الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحرير والتنوير
لا يعد كتاب التفسير: التحرير والتنوير من بين كتب التفسير المعاصرة. فهو بالمنهج العلمي ألصق، وبطرق السابقين المتقدمين ألحق. لا يقف صاحبه من آثار الأسلاف في هذا الميدان موقف الطاعن أو الذامِّ، ولكن موقف المهذِّب والمستدْرِك.
صدّر الإمام الأكبر تفسيره بمقدمات في علوم القرآن.
وجعل تلك المقدّمات قسماً من الجزء الأول من التحرير، تناول فيه عدداً من القضايا الهامة مثل: التفريق بين التفسير والتأويل، واستمداد علم التفسير، والتعريف بالمنهجين المعتمدين في تفسير القرآن: التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي. كما بحث مقاصد التفسير، وأسباب النزول، وعرّف بالقراءات، وتحدّث عن قصص القرآن، وختم جملة هذه المباحث بتقسيمات القرآن وترتيباته وأسماء ذلك. وخصص المقدّمتين التاسعة والعاشرة: الأولى ببيان أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن ينبغي أن تكون مرادة منها، والثانية بإعجاز القرآن. وفيها من جملة المباحث ذكر مبتكرات القرآن وعاداته.
ومضى الشيخ ابن عاشور في تفسيره على نمط فريد في عصرنا الحاضر، يداني به كبار أئمة التفسير المعتمدين، ويجنح بطلّابه فيه إلى مختلف الطرق، تمكيناً لهم من فهم النص القرآني فهماً كاملاً، وتدريباً لهم على الغوص على لطائف معانيه وإشاراته، غوصاً يسمح لهم بالانتباه إلى دقائقه، مع التربية لملكاتهم والصقل لمواهبهم والارتقاء بأذواقهم. فهو يخاطب به في حلقات درسه طبقة خاصة من طلبة الدراسات العليا، وعدداً من المدرِّسين الذين كانوا يُهرعون إلى مجلسه للتأدّب به والتعلّم منه والتخرّج عليه. فهو يبني بهذه الطريقة
جيلاً جديداً يتلقّى المشعل من يده، وينهج منهجه في سيره، فيعمّ بذلك نفعُه العامةَ والخاصةَ، ويحفظ به اللغة وآدابها، ويُعنى فيه بالقرآن الكريم الذي وعد سبحانه بحفظه في قوله جل وعلا:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1).
وقد اعتمد الإمام الأكبر المنهج الصحيح في تفسيره، المنهج الذي لا غنى عنه لدارس ولا لباحث ينظر في كلام الله تعالى. فنبّه إلى أن تفسير التراكيب القرآنية ينبغي أن يجري على تبيين معاني الكلمات بحسب استعمال اللغة العربية، ثم بأخذ المعاني من دلالة الألفاظ والتراكيب وخواص البلاغة، وباستخلاص المعاني المستنبطة منها عن طرق دلالات المطابقة والتضمين والالتزام مما يسمح به النظم البليغ ولو تعددت المحامل والاحتمالات، وكذلك بنقل ما يؤثر عن أئمة المفسّرين من السلف والخلف مما ليس مجافياً للأصول ولا للعربية، مع تجنّب الاستطراد والاندفاع في أغراض شتى ليست من مفادات تراكيب القرآن.
وقد جعل من أهم مصادره في تحريره: تفسير الكشاف للزمخشري، والمحرر الوجيز لابن عطية، ومفاتيح الغيب للرازي، وتفسير البيضاوي الملخص من الكشاف ومن مفاتيح الغيب بتحقيق بديع، وتفسير الشهاب الآلوسي، وما كتبه الطيبي والقزويني والقطب والتفتازاني على الكشاف، وما كتبه الخفاجي على البيضاوي، وتفسير أبي السعود، وتفسير القرطبي، والموجود من تفسير الشيخ محمد ابن عرفة التونسي من تقييد تلميذه الأبِّي. وهو بكونه تعليقاً على تفسير ابن عطيّة أشبه منه بالتفسير. لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن،
(1) الحجر: 9.
وتفاسير الأحكام، وتفسير الإمام محمد بن جرير الطبري، وكتاب درة التنزيل المنسوب لفخر الدين الرازي، وربما نسب للراغب الأصبهاني.
وإنك إذا تأملت تفسير العلامة الشيخ ابن عاشور ألفيت العقل الراجح، والرأي الصائب، وسعة الفكر، وقوة البيان، مع الحجة القوية والبرهان القاطع. وقد استعد لهذا الدور الجليل بما اكتسبه من علم وخبرة وذوق وملكة في اللغة وآدابها، وبما حصل له من وراء ذلك من مدارك وتصرّفات، هي نتيجة طبيعية لممارساته لفنون القول. لذلك تراه، وهو المزوّد بهذه الثقافة العالية الواسعة، والخبرة العميقة الطويلة، يسلك، في تفسيره وفي تحريره للمعاني والمقاصد، الطريقةَ التطبيقية التي جرى عليها الزمخشري وابن الأنباري وابن الشجري وأمثالُهم. فإذا ما قصرت هذه عن الوفاء بما أراد، عاد إلى محفوظه ومروياته من كلام العرب وأشعارها مستشهداً ومستنبطاً، معلناً عن ابتكاراته وأفهامه الخاصة بقوله:"وعندي" وهكذا يضم هذه الطريقة الاستنتاجية التي كان عليها المبرِّد إلى الطريقة التطبيقية، وهذا الاجتهاد هو ما لا يتسنّى لكل أحد، ولا نأنَسُه بكثرة عند أمثاله من المتقدّمين في هذا العلم.
ومن يُعِد النظر في منهج العلامة الإمام الأكبر في تفسيره يُلْفِ به طِلْبةَ الباحث والدارس من المتعمّقين المتخصّصين. ففيه أحسنُ ما في التفاسير وأحسنُ ممّا في التفاسير (1).
(1) محمد الحبيب ابن الخوجة. بحث في التحرير والتنوير لشيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور. اْثبت ذيل كتاب التفسير ورجاله للشيخ محمد الفاضل ابن عاشور. وبحث في الجانب اللغوي والبياني في التحرير والتنوير مقدم ضمن فصول أدبية وتاريخية لمجموعة من العلماء والأدباء مهداة إلى أ. د ناصر الدين الأسد.
اعتمد الإمام الأكبر في الأساس أغراض التفسير التي دعا إليها الله في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1). وقد نبه إلى ذلك في المقدمة الرابعة من تفسيره، وجعل أغراض التفسير بحسب استقرائه ثمانية (2).
ومما جاء في هذه المقدمة قوله: فغرض المفسِّر بيانُ ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمل المعنى ولا يأباه اللفظ، أي من كل ما يوضّح المراد من مقاصد القرآن أو ما يتوقّف عليه فهمه أكمل فهم، أو يُخفى المقصد تفصيلاً وتفريعاً مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل فلا جرم كان رائد المفسِّر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحَه وعاداتِه في إطلاق الألفاظ. وللتنزيل اصطلاحات وعادات تعرض صاحب الكشاف إلى شيء منها في متناثر كلامه في تفسيره (3).
وقد رأينا من الباحثين المعاصرين الدكتور عبد الغفار عبد الرحيم يقارن بين تفسير المنار للأستاذ الإمام، وبين التحرير والتنوير للإمام الأكبر. فعجبنا من اعتباره صاحب التحرير جارياً على المنهج الذي اختاره الإمام محمد عبده، وجرى عليه أبناء مدرسته مثل السيد محمد رشيد رضا والشيخ عبد القادر المغربي والشيخ محمد مصطفى المراغي وأمثالهم. ثم أظهر التردد في ذلك عند قوله عن الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: إنه أحد أبناء هذه المدرسة ولكن على نمط آخر فريد. ويكشف عن إصابته وجه الحق بعد هذه المقالة بقيامه في كلمة موجزة بالمقارنة بين الأثرين. وذلك حين يقول
(1) ص: 29.
(2)
التحرير والتنوير: 1/ 40، 41.
(3)
التحرير والتنوير: 1/ 41، 42.
عن الإمام الأكبر في تفسيره: فلقد جمع هذا التفسيرُ خلاصة آراء السابقين، وزبدة أفكار المعاصرين في أسلوب أدبي رفيع، وتقسيم علمي بديع (1).
ومن المفيد أن نعرّف بمنهجي الإمامين المتقدمين: فالإمام محمد عبده اعتمد أسلوباً خطابياً مقنعاً يظهر تأثيره في التصرفات القولية التي تتكوَّن منها مادة تفسيره، وفي المحاور الهامة التي كان يتناولها للاستحواذ على الجماهير من مخاطبيه وقرائه، وفي أنواع الجدل وصور المقارنة وطرق المناقشة ذات الأثر البيّن في تقديم آرائه وتركيز نظرياته التي يدعو إليها.
والإمام محمد الطاهر ابن عاشور له اتجاه آخر أساسه ثقافته الأدبية والشرعية، واتساع أفقه العلمي وتمكنه من علوم الوسائل والمقاصد جميعها، مع انتصابه للتدريس والتأليف زمناً طويلاً، وقيامه بالدعوة الإصلاحية فيهما. ويتضح موقف صاحب التحرير من آثار الأسلاف في هذا الميدان. فهو غير موقف الطاعن والذامِّ، ولكن موقف المهذب المستدرك. حمله على الالتزام بذلك مخالفته لعدد من المتقدمين كانوا، فيما صوَّرهم به، أحدَ رجلين: رجل معتكف فيما شاده الأقدمون، وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون. وفي كلتا الحالتين ضر كثير. وهناك حالة أخرى يجبر بها الجناح الكسير وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، علماً بأن غَمضَ فضلهم كُفران للنعمة، وجحد مزايا سلفنا ليس من حميد خصال الأمة. فالحمد لله الذي صدق الأمل ويسر إلى هذا الخير ودل (2).
(1) الإمام محمد عبده ومنهجه في التفسير: 6.
(2)
التحرير والتنوير: 1/ 7.