الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بما ذكره من آيات، وعرضه من أحاديث، وبيّنه من سير وأخبار من ناحية، وبما أوضحه من كليّات أساسية، وأصول قطعية، ومقاصد شرعية تمثل بحق الاتجاه الديني والعلمي والفكري الذي التزم به الإمام وبرهن عليه. فكان ذلك رابطاً بين كتبه، وشاهداً لما يمثله من مدارك عقلية وخصائص علمية، أضاف بها مترجمنا لبنات إلى جدار البحث العلمي تدل على عمق نظره، وصحة استنتاجاته الفكرية والعلمية، وبخاصة في ميادين العلوم الشرعية، كما سنفصله بإذن الله عند تعريفنا بكتاب المقاصد.
أبرز مقاصد الشريعة المعتمد عليها في إقامة أصول النظام الاجتماعي في الإسلام:
وقد كان التفاته إلى المقاصد الشرعية حجرَ الزواية في كل التصرّفات وما يصدر بها من أوامر ونواهٍ جعلها من الفطرة ونعتها بكونها من أشهر صفات الإسلام وأبرز مقاصده.
- ودعوة التشريع الإسلامي إلى إقامة القضاء لتمييز الحق، وتعيين صاحبه، في جزئيات الحوادث بين الناس ومخاصماتهم مقصدان عامان أساسيان، متى كان القاضي معظِّماً للشريعة في نفسه، عدلاً، متّقياً الخروج عن أحكام الشريعة، ملحوظاً بعين الإجلال والحرمة فيهما لما يعرض عليه من القضايا، شجاعاً، ثابت الرأي، لا تأخذه في الحق لومة لائم (1).
- والشريعة، كما فصّل العلي القدير أحكامَها، إنما كان القصد من تشريعها ودعوة المكلفين إلى الأخذ بها، الامتثالَ لأحكام الدين.
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 190.
وقد ذكر ذلك المؤلف في مقاصده حين قال: إذا رخص الإسلام وسهل فقد جاء على الظاهر من سماحته، وإذا شدّد أو نسخ حكماً من إباحة إلى تحريم أو نحو ذلك فلرعي مصالح الأمة والتدرج بها إلى مدارج الإصلاح والرفق. وعلى هذا الأساس يكون القصد من مخاطبة الأمة بالشريعة امتثالَهم لها، وأن يكون عملهُم بها كاملة. وهذا المقصد لا يناسبه وضع الشريعة للاستدلال بالنسبة لعموم الأمة، لأن الطريق الذي سلكوه بعد إيمانهم إنما هو طريق التسليم والامتثال (1). وبهذا يتحقق المطلب الأساس بعد الإيمان وهو الاستقامة. روى أبو عمرة الثقفي أنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً. قال: قل: آمنت بالله ثم استقم (2).
- وضبط الأحكام الخمسة من حل وحرمة وندب وكراهة وإباحة للسلوك الذي يتعين على المؤمن الالتزام به في هذه الحياة. ومن أجل تحقيق مطلب الاستقامة الذي قضت به الشريعة وجعلته مقصداً من مقاصدها، يقول الشيخ الإمام الأكبر: إن للأحكام الخمسة آثارها من الأعمال. ولا يستقيم حال المسلم إلا بجميعها. وإنما تتفاوت مراتب الصلاح في الزيادة والنقصان مما يقبل الزيادة والنقصان منها. فالرجل الصالح ينقص من الأشياء المفضولة ليتفرغ بذلك النقص إلى التوفير من الأشياء الفاضلة، وغير الصالح بعكس حاله. ومرتبة الواجبات والمحرّمات لا تقبل زيادة ولا نقصاناً لأن النقصان من الواجبات والزيادة من المحرمات عصيان (3). ويثبت المرء على دينه
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 118 - 119.
(2)
ملا علي قاري. مرقاة المفاتيح: 1/ 261، 95.
(3)
أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 77.
فلا يستهويه انحراف ولا تغشاه ضلالة كلما تدبّر الأحكام الشرعية. فإن جميع تصرفات المؤمنين في تلقي دينهم تجري على اعتبار أحكام الشريعة معلّلة ومنوطة بحِكَمٍ.
وهكذا فإنه لا يتصور أن ينقاد المسلم إلى أحد السبيلين إلا بما تفصح له به الشريعة من جلب للمصالح ودرء للمفاسد. وهذا مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية. وملاك الأمر في تقدير هذا النظر المقصدي المبرر للأعمال أو الصارف عنها، أن أصل نظام صلاح الأعمال النظرُ إلى المصلحة والمفسدة المطروحتين أو الغالبتين. وربما تعارضت المصالح فاقتضى الأمر الترجيح، وهو ما أثنى الله به على المؤمنين عند التقائهم بالمشركين في الحديبية، إذ قبلوا تأجيل العمرة إلى العام القابل، وأزالوا البسملة من الصحيفة، وغيّروا وصف الرسول بذكر اسمه، ترجيحاً لما في ذلك من مصلحة الأمن (1). ثم إن من الأعمال ما تجب فيه مراعاة حال غير العامل. وتلك هي المعاملات بين الناس التي حدّدها الرسول بإقامة العدل بينهم، وجعل القاعدة العامة لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار"(2).
ومن المقاصد الشرعية التي ذكرها الإمام الأكبر في أصول نظام الاجتماع الإسلامي ما له ارتباط بسلوك الأمة كاملة: مثل تكثير سوادها، وإيجاد جامعة لها، وتأكيد الأخوة بين جميع أفرادها، وردع المرتدين عن الملة المفارقين لها، وحفظ الأمة وحمايتها مما يذهب بقوتها وعزتها ووحدتها.
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 136.
(2)
خرجه علي الندوي وذكره في القواعد العامة الفقهية. موسوعة القواعد والضوابط الفقهية: 1/ 49.
أما تكثير سواد أتباع الإسلام، وهو غاية ومقصد، فهو من توابع مقاصد عموم الدعوة بقدر الإمكان، وصولاً إلى تعميم الدين وتسهيلِ سبيل الدخول فيه على راغبيه (1).
والقصد من إيجاد الجامعة الإسلامية إقامة رابطة دينية مقدّسة تصغر أمامها الروابط كلها. وقد اتخذ القرآن سبيله إلى ذلك بدعوة أتباعه ليكونوا أمة واحدة، تجمعها وحدة الاعتقاد والتفكير والعمل الصالح (2). قال تعالى:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (3).
ومن أجل مساندة هذه الجامعة الدينية العقلية ودعمها وصف الله المؤمنين بهذا الدين بالأخوة فيه، أخوة روحية ليس للمادة حظ فيها. لذلك لم يرتِّبْ الإسلام عليها إلا الأحكام الروحانية القلبية من صدق الود، واعتبار التساوي، ومدّ يد المعونة، والمواساة ونحو ذلك. ولم يرتب عليها شيئاً من آثار الأحكام المادية. ولكنه جعل الأسباب المادية غير معتبرة وحدها حتى تنضم إليها الأخوة الإسلامية. ولذلك تقرر مثلاً حكمُ الإسلام أن لا يرث الكافر المؤمن ولا المسلم الكافر (4).
وما كان الأئمة من أسلافنا يدعون إليه، من أجل حفظ الأمة في عقيدتها، من معاقبة المرتد فَلِنَقْضِه العهدَ الذي دخل به في الإسلام. ولكونه بمروقه عن الدين أصبح مثلاً سيِّئاً يجب على أمته أن تطهر نفسها من وجوده لكي لا ينفرط عقد الجامعة بالانسلال
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 112.
(2)
المرجع السابق: 108.
(3)
الشورى: 18.
(4)
حَم: 5/ 201، 202، 209.
عنه، ولئلا يتواهن الداخل في الإسلام بأن يدخله تجربة، فإن وافق أهواء أعماله استمر فيه وإلا انعزل عنه، ولئلا يوهم ضعاف العقول بانخزاله أنه جرّب الدين فوجده غير مرضي، ولئلا يكون الدخول في الدين من ذرائع التجسس على الأمة (1).
وإقامة حكومة إسلامية للمسلمين أصل من أصول التشريع. وهو ما ثبت بالكتاب والسُّنة. ولذا كان عليها الاهتمام بالإصلاح العام في السياسة. وهذا الذي يقتضي من جهة مبادرة الدولة إلى إجراء المصالح المأمور بها لجلب ما يستطاع من النفع، ودفع ما يتوقّع من الضرر بجميع الأمة جماعة وأفراداً (2).
ومن جهة ثانية الحفاظ على الأمة بصون نظامها ودعم سلطانها وجعلها مرهوبة الجانب محترمة منظوراً إليها في أعين الأمم الأخرى نظرة المهابة والوقار. قال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} (3). وهذا القصد لا يتحقق إلا بالدفاع عن الحوزة، وهي حدود البلاد ونواحيها، وحماية البيضة وحفظ الأمة الإسلامية من اعتداء عدوها عليها، وحفظ الإسلام من أن ينتزع عدوّه منها قطعة، أو يتسرّب إليها (4). ويلخص هذه المعاني والمقاصد المختلفة قوله عز وجل {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} (5).
فأصول النظام الاجتماعي للإسلام أتت متساوقة مع كل الفنون
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 171 - 172.
(2)
المرجع السابق: 231.
(3)
الحشر: 13.
(4)
أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 215 - 216.
(5)
الأنفال: 26.
والموضوعات التي شغل بها الإمام الأكبر نفسه. وهكذا يكون تصوير الجانب الفكري من حياته محتاجاً هو في ذاته إلى أن تفرد أغراضه وعناصره بالبحث والدراسة كما هو الشأن عند رجال العلم لإبراز أسرار النظر ونتائج الفكر في تلك الآثار العلمية والأدبية القيمة التي صدرت عن الشيخ الإمام.
هذه محاولة أرجو أن نكون وفقنا فيها لتصوير جوانب مفيدة من حياة الإمام الأكبر. والله من وراء القصد.
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(تمّ الجزء الأول بحمد الله تعالى)
* * *