الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ديوان النابغة الذبياني
أما المجموعة الثانية من آثار الإمام الأكبر الأدبية فهي ما جمعه وحقّقه وأكمله وشرحه وعلق عليه من الدواوين. وإن لهذه المجموعة لصلة وعلاقة بالمجموعة الأولى قبلها. ونكتفي في هذا المحل بالوقوف عند ديوانين:
أولهما ديوان فحل من فحول الطبقة الأولى من المقدّمين، منزلته بعد امرىء القيس، ويلتقيان في نفس الطبقة مع زهير والأعشى. وهو النابغة الذبياني.
وثانيهما من كان في الرتبة الأولى من المُحْدَثين من الشعراء المُجيدين. وهو بشار بن برد.
النابغة الذبياني:
أما النابغة فهو زياد بن معاوية بن سعد بني ذبيان. ويكنّى أبا أمامة وأبا عقرب بابنتين كانتا له، كما ذكر ذلك البغدادي. وإنما دعي بالنابغة لقول النقاد في تقديم شعره: نبغ بالشعر بعد ما احتنك، وهلك قبل أن يهتر. يريدون أن مادة الشعر لديه لا تنقطع كمادة الماء النابغ. وقيل: لقوله من قصيدة:
وحلّت في بني القَينِ بن جَسر
…
فقد نبغت لنا منهم شؤون
وقال رجالُ هذا الفن في وصف روائعه الشعرية التي تميّز بها:
أحد فحول شعراء الجاهلية، أحسنُهم ديباجة شعر، وأكثرُهم رونق كلام، وأجزلُهم بيتاً، كأنّ شعره كلام ليس فيه تكلّف.
وذكر بشار بن برد، وهو المِفَنُّ بين رجال عصره قال: أجمع أهل الحجاز على تقديمه وتقديم زهير على غيرهما من الشعراء. ولعل من روائع شعره ما فضّله به الشعبي على الأخطل في مجلس عبد الملك بن مروان. وذلك قوله:
هذا غلام حسن وجهه
…
مستقبل الخير سريع التمام
للحارث الأكبر والحارث الأصـ
…
ـغَرِ والأعرج خير الأنام
ثم لهند ولهند فقد
…
ينجع في الروضات ماء الغمام
خمسةُ آباءٍ همُ ما همُ
…
هم خير من يشرب صفو المدام
وفضّله أيضاً عمر بن الخطاب على الشعراء، إذ سأل من كان ببابه من وفد غطفان قائلاً: أيّ شعرائكم الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وليس وراء الله للمرء مطلب
قالوا: النابغة. قال: فأيّ شعرائكم الذي يقول:
فإنّك كالليل الذي هو مدركي
…
وإن خلتُ أنّ المنتأى عنك واسع
قالوا: النابغة. قال: هذا أشعر شعرائكم.
وقد كان مع منعته في قومه مقرباً من النعمان بن المنذر. يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة، ويجد لديه من الحفاوة والتبجيل ما جعل الملك يبالغ في إدنائه. وأعطاه مرّة مائة بعير من النعَم السود معها رعاتها ومظالها وكلابها.
واشتهر هذا الشاعر بقصائده الطوال التي منها ما عدّوه أول جمهرات العرب. وهي التي يقول في مطلعها:
عوجوا فحيُّوا لنُعمٍ دمنة الدار
…
ماذا تحيّون من نُؤْيٍ وأحجار
أقوى، وأقفر مِن نُعمٍ، وغيَّره
…
هُوج الرياح بها في الترب موار
ومنها التي ذكرها التبريزي في شرحه للقصائد العشر، مقارنة بما أنشده لأصحاب المعلقات، وهي الدالية التي طالعها:
يا دار ميّة بالعلياء فالسند
…
أقوت، وطال عليها سالف الأبَد.
وقَفْتُ فيها أصَيلاناً أسائلها
…
عيّت جواباً، وما بالربع من أحد.
ومن أشهر قصائده أيضاً الدالية الأخرى التي يقول من أوّلها:
أمن آل ميّة رائح أو مغتد
…
عجلان ذا زاد وغير مزوّدِ.
أَفِدَ الترحل غير أن ركابنا
…
لما تزل برحالنا، وكأن قَدِ.
هذه هي التي وصف فيها زوجة صديقه النعمان المتجرّدة، ذاكراً خفيَّ محاسنها، فغضب الملك عليه. ولاذ هو بالفرار. ومكث هناك غير قليل عند الغساسنة يمدح عمرو بن الحارث الأصغر. ثم رجع إلى صديقه مستشفعاً بالفَزاريَّيْن، فعفا عنه الملك. وأنشده النابغة بعد ذلك اعتذارياته البديعة، كما أعطى قبيلته حظاً من شعره مدافعاً عنها ومؤيِّداً لها.
فكان جميع ذلك مدعاة لتقدير منزلته السامية في الشعر. وقد حمل هذا معاصريه في الجاهلية على أن يضربوا له قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها. وأول من أنشده منهم الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم غيرهما، كما أنشدته الخنساء بنت عمرو بن الشريد.
هذا هو النابغة وما يتميّز به بين الشعراء. وهو وإن كان وبشر بن خازم يُقْوِيان، فقد استحوذ ببليغ قوله وسحر بيانه على كل من خالطه أو قرأ له. وهكذا عَلِق شيخنا الإمام بشعره، وانصرف إلى النظر فيه
والعناية به. وقد كان موقفه منه مثل موقفه من الأعشى قبله، وموقفه من بشار بعده. والثلاثة فحول يحرص الدارس على جمع أقوالهم، والبَحث عن المزيد من آثارهم.
فالأسباب التي دعت المحقق إلى تتبع أبيات قصيدة المحلّق في مظانّها، والقيامِ بعد جمعها قدرَ الوسع بترتيبها وبناء وحدتها، هي التي حملته على طلب أشعار النابغة في مختلف المراجع والمصادر. ولم يكن المطبوع من شعر أبي أمامة، الذي وقف عليه شيخنا يومئذٍ، غير ما صدر عن المطبعة الوهبية بمصر 1293، أو ما ضمّنه لويس شيخو مجموعته شعراء النصرانية التي ظهرت ببيروت 1307/ 1890. وبعد مراجعته للديوان في طبعتيه، إن صحّ القول، تبيّن للإمام أنّ بهما نقصاً، وأن شيخو لم يُخْرج ما وقف عليه من شعر النابغة، حتّى قام بتجريد شرح عاصم بن أيوب البطليوسي، مضيفاً إليه ما عثر عليه من أبيات للنابغة في كتب اللغة والأدب، مثل لسان العرب لابن منظور، ومعجم البلدان لياقوت الحموي. وبهذا حصل له خلط فيما جمعه من أبيات للنابغة الذبياني وما عزاه إليه خطأً من شعر النابغة الجعدي أو غيره. وسبب ذلك قلّة التثبّت وعدم التحرّي أحياناً، كما حصل له، بجعله مع عدد من الجاهليين المبدعين من شعراء النصرانية، وَهْمٌ. فاستوجب ذلك مناقشة الإمام لآرائه وإبطاله لمزاعمه.
واستدراكاً على هذه الجهود النافعة أصبح ديوان النابغة في حاجة إلى من يجمع شتاته ويقيم نصوصه ويرتّبه، مع الشرح الذي لا غنى أحياناً عنه، لِما في بعض ألفاظه من وعورة، وبعض تراكيبه وجمله من خفاء أو دقَّة. وقام الإمام الأكبر بهذا العمل الجليل لأول مرّة معتمداً فيه على مصدرين هامَّين هما:
أولاً: شرح أبي جعفر النحاس للديوان. وهو ما يزال مخطوطًا، ومنه نسخة بالأحمدية بجامع الزيتونة.
وثانياً: شرح عاصم بن أيوب البطليوسي له. وهو مطبوع.
وفي بيان منهجه في التحقيق يقول شيخنا في المقدمة التي وضعها بين يدي الديوان: جمعته مبتدئاً بما اتُّفق على إثباته، معبراً عن هذا بقولي: قال النابغة أو نحوه، دون عزو إلى أحد الشرحين لاتفاقهما عليه، ثم أذكر ما انفرد به أبو جعفر في شرحه معزواً إليه، مع التنبيه في جميع ذلك على اختلاف الروايات في الألفاظ، وفي ترتيب الأبيات. فأثبت ما يوجد من شعر النابغة المجموع في ديوان الشعراء الستة الموجود بجامع الزيتونة والمعروف بالعقد الثمين. وفيه أشعار امرىء القيس، وعلقمة بن عبدة، وزهير، والنابغة، وطرفة، وعنترة. منسوباً ما فيه من شعر النابغة إلى رواية الأصمعي. وضممت إلى ذلك ما خلا عنه كلا الشرحين. فألحقت بكل حرف من حروف القوافي ما حصل لدي من شعر النابغة، وعبرت عنه بالملحقات، منبّهاً على ذكر مَن نَسَبَه إلى النابغة، مع بيان مرجعي في ذلك.
وقد كان هذا العمل الجاد صعباً ومفيداً بدون شك. حمله عليه ما كان يراه من قصور أئمة اللغة والأدب الذين جعلوا من شعر النابغة محطاً لهممهم ولم يعيروه مع ذلك من الاهتمام ما وفّروه لنظرائه وما هو له أهل (1).
وقد توصّل عن طريق عمل شيخنا الدؤوب والدقيق، المتأدبون وأهل هذا الشأن، إلى الوقوف على أكثر شعر النابغة. وتمكّنوا من اكتشاف أسراره، ونواحيه اللفظية والبلاغية بفضل شرحه له، وتعاليقه
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. ديوان النابغة: 5، 7.
عليه التي نبّه إلى خطته فيها بقوله: "علّقت على ما يحتاج إلى التعليق من الأبيات بتفسير غريب المفردات، وبيان المعاني الخفية دون تطويل مما لم يعرَّج عليه في شرح عاصم بن السيد البطليوسي الذي هو المطبوع الوحيد. ورأيت ذلك كافياً لإقبال الذين لهم تأهل لمطالعة الديوان حتّى تقع لديهم طبعة علمية منه"(1).
وقدم المحقق بعد هذا تكملة لعمله النفيس بقوله: هذه أبيات منسوبة إلى النابغة بعضها أثبته لويس شيخو، وبعضها موجود في ديوانه المطبوع بالمطبعة الأهلية ببيروت قبل سنة 1916، والأكثر موجود في ديوانه المطبوع بمطبعة المكتبة الأهلية 1347/ 1929. وكلها لم أره منسوباً إليه في نسخة ديوانه، الذي شرحه البطليوسي ط، ولا في نسخة المخطوطة التي شرحها أبو جعفر، وجملة ذلك 49 بيتاً.
وإن ما أحدثه هذا التحقيق من هزّة في الأوساط العلمية والأدبية قد دفع العلماء والنقاد، بدون شك، إلى مزيد من الالتفات إلى شعر النابغة بجعله محلّ دراسة، وموضع عناية بالغة والتفت إليه الباحثون والمحقِّقون من عرب ومستشرقين، فعرفوا بكثير من مصادره.
* * *
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. ديوان النابغة: 8.