الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عيّنات من المادّة اللغوية:
1 - الملائكة
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1).
بدأ صاحب التحرير والتنوير بالحديث عن صيغة الملائكة في الجمع والإفراد. فقال: (الملائكة) جمع (ملَك)، وأصل صيغة الجمع (ملائك)، والتاء لتأكيد الجمعية. والظاهر أن تأنيث الملائكة سرى إلى لغة العرب من كلام المتنصّرين منهم، إذ كانوا يعتقدون أن الأملاك بنات الله، واعتقده العرب أيضاً. قال تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} (2).
(فملائك) جمع (مَلْأَك)(كشمائل) و (شَمْأَل)، ومما يدل عليه أيضاً قول بعض شعراء عبد القيس أو غيره:
ولست لإنسيٍّ ولكن لِمَلْأَك
…
تنزّلُ من جو السماء يصوِّب
ثم قالوا: ملَك تخفيفاً.
واختلفوا في اشتقاق (مَلَك) أو (مَلْأَك) على ثلاثة أقوال حكاها الإمام الأكبر: القول الأول: قول أبي عبيدة، والثاني قول الكسائي، والثالث ينسب إلى ابن كيسان.
فعند أبي عبيدة هو (مَفعَل) من (لَأَكَ) بمعنى أَرْسَلَ. ومنه قولهم، في الأمر بتبليغ رسالة (ألِكْني إليه)، أي كن رسولي إليه. وأصل (ألِكني)(أَلْإِكْنِي)، وإن لم يعرف له فعل وإنما اشتق اسم الملك من الإرسال، لأن الملائكة رسل الله، إما بتبليغ أو تكوين، كما في الحديث: "ثم يرسل إليه - أي للجنين في بطن أمه - الملَكَ
(1) البقرة: 30.
(2)
النحل: 57.
فينفخ فيه الروح". فعلى هذا القول هو مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول.
وهو عند الكسائي مقلوب، ووزنه (مَعْفَل). وأصله (مَأْلكَ) من (الألُوك) و (الألوكة) وهي الرسالة. ويقال:(مَألَك) و (مَأْلوك). فقلبوا فيه قلباً مكانياً فقالوا: (مَألك)، فهو صفة مشبهة.
وقال ابن كيسان: هو مشتق من (المَلْك). والمَلْك بمعنى القوة. قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} (1). والهمزة مزيدة فوزنه (فَعْأَل)(كَشَمْأَل).
وفي الترجيح بين هذه الأقوال ذكر صاحب التحرير أن قول ابن كيسان هذا مردود بأن دعوى زيادة حرف بلا فائدة دعوى بعيدة. ورد مذهب الكسائي بأن القلب خلاف الأصل. فترجّح مذهب أبي عبيدة. وروى القرطبي عن النضر بن شميل أنه لا اشتقاق للملك عند العرب. وإنما هي كلمة معربة عن العبرانية. ويؤيِّد هذا أن التوراة سمت الملك ملاكاً. وليس وجودُ كلمة متقاربة اللفظ والمعنى في لغة بدال على أنها منقولة من إحداهما إلى الأخرى إلا بأدلة يتعيَّن ذكرها.
وفي بيان المراد من لفظ الملائكة يقول الشيخ ابن عاشور: هي مخلوقات نورانية سماوية مجبولة على الخير، قادرة على التشكّل في خرق العادة، لأن النور قابل للتشكّل في كيفيات، ولأن أجزاءه لا تتزاحم ونورها لا شعاع له. فلذلك لا تضيء إذا اتصلت بالعالم الأرضي. وإنما تتشكل إذا أراد الله أن يَظهر بَعضُهم لبعضِ رسلِه
(1) سورة التحريم: الآية 6.
وأنبيائه على وجه خرق العادة. وقد جعل الله تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد الله تكوينها، فتتولى التدبير لها. ولهذه التوجهات الملكية حيثيات ومراتب كثيرة تتعذر الإحاطة بها. وهي مضادة لتوجهات الشياطين. فالخواطر الخيرية من توجّهات الملائكة وعلاقتها بالنفوس البشرية، وبعكسها خواطر الشر (1).
وفي هذا التعريف للملائكة جزآن:
الأول: عرض له أكثر اللغوين وتركوا الثاني. فالذي تعرضوا له هو بيان اللفظ من حيث صيغته واشتقاقه. ورد هذا مجملاً في بصائر ذوي التمييز؛ ومفصّلاً عند ابن الأنباري في كتابه الزاهر. وزاد هذا من الشواهد الشعرية عليه قول لبيد:
وغلام أرْسَلَته أمُّه
…
بألُوك فَبذلْنا ما سأل
وألُوك في البيت بمعنى الرسالة، كما ورد بنفس المعنى لفظان آخران المَألك والمَلْأك.
قال عدي:
أبلغ النعمان عني مَأْلكا
…
أنه قد طال حبسي وانتظاري
وقال آخر:
أيها القاتلون ظلماً حسيناً
…
أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم
…
من نبي ومَلْأك ورسول
كما ورد على لفظ (ألكِني) قول أبي ذؤيب الهذلي:
ألِكني إليها وخيرُ الرسو
…
ل أعلمهم بنواحي الخبر
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 1/ 2، 397 - 398.