الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ج - العلوم المساعدة
العلوم الإنسانية
لم يكن اشتغال الإمام الأكبر، بما يدرَّس من العلوم الأساسية بالجامع الأعظم من مقاصد ووسائل، بالذي يمنعه من بيان رأيه واضحاً في العلوم المساعدة؛ كعلمي المنطق والتاريخ أو العلوم الفلسفية والرياضية.
علم المنطق
لعلم المنطق أو الاستدلال صلة بعلوم العرب، كما ذكر ذلك السكاكي (1). وهو لا يبحث في شيء زائد عن أسرار النحو كما صوّره ابن سينا (2). وهو لارتباطه بهذه الفنون وَرَدَ تابعاً لها، ولكونه
(1) يبدأ السكاكي حديثه عن المنطق أو الاستدلال بتوطئة يقول فيها: الكلام على تكملة علم المعاني. وهي تتبع خواص تراكيب الكلام في الاستدلال. ولولا إكمال الحاجة إلى هذا الجزء من علم المعاني وعظم الانتفاع به لما اقتضانا الرأيُ أن نرخي عنان القلم فيه. السكاكي. مفتاح العلوم: 435.
(2)
يفسر هذه المقالة ما ورد في المقالة الأولى، الفصل الرابع: لما كانت الضرورة تدعو إلى استعمال الألفاظ، ومن المتعذر على الرواية أن ترتب المعاني من غير أن تتخيل معها ألفاظها .. لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها في النفس من المعاني، حتى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن، فاضطرت صناعة المنطق إلى أن =
حاكماً على جميع العلوم في الصحَّة والسقم، والقوَّة والضّعف، وأجلّها نفعاً وأعظمها، جعله الفارابي رئيساً لها، ولكونه آلة في تحصيل العلوم المكتسبة النظرية والعملية عدّه ابن سينا خادماً للعلوم.
مهّد ابن عاشور لتفصيل القول فيه بتعريفه. فهو علم يعصم الأفكار من الخطأ في المطلوب التصوّري الذي تتعرّف منه حقيقة الشيء، وفي المطلوب التصديقي الذي يتعرَّف منه العلم مع دليل ما. وهو من علوم الأوائل، نقل عن اليونان في عصر النهضة. وشمل من الأبواب الكليات الخمس، والتعريفات، والتصديقات، والقياس، وختموا مطالبه بذكر الصناعات الخمس: البرهان، والجدل، والخطابة، والشعر، والمغالطة أو السفسطة. تشهد لذلك أصول المؤلفات المنقولة عن أرسطو وأمثاله، ممّا وضع بعدها من التآليف. وسمّي بالمنطق لأن الغاية منه استقامة المنطق، كما عرف بالميزان لأنه قانون اللّسان من حيث إنه آلة التعبير عن المعاني.
ويخلص الشيخ ابن عاشور من تعريفه لهذا العلم وبيان الأصل فيه ومصدره، ونقله إلى لغة العرب، وأَوْجُه تسمياته لينبّهنا إلى أن موضوعات هذا العلم ومسائله فطرية عقلية، وأنه لذلك موجود في كل لغة، وأن فائدته تحريك الذهن بمسائله وتمرينه، وإقامة الحجّة على المكابر وقت الجدل، حين يريد مغالطة الفطرة ومغالبة الحق. وقد ذكر لهذا المعنى ما يصوّره في القرآن العظيم، وهو قول الله عز وجل:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} (1).
= يصير بعض أجزائها في أحوال الألفاظ. ابن سينا. الشفاء، المنطق 1، المدخل: 1/ 22، 23.
(1)
الأنعام: 91.
وجعل الآية مثالاً لنقض السالبة الكلية بالموجبة الجزئية عند المناطقة.
ومن أسباب انصراف كثير من الناس عن الاشتغال بالمنطق انقسام العلماء إزاءه طائفتين:
الأولى: اعتبرته كثير الألغاز فاستهانت به، وعاملته بمثل ما عاملت به الإنشاء والتاريخ والأدب. وربما أصبح من المشهور على ألسنة الغلاة عدُّه مدعاة لتكفير طالبيه ومعتقديه، فكانوا في ذلك على رأي الشافعي في علم الكلام. قال ابن تيمية:"ولهذا ما زال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمّونه ويذمّون أهله وينهون عنه وعن أهله"(1). وأبرز من يمثل هذا الاتجاه المحدّثون والفقهاء. فقد صرّح السيوطي في كتابه عقود الجمان في المعاني والبيان بما نصّه: "إنا معشر أهل السنة لا ننجس تصانيفنا بقذر المنطق الذي اتفق المعتبرون خصوصاً المحدثين والفقهاء من كل المذاهب، من الشافعية وأهل المغرب، على تحريمه والتغليظ على المشتغلين به وإهانتهم وعقوبتهم. وقد جمعت في ذلك تأليفاً نقلت فيه كلام الأئمة في الحظِّ عليه. وهو كتاب مهم. وقد نصّ أئمة الحديث كالسِّلَفي والذهبي وابن رُشيد على عدم قبول رواية المشتغل به، وقد تركت الأخذ عن جماعة لذلك، وبالله التوفيق"(2).
ونازع هذه الفئة كثير من العلماء الذين عنوا بالمنطق مادة درس وتأليف. ورأينا المغيلي في بعض شروح السلّم يعرّض بخصومه ومناقضيه، ويرد على السيوطي بأبيات من شعره.
(1) ابن تيمية الفتاوى: 9/ 7.
(2)
شرح عقود الجمان: 26.
الطائفة الثانية التي قيل عنها: إنها المتحرّرة مما أصاب الأولى من جمود، صنَّفَت فيه واستخدمت قواعده وقوانينه في عامة العلوم الإسلامية، ومن أجل ذلك نجد تنويه ابن سينا به حين قال: المنطق نعم العون على إدراك العلوم كلها. وقد رَفض هذا العلم وجحد منفعته من لم يفهمه ولا اطلع عليه، عداوةً لما جهل، وتوهّماً لكونه يشوش العقائد، مع أنه موضوع للاعتبار والتحرير (1).
وقد ألمع الشيخ رحمه الله إلى هذه الحقيقة ببيان موقف الغزالي من علم المنطق وبما اشتهر به من قوله:
حكمةُ المنطق شيءٌ عجب
…
واختلاف الناس فيها أعجبُ
ثم تعرّض لأسباب اختلال هذا العلم فعدّ منها:
أولاً: ما أشار إليه قبل من اختلاف مواقف العلماء من هذا العلم وإهمال الجمهور الكبير له.
ثانياً: ورود استعمالات كثيرة لدى المناطقة لا تقرّها اللغة العربية. وقد ذكر الإمام الأكبر أربعة أمثلة لهذا:
الأول: كقولهم: السالبة تصدق بنفي الموضوع، مع أنه غير موجود في اللغة.
واحتجوا لذلك بقول الشاعر:
على لا حب لا يُهتدى بمناره (2)
…
[إذا ساقهُ العَوْدُ الدفافيُّ جرجرا]
(1) صديق بن حسن القنوجي. أبجد العلوم: 2/ 522.
(2)
البيت لامرئ القيس. الديوان: 66؛ ابن فارس. مقاييس اللغة: 2/ 318؛ ابن فارس. مجمل اللغة: 2/ 304.
وهو بعيد عن الصواب لأن هذا من قبيل الكناية، والمنار علامة الطريق ولا يفارقه الاهتداء. فإذا انتفى عنه الاهتداء انتفى ملزومه وهو المنار.
الثاني: استعمالهم الرابطة وهي كلمة (هو) لتصحيح الحمل. وهي مفقودة في العربية بهذا المعنى.
الثالث: ذكر الاستثناء بـ (لكن) في القياس الاستثنائي مع أن ما بعدها ليس مغايراً لما قبلها. وهي منقولة عن اليونانية.
الرابع: وضعهم كلمة (لو) للواقع مع أنها في العربية للامتناع.
ثالثاً: فراغ بعض مسائله وشغورها من التمرين في الصناعات الخمس وغيرها. وما ذلك إلا لغفلة المتأخّرين عن الغرض من وضعه. فإن المنطق من العلوم التي لا يظهر أثرها عند دراسة كل مسألة، بل هو من العلوم التمرينيّة التي تظهر نتائجها بعد طول عمل دفعة.
وما زال إتقان هذا العلم يحتاج إليه في دراسة كتب التراث، وفي الوقوف على القضايا والمسائل الجدلية أو الخلافية، لأن هذه قائمة على استخدام قوانين المنطق ومرتبطة به في أحوال كثيرة. وإن كان علم المنطق في عصرنا الحاضر قد اضمحل أو كاد لاختفاء المنطق الأرسطي، وقيام منطق العلوم مكانه.
* * *