ما ذكروه من الكذب، والنسيان، والخطأ، والترويج، والتفاخر. وقد فصّل القول في كل شرط من الشروط، وكل سبب من هذه الأسباب مترجمنا، مبيناً طريقة إمام دار الهجرة في نقدها، ومشيراً إلى طريقته في دفع كل سبب من الأسباب الخمسة المتقدمة.
وبهذا ينتهي الجزء الأول من بحثه المقصود منه بيان مقام السنة إلى ظهور الإمام مالك، وما أخذ به من الأحكام والقواعد ليسلم لمدوّني ما يروونه من الأحاديث والأخبار.
وفي بداية القسم الثاني من البحث تحدّث عن غرض الإمام مالك من تأليف الموطأ، وعدّ ما اشتمل عليه من مواد: وهي جمع ما صحّ عنده من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال الصحابة
والتابعين، وما عليه عمل أهل المدينة، مُودِعاً في مروياته جملة من الأحكام الشرعية، مفسّراً للغريب، مورداً من الآثار ما يسلم عنده في معيار النقد.
ويظهر ممّا نقله الشيخ أن لأبي جعفر المنصور يداً في إنجاز هذا العمل الهام، بدعوة الإمام مالك إلى ضمِّ هذا العلم وتدوين كتبه وتجنب إيراد شدائد عبد الله بن عمر، ورُخَص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود فيه. ونصحه بأن يقصد أوسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة.
وما زال الإمام مالك، بعد جمعه سبعة آلاف أو أربعة آلاف من الأحاديث في موطئه، يتعهَّده مرّة بعد مرّة إلى أن جعله نحواً من سبعمائة حديث. كل ذلك حرصاً منه على الصحة، وبعداً عن المشتبه فيه من مرويات المتقدّمين. ولهذا الغرض اعتبر الموطأ أصحَّ الكتب بعد القرآن. وقد ذكره أهل العلم منوّهين به كإِلْكِيا الهرَّاسي، وسليمان بن بلال، وابن مهدي، وأبي بكر ابن العربي. ومن وصف هذا الأخير له قوله في مقدمتِه لـ عارضة الأحوذي: اعلموا، أنار الله أفئدتكم، أن كتاب الجعفي هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطأ هو الأول واللباب، وعليهما بناء الجميع كالقشيري والترمذي (1).
والإمام مالك مختلف في منهجه عن الإمامين في صحيحيهما بقبوله الحديث المرسل والمقطوع. فهو يراه صحيحاً وحجة. وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة، وعلى طريقته جرى الترمذي. ورأي مالك عند الإمام الأكبر هو الأرجح، لأن العبرة بتحقّق أو ظنّ صحة النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) ابن العربي: 5.