الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - البدل وعطف البيان
قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (1).
من يقف على تفسير الإمام لهذه الجملة من آيات الفاتحة يطالعه منهج جديد في عرض قضايا العربية والمسائل النحوية. فإن اهتمام الشيخ بالجانب الأول ليؤكد كما في غير هذا الموضع من التحرير عنايته أيضاً بعلم المعاني وفنون التصرّف القولي. وإنّها لصلة وثيقة نبّه إليها العلماء من نحاة ورجال بلاغة لتقرير قواعدهم وتعليل أوجه التصرف في كلام العرب، بحسب ما حفظوه من قواعد وخلصوا إليه من معانٍ لدى وقوفهم عند أي لفظ أو تركيب من كلام الأوائل أو فحول الشعراء والكتّاب من الأدباء، ولا بدع إذا وجدنا هذا المزج بين الفنيْن عند تقرير أحكام اللغة العربية واستجلاء ما تدل عليه الاستعمالات والتصرفات من أفهام.
فلترتيب أحد الصراطين على الآخر، وللوفاء بمعنى الجملة، تناول الإمام عدة مسائل لها اتصال أساسي وأكيد بالموضوع، واستدل على ما ذهب إليه بما ذكره الأئمة من علماء العربية والبلاغة، مناقشاً بعض تصوّرات النحاة. ثم ختم حديثه بعد ذلك بالمقارنة بين الوجوه البلاغية في هذه الآية وغيرها من أشباهها ونظائرها. وذكر آراء النحاة للتوصل إلى إفادة المعاني المطلوبة مع تعليل أقوال العرب وتحريرها من أجل تصحيح المناهج والأساليب، وبيان ما يتولد عن ذلك من مزايا التصرّفات ودلالاتها.
(1) الفاتحة: 6، 7.
بدأ الإمام أولاً بإعراب {صِرَاطَ} الثانية من الآية بكونها بدلاً أو عطف بيان من {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . وتساءل إزاء هذا التصرف القولي في الآية: لِمَ كان مثل قولك: (اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم) دون ما نطق به القرآن الكريم. ومعلوم أن الدعاء الذي علّمنا الله إياه يتأكّد ما صدقه بالأول، والثاني أو المستقيم ليس إلا وصفاً متمّماً له. وللإجابة عن هذا يذكر فائدتين للتصرّف القرآني يميِّزانه عن التأويل الذي ذكره بعضهم. وهو ما يقتضيه الترتيب المنطقي في نظرهم فيقول:
الفائدة الأولى من ورود الآية على هذا الوجه الذي انتظمته سورة الفاتحة، هي اعتبار أن المقصود من الطلب ابتداءً كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة وسهلة.
الفائدة الثانية هي تمكن معنى الصراط في نفوس المؤمنين فضلَ تمكن. وهذا ما يقتضيه في تصرفات الكلام الإجمالُ المعقَّبُ بالتفصيل.
وممّا يقوي هذا الوجه في التقدير حصولُ فائدة من التركيب مثل ما للتوكيد المعنوي، وإفادة هذا الأسلوب تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيقَ مفهومه في النفوس بما يحصل من ذكره مَرَّتين، فيشبه هذا التصرّف ما يحصل عن طريق التوكيد اللفظي.
وبعد هذه الفقرة المهمة النحوية البلاغية يعود بنا الشيخ رحمه الله إلى بيان اختلاف المواقف بين النحاة. فإن بعضهم يفرق بين عطف البيان والبدل ويجعلهما متفاضلين، والفريق الثاني يجعلهما متساويين، وهو الأصح عنده، لكون عطف البيان في التحقيق ليس إلا اسماً لنوع من البدل، وهو البدل المطابق. ولتأكيد
ما ذهب إليه ينقل عن صاحب الكشاف قوله: "فإن قلت: ما فائدة البدل؟ قلت: فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير". ويدل هذا على أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد، هما ما فيه من التثنية بتكرار اللفظ، وما يقتضيه التكرير عند النحاة من تكرار العامل.
ويخلص من هذا الموضوع إلى قضية بلاغية هي أن إعادة الاسم في البدل أو البيان تكون من أجل أن يبنى عليها ما يراد تعلقه بالاسم الأول. ويظهر هذا في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (1)، وقوله عز وجل:{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} (2). فإعادة فعل {مَرُّوا} وفعل {أَغْوَيْنَاهُمْ} وتعليق المتعلق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تجد له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول. فالإعادة في مثله ليست لمجرد التأكيد، لأنه زيد عليه ما تعلق به.
ولتأكيد وجهة النظر هذه نقل عن ابن جني في شرح مشكل الحماسة قوله عند رواية كلام الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمِّط
…
تخشى بوادرُه على الأقران
محال أن تقول: إذا قمتَ قمتَ، وإذا أقعد أقعد؛ لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة. وحكى مخالفة أبي علي الفارسي لهذا الرأي معلّلاً موقفه بقوله: فلعلّه امتنع في هذه الآية من اعتبار {أَغْوَيْنَاهُمْ} بدلاً من {أَغْوَيْنَا} . وجعله استئنافاً وإن كان المآل واحداً (3).
(1) الفرقان: 73.
(2)
القصص: 63.
(3)
محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 1، 192 - 193.