الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - محمد العزيز بوعَتُّور
هو الوزير العالم الكاتب محمد العزيز بن محمد الحبيب بن محمد الطيب بن الوزير محمد بُوْعَتُّور 1240/ 1825 - 1325/ 1907 بتونس. أصل سلفه من صفاقس. ويتصل نسبه بالشيخ عبد الكافي بوعتور العثماني من ذرية الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه. مهد ابن سبطه العلامة البحر الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور لترجمته بقوله: "إذا كان للتربية الإسلامية الكاملة، والنشأة الأخلاقية الفاضلة مظهر ينطق بسمو أثرهما في الحياة العلمية، وبرهان يفصح بمبلغ الناشئين عليهما من مقامات الرشد في كل ما تولوا، والنجاح أينما انتهجوا، فإن في حياة الوزير الخطير والعالم الكبير عبرة فائقة للمعتبر، في ما بين النشأة الزكية والنجاح في الحياة الاجتماعية من متين الأسباب في حياة من تبوَّأ المنزلة السامية من كل نظر، وحلّ محل الثقة من كل فؤاد حتى ترك حديث مقدرته السياسية يملأ الأفواه والآذان، ومأثورَ أعماله الرشيدة وأقواله الحكيمة تسير بها الركبان"(1).
بدأ حياته الكريمة بحفظ القرآن. وبعد مزاولته التعليم الابتدائي التحق بجامع الزيتونة 1245/ 1839. تلقى به النحو وعلوم العربية والبلاغة وعلوم الشريعة من فقه وأصول. وكان متمكّناً منها ضليعاً
(1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 141.
بها. أخذ عن شيوخ الإسلام: إبراهيم الرياحي، ومحمد ابن الخوجة، ومحمد الشاذلي بن صالح، وعن قضاة الجماعة محمد ابن سلامة، ومحمد الطاهر ابن عاشور الأول، ومحمد النَّيْفَر، وعن العلامة محمد الطيب الرِّيَاحي، والعلامة محمد ابن عاشور، وعن العالم الورع أحمد عاشور. كما حظي بالأخذ عن الإمام العالم الصالح محمد صالح الرضوي السمرقندي البخاري، مفتي أونقالاذ بالهند، عند زيارته لتونس. فقرأ عليه الحديث، وسمع منه وحصل عن طريقه على الأسانيد العالية (1).
ولم تَعُقْه بعد ذلك المناصب الحكومية ولا الوزارة عن مواصلة طلبه للعلوم. فقد شَهِدَه المفتي الشيخ أحمد بن مراد يتردد على حلقة شيخه محمد الطاهر ابن عاشور الأول: مستزيداً من ملازمته فضلاً وعلماً، متخرّجاً على يديه أكمل تخرّج. وتوطّدت بذلك صلته به، وأصبح من خواصه وروّاد ناديه. يقول ابن سبطه:"وقد تأثّر به أيّما تأثّر بما اكتسبه من مخالطته من النظر الواسع، والبحث الحر، وتحقيق الغايات والأسرار من كل قضية علمية أو عادية"(2). وهو وإن شغلته الكتابة والإدارة في بداية الأمر، فإن ذلك لم يمنعه من التشرف بمشاركة أترابه، وذوي النباهة منهم، في إلقاء دروسه، بالمجنبة الشرقية من الجامع الأعظم، تأدباً مع شيوخه، وإقرائه شرح المختصر للسعد في البلاغة (3).
ومن يتتبع سيرة هذا النابغ في العلوم الشيخ محمد العزيز،
(1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 143.
(2)
المرجع نفسه: 144.
(3)
محمد النيفر. عنوان الأريب: 2/ 1008.
الذي نذر حياته للدرس، كَلِفاً به، ومقبلاً عليه، ير كيف حوّله القدر من التدريس ومن طلب طريق أمثاله من الشيوخ ذوي الرجاحة الفكرية والنباهة العلمية، إلى كتابة الدواوين، لما اشتهر من أمره، وذاع من قدراته على تملك صناعتي النثر والنظم وبراعته فيهما. وليس هذا بدعاً، فقد سبقه إلى هذا الميدان صفوة من أهل بيته. كان منهم جدُّه الأعلى الكاتب الشاعر الوزير الشيخ محمد بوعتور الذي كتب للمولى حسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية. ثم تسلسلت مناصب الكتابة والرئاسة القلَمية في عقبه، حتى كانت الطبقة الواحدة من كتاب الدولة الحسينية تعد أربعة أو خمسة من آل بوعتور. وكان من بين هؤلاء جد مترجمنا الشيخ محمد الطيب كاهية باش كاتب في دولة حسين باي الثاني (1).
وهكذا جرى الحفيد على سنن ذويه وأجداده، فتولى الكتابة للمشير الأول أحمد باشا حين انتخبه لها من بين عدد كبير من نظرائه سنة 1262/ 1847. ثم اختاره كاتب سرّه يتلو عليه التقارير والحجج. وقد أشركه في ترتيب خزانته الأحمدية التي حبّس كتبها على طلاب الجامع الأعظم، لما حصل عليه من حيث النجابة ونصاب العلم (2).
ومن تنويه الشيخ أحمد بن أبي الضياف به قوله عنه استطراداً في ترجمة جده محمد الطيب بوعتور: "وأعقب أبناءً امتطى بعضهم صهوة الكتابة. وحفيده الآن هو شمس ضحاها، وقطب رحاها. ورئاستها مع الوزارة طوع بنانه، لو حظي بإعانة من طبع زمانه"(3).
(1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 142.
(2)
محمد النيفر. عنوان الأريب: 2/ 1007.
(3)
ابن أبي الضياف. الإتحاف: (2) 7/ 153.
عهد إليه بعد ذلك بمرافقة ولي العهد في تجواله وتنقلاته في البلاد. وحين آل الأمر إلى المشير الثاني محمد باشا اتخذه هذا، لكبير معرفته به وتقديره لمواهبه، رئيساً لكتبة وزارة المال 1276/ 1860. ثم اختاره عضواً بالمجلس الأكبر الذي استحدثه قانونُ عهد الأمان، وبإثر ذلك وبعد وفاة الشيخ محمد الأصرم في عهد المشير الثالث محمد الصادق باي عيّن باش كاتب وزيراً للقلم 1281/ 1865، فعضواً لمجلس الشورى الملَكي الخاص. وقد كان يعهد إليه في تلك الفترة 1280/ 1863 بتحرير اللوائح للقوانين الجديدة، إذ كان عمدة الدولة في تحقيق الأنظار الفقهية، والمرجع في تطبيق النظر الإسلامي على النظام الجديد تطبيقاً علمياً محكماً (1)، فوزيراً للمال 1283/ 1867. وعند تكوين اللجنة الدولية للمراقبة المالية اختير رئيساً لقسم العمل إلى جانب خير الدين الذي كان رئيساً لقسم النظر.
وحين أسندت الوزارة الكبرى للسيد خير الدين بعد انقطاعه عن الممارسات الحكومية في الدولة، قامت علاقة مزدوجة من الود والعمل بين الشيخ محمد العزيز بوعتور وبين رائد الإصلاح بالبلاد. فكان عمدة خير الدين في الأعمال الإدارية والتحريرات الدولية والمسائل الشرعية. ثم سمي وزير استشارة 1290/ 1873 (2). وفي أيام الأمير علي باشا استغنى عن الوزير محمد خزنة دار، وعيّن مكانه على رأس الوزارة الكبرى الشيخ محمد العزيز بوعتور في سنة 1300/ 1883.
فإذا عدنا إلى أنشطة مترجمنا، وقد عرفنا مما سبق أنه المرجع
(1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 147 - 148.
(2)
المرجع نفسه: 149.
في العلوم الشرعية، والعمدة في الفنون القولية، بما كان له من ضلاعة في مختلف الاختصاصات الفقهية واللغوية، وذكرنا تدخّله عند اختلاف الأنظار بين العلماء أعضاء المحكمة الشرعية العليا، لتباين أفهامهم للنصوص أو تنازعهم في الأخذ ببعض القواعد وتطبيقها، وتولّيه البت في الأمر بكلمة فصل في القضية، أو بترجيحه رأي أحدهم إن حالفه الحق ولو خالفه الأكثرية (1) رأينا علماً بارزاً وأديباً بارعاً.
ومن جيد نظمه ما نحسبه جارياً على طريقة أبي الطيّب، محاكياً في نظمه حمودة بن عبد العزيز في قصيدته:
هو العز في سمر القنا والقواضب
…
وإلا فما تغني صدور المراتب
فقد قال مهنئاً شيخه محمد النيفر عند ختمه تدريس كتاب السعد على التلخيص:
طريق لنيل العزّ حرز المطالب
…
وغور لأسنى القصد صدر المراتب
ومنها:
وليس ثمار الحزم إلا عزائماً
…
تريه كميناً من عزاز المواهب
إذا كانت السادات تصبو لرفعة،
…
فإني ملكت الجد جد الرغائب
وإني لمقدام، وغيري جازع،
…
وإني لقوّال بأي المواكب
نشرنا على متن السماك مراتباً
…
تؤمّ لها الركبان من كل جانب
ويا رب ليل يثبر الصلد حزنه
…
أضاء الدياجي من يراع وقاضب
ورب عويص، قد أزلنا لثامه،
…
له الناس فوضى بين راد وذاهب (2)
(1) محمد الخضر حسين. تونس وجامع الزيتونة: 91.
(2)
محمد النيفر. عنوان الأريب: (2) 2/ 1012.
وكأنّه بهذه الأبيات التي صدّر بها تهنئته، يشير إلى مسلكه في الحياة والتزامه الجد والاستقامة والعمل الدؤوب.
أما مقالاته ورسائله فهي مبثوثة في الدواوين، أو مُحتفظ بها في خزانة الدولة. ولعل من أهمها وأدقها تصويراً لعصره، وتعبيراً عن معارفه ومداركه الشرعية والقانونية، رسالته التي تناول فيها قانون عهد الأمان بالشرح والتحليل والتفريع، وعلّق عليه تحريرات أصولية بديعة في إجراء بعض كلياته على قواعد الشريعة الإسلامية (1).
أما الجوانب العلمية الإدارية الترتيبية والإصلاحية فتشهد لها معاضدته ونصرته للوزير خير الدين في برنامجه الإصلاحي. فقد كان الشيخ بوعتور من الرجال العاملين في إصلاح نظام التعليم بالجامع الأعظم، وفي تأسيس المدرسة الصادقية، وتأسيس جمعية الأوقاف، وتنظيم المحاكم الشرعية، وسنّ قانون العدل، وغيرِ ذلك من المؤسسات النافعة الخالدة (2). أخذ من الشيخ سالم حفظه وسعة علمه، ومن الشيخ ابن عاشور دقته وضبطه، ومن ابن أبي الضياف ترسله ونظمه، ومن خير الدين منهجه الإصلاحي وحرصه. فكانت له بذلك جماع المفاخر والمناقب، التي تفرّقت بين السادة السابقين، فسار معتداً بها، معتمداً عليها، مبلغاً إياها إلى مَن بعده مِن رجال الفكر والعلم والعمل والإصلاح.
* * *
(1) محمد الفاضل ابن عاشور. تراجم الأعلام: 148.
(2)
المرجع نفسه: 149.