الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على نقدها وبيان فسادها، ولكنها محدودة العدد لا يظهر منها إلا القليل النادر الفينة بعد الفينة.
ويعلق الإمام الأكبر على هذه الظاهرة بقوله: "فأصبحت قلّة هؤلاء وكثرة أولئك وبالاً عظيماً على العلم. وهو أصل تشعب الناس في العلوم، وسبب ابتهاج كل فريق بنصيبه منها. وفي هذا يكمن أحد سببي تأخر العلوم. وهما وجود مسائل لا حاجة إليها يطال بها التعليمَ، وهي ليست من العلم في شيء، مستمدةٌ من فنون أخرى تذكر لأدنى علاقة، وإهمال مسائل وعلوم مهمة وقع إغفالها أو الانصراف عنها لسبب من الأسباب المرفوضة الواهية"(1).
ولتفصيل هذه المعاني وتقريرها أتبع الشيخ ابن عاشور ما تقدم من ملاحظات حول العلم: حقيقته والغاية منه بعامة، وحول العلوم الإسلامية وانقسام الطلاب إزاءها حسب ميولهم وأهوائهم، بذكر جملة أسباب عامة اقتضت ضعف طلب العلم وتأخر العلوم، بقصد تجنّبها وتلافي الوضع الشائن الذي هبطت إليه. وقد جعل منها، على سبيل التمثيل لا الحصر ولا الإحاطة، أربعة عشر سبباً فرعياً تعرض للعلوم وطرق مزاولتها.
الأسباب العامة لضعف التعليم وتأخر العلوم:
إن هذه الأسباب متنوّعة بين اجتماعي ومنهجي وتصنيفي.
فمن
الأسباب الاجتماعية:
أولاً: توقيت سير العلم بسبب ما عرض لبعض الدول كالدولة العباسية من اهتزازات وأزمات وفتن. فلم يَعدُ اللاحقون ما حرّره
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 177.
المبدعون ودبّجه المتقدّمون، كما حالت الظروف دون الانطلاق، بل دون استئناف الجد في طلب العلم في أكثر مجالاته لانطفاء سرجه، وذهاب من بقي من العلماء في البلاد.
ثانياً: ما ظهر في نفوس الطلاب من طموح إلى اكتساب أوسع ما يمكن من المعرفة، وقادهم ذلك إلى حب المشاركة في جميع العلوم. فاختلطت مادة الدرس بعدة قضايا يتوقّف بعضها على فهم بعض. فكلّت الهمم، وحال ذلك دون أهل العلم ودون تحقيق علم من العلوم ينبغون فيه. وانتقلوا من الاختصاص بأحد فنون العلم، مثل الأئمة المشاهير الذين سبقوهم، إلى الاكتفاء بنظرة شمولية سطحية لم تساعدهم على التقدّم بالفكر والعلم. وأمام هذا الانتكاس، الذي حصل لهم بموجبه ضيقُ الوقت مع اتساع العلم، رضوا من العلم بالانتساب إليه، واقتنعوا بما ألمّوا به من قليل المسائل في كلِّ علمٍ.
ثالثاً: انتشار الطرائق الصوفية بين المسلمين التي بثت في نفوسهم الرضا بالموجود، واحتقار سائر العلوم ما عدا المعرفة بالله بحسب تصوّراتهم. وفي غمرة هذا المنزع الجديد تعوّدت النفوس على قبول ما لا يفهم والاقتناعِ به، كتلك التي امتلأت بها كتب المتصوّفة من الرموز والمغلقات والدعاوى التي لا دليل عليها، وأصبح من توجيهات قادة الفكر عندهم في ذلك الحين أن يتعلم الناس سماع ما لا يفهم، وأن يقتنعوا بكل ما يسمع، جاعلين من دلائل علو العلم وشرفه استعصاء فهمه على الإنسان.
وقد احتاج هذا المنزع إلى طول وقت وإلى بذل جهود كبيرة لاقتلاعه من النفوس وتحريرها منه.