الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - الأستاذ الإمام محمد عبده
هو الأستاذ الإمام محمد عبده حسن خير الله 1266/ 1849 - 1323/ 1905 فقيه أزهري. تخرّج من الجامع الأحمدي بطنطا، ومن الأزهر بالقاهرة. وكان من أساتذته الشيخ السيد جمال الدين. صاحبه ابتداءً من المحرم 1287/ مارس 1871. وتلقى عليه بعض العلوم الرياضية والحكمية والكلامية، ودعا رفاقه إلى الالتحاق به في دروس الأفغاني والإفادة منه. وقد أغضب هذا شيوخ الأزهر وجمهرة من الطلبة. فتقوَّلوا عليه الأقاويل، وزعموا أن ما يتعلّمه من السيد يفضي إلى زعزعة العقيدة الصحيحة، ويهوي بالنفس في ضلالات تَحرِمُها خيري الدنيا والآخرة (1). وحصل محمد عبده على العالِمية وكان متفوّقاً على أقرانه، معتدّاً برأيه، ملازماً لشيخه. وهو رغم طول معاشرته له، وانتسابه إليه، وعمله معه، وأخذه الكثير عنه، اختلف عنه في آخر المطاف منهجاً وطريقاً، لكنه استمر متمسكاً بأصول الخطة الدعوية الإصلاحية، يربطه بها وبشيخه الوجدان والشعور. يشهد لذلك ما يترجم عنه قوله حين بلغه نعيُ أستاذه: "إن والدي أعطاني حياة يشاركني فيها أخواي علي ومحروس، والسيد جمال الدين الأفغاني أعطاني حياة أشارك بها محمداً وإبراهيم وموسى وعيسى والأولياء. ما رثيته بالشعر لأنني لست بشاعر، وما
(1) محمد عمارة. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: 2/ 322 - 323.
رثيته بالنثر لأني لست الآن بناثر، رثيته بالوجدان والشعور لأنني إنسان أشعر وأفكّر" (1).
بدأ محمد عبده حياته العلمية العملية بالتدريس للعقائد بالأزهر، وتدريس التاريخ بمدرسة دار العلوم والألسن. ودرّس بعد ذلك بالمدرسة السلطانية ببيروت التوحيد، ونهج البلاغة المنسوب للإمام علي، وديوان الحماسة لأبي تمام، والاشارات لابن سينا، وكتاب التهذيب في المنطق، ومجلة الأحكام العدلية، وبعد عودته إلى مصر تصدّر من جديد بالأزهر، وألقى مجموعة دروسه في التفسير التي استمرت ستة أعوام. وقد تولّى في الأثناء - كلّما رغبت السلطة في إبعاده عن القاهرة أو قرّرت إقصاءه عن التدريس - وظائف كثيرة هامة. فعُيّن أولاً عضواً بالمجلس الأعلى للمعارف العمومية بمصر، ثم وُلِّي قاضياً بمحكمة بنها، ونُقل منها إلى محكمة الزقازيق فمحكمة عابدين. ثم عُيّن مستشاراً لمحكمة الاستئناف، حتى اختاره خديوي مصر 22 محرم 1317/ 3 يونيو 1899 مفتياً للديار المصرية. هذا وقد كان التدريس ألذَّ شيء وأمتعَه إليه.
وحين أخذت الأعمال السياسية والتنظيمات من وقته زمناً ليس بالقصير، تعاون في أول الأمر مع أستاذه الأفغاني في حركة العروة الوثقى، وشاركه في إصدار المجلة المتحدّثة بلسانهما، وكتب المقالات الكثيرة فيها، ودخل معه الحزب الوطني، كما صار له ضلع في ثورة عرابي. وكان لهذا الاتجاه أثرُه، ولهذا التعليم أتباعُه. وتعدّدت فروع العروة الوثقى وانتشرت بأطراف البلاد، وأصبح لها ممثلون في كثير من العواصم العربية. وممّن انتسب إليها بتونس في تلك الفترة ثُلةٌ من أعلام
(1) محمد عمارة. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: 1/ 29.
الفكر والنشاط البارزين يومئذ مثل محمد بيرم الخامس صاحب صفوة الاعتبار، ومحمد السنوسي صاحب الرحلة الحجازية، ومحمد النجار مؤلف بغية المشتاق في مسائل الاستحقاق، والعلامة سالم بوحاجب، والشيخ أحمد الورتاني العضد الأيمن لبيرم الخامس، والأستاذ محمود بن الطاهر جعفر، والشيخ حسونة بن مصطفى، أحد زعماء الحركة الاجتماعية، والسيد الشاذلي بن فرحات عامل الكاف (1).
وقد اشتهر الأستاذ الإمام محمد عبده بشدّة عداوته للإنجليز. وشارك في تنظيمات ثقافية واجتماعية، مثل الجمعية السرية للتقريب بين الأديان، والجمعية الخيرية الإسلامية بمصر. وتعدّدت آثاره وتنوعت منشوراته؛ نذكر منها بالخصوص: رسالة التوحيد، والإسلام والرد على منتقديه، والإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، وقسم كبير من التفسير عرف بتفسير المنار، وفتاوى كثيرة وجريئة. كما نشر عدداً لا يحصى من المقالات في العديد من المجلات والصحف التي منها: الوقائع المصرية التي تولّى رئاسة تحريرها، والعروة الوثقى، والمنار وغيرها.
وهكذا برزت شخصيته اللامعة الإصلاحية التي عرّف بها تلميذه شكيب حين قال: "كان جامعاً بين العلم والعمل، فلا نجد ما يساوي فضله وبلاغته وثقوب أفكاره، وقوةَ ملكته في الفلسفة، سوى علو مباديه، وبُعد همته، وغزارة مروءته، وطهارة أخلاقه، وهيهات أن يأتي الزمان بمثله"(2).
وكان توجهه للإصلاح بعد تجارب سياسية خاضها، ونشاطات
(1) المنصف الشنوفي. هوامش ببحث في مصادر عن رحلتي عبده. حوليات الجامعة التونسية، عدد 3 سنة 1966 م.
(2)
شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: (1) 1/ 283.
دعوية إسلامية أسهم فيها، بمصر وخارجها، كما كان لتنقُّلاته الكثيرة، بين مصر وبيروت وباريس ولندن وتونس والجزائر وغيرها من البلاد، أثر بعيد في تصوير العالم الإسلامي على حقيقته، وإدراك مختلف أوضاعه وأدوائه. وهو بعد سبْره لأغواره واستكناه أحوال مجتمعاته يقدمه لنا في صورة مؤلمة حزينة تكاد تتشابه - إن لم نقل تتطابق - فيها عامة الأقطار الإسلامية وشعوبها:
"اختلفت الشؤون، وفسدت الملكات والظنون، وساءت أعمال الناس وضلّت عقائدهم، وخوت عباداتهم من روح الإخلاص، فوثب بعضهم على بعض بالشرِّ، وغالت أكثرَهم غوائلُ الفقر، فتضعضعت القوة، واختُرق السياج، وضاعت البَيضة، وانقلبت العزّة ذلّة، والهداية ضِلّة، وساكنتهم الحاجة، وألِفَتهم الضرورة، ولا يزالون نائمين عما نزل بهم وبالناس. فهلا نبّهَكم ذلك إلى البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه، ثم بَحْثِ علَلِ ما صِرتم وصار الناس عليه". وسكت الإمام عبده مطرقاً جزَعاً، بعد إبراز هذا الواقع المرّ للمسلمين والبلاد الإسلامية، ثم أعاد علينا في ألم وحسرة ما تكاد ترتفع به أصوات الخاصة والعامة من حوله مجيبةً عن سؤاله:"ذلك ليس إلينا، ولا فرضه الله علينا، وإنما هو للحكَّام ينظرون فيه، ويبحثون عن وسائل تلافيه. فإن لم يفعلوا، ولن يفعلوا، فذلك لأنه آخر الزمان. وقد ورد في الأخبار ما يدلُّ على أنه كائن لا محالة، وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض، ولا تقوم القيامة إلا على لكع ابن لكع. واجتمعوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث وآثار تقطَع الأمل ولا تَدَعُ في نفسٍ حركةً إلى عمل"(1).
(1) محمد عمارة. الإسلام والنظر إليه بين العلم والمدنية. كتاب الهلال 1960: 162 - 163.
وفكّر الأستاذ الإمام وقدّر، ثم فكّر وقدّر، من بعد أن رأى من جَهْل الناس بدينهم، ومن انتسابهم الصوري للإسلام، وأدرك أن سبب هذا البلاء ضعفُ التعليم في البلاد، وفوضَى المحاكم بها، وأن من الضروري أن يسلك منهجاً يتطلّبه الوضع ويمليه عليه الواجب. واتجه في التوِّ، حسب خطته العلمية الإصلاحية والتجديدية الدينية، إلى العناية بتلك المجالات في الداخل والخارج، ممهِّداً لذلك بتجارب ومحاولات كانت بعدُ ضمانَ نجاحه فى دعوته، وسببَ إنجازه لبرامجه وأهدافه.
كان أولُ ما شغل بالَه من القضايا: التعليم بالأزهر؛ تدلّ على ذلك شكواه من وضعه، وإرادتُه وعزمُه على إدخال ما ينبغي من التغييرات عليه. وقد أُثِر من أقواله في ذلك:"إن نفسي توجّهت إلى إصلاح الأزهر منذ كنت مجاوراً فيه، بعد التلقي عن السيد جمال الدين. وقد شرعت في ذلك فحيل بيني وبينه، ثم كنت أترقّب الفرص، فما سنحت إلا واستشرفت لها، وأقبلت عليها، حتى إذا ما صادفتُ الموانع لَوَيتُ، وصبرت مترقّباً فرصة أخرى"(1).
وهو أيام إقامته بالمنفى ببيروت لم يتخلّ عن التفكير في موضوع التعليم، فوضع لدولة الخلافة لائحة في إصلاح التعليم العثماني، ووضع ثانيةً في إصلاحه في القطر السوري، وثالثة لإصلاح التربية في مصر. واهتم بشؤون الأوقاف وإصلاحها، ووضع مشروعاً بترتيب المساجد. كما اهتم بالقضاء وأجهزته وأحكامه وقوانينه، وقدّم في ذلك تقريراً في إصلاح المحاكم الشرعية.
وكانت عنايته بالفقه عناية فائقة ظهرت فيها نزعة اجتهادية كما
(1) محمد عمارة. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده: 3/ 177.
تدلّ على ذلك مؤلَّفاته وفتاواه الحرّة المطابقة لروح العصر. ولقد أوحى بتدريسه لمجلة الأحكام العدلية وحرصه على إبراز منافعها فكرةَ تقنين الفقه بمصر. وكان أولَ المتأثرين به في ذلك قدري باشا، الذي أفاد من جهود بعض الفقهاء والمعاصرين، ووضع بذلك كتاب مرشد الحيران الى معرفة أحوال الإنسان، في المعاملات الشرعية على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان (1).
وما كان له أن يبلغ في مجالات الإصلاح هذه مبلغاً يذكر لو لم يستغلّ فرصة فترة الوفاق بينه وبين الخديوي عباس الثاني، وطلب منه إعانته في العمل لإصلاح المؤسسات التعليمية والتربوية والاجتماعية الثلاثة: الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. فعُيّن عضواً ممثلاً للحكومة بإدارة الأزهر، كما اختير عضواً في مجلس شورى القوانين، ومجلس الأوقاف.
وهو وإن آخذه حُسَّاده أو خصومُه على تقرّبه من الحاكم بمماشاته للسلطة وللدولة المحتلّة، فقد كان ذلك منه سياسةَ مداراة للأوضاع المؤلمة والأحوال الخطيرة، طلباً لتحقيق الإصلاح في جوانب متعدّدة من حياة الأمة. وقد أيّده في ذلك من كان بصيراً بما آلت إليه مصر، وبما انتهى إليه أمر المسلمين بها حين قال: "كنت أعلم أنه ما أراد إلا تخفيف الداء، وتقريب أجل البلاء، وتمهيد طريق الجلاء، وما زال شأنه يعلو، وحقيقته تظهر، وجوهره ينجلي بالحك، وعقيدة فضله تتمحّص من الشك، إلى أن اتفق الناس على كونه أحد أفذاذ الشرق الذين قلّما جاد بهم الدهر، وواسطةَ عقد المصلحين المجددين في هذا العصر. وظهر أن طريقته الإسلامية العصرية ستزداد
(1) عبد الرزاق السنهوري وأحمد حشمت أبي شيب. أصول القانون: 151.
مع توالي الأيام انتشاراً، وتكون هي طريقة المستقبل" (1).
وهكذا تمكّن بموجب القانون والتعيينات السامية من أن يباشر، مع ثلة من العلماء والفقهاء الداعين بدعوته، القيام بإصلاح الأوضاع المتردّية في المؤسسات الثلاث تحقيقاً للخير، ونشراً للعلم، وتوفيراً للعدل.
وفي مجال التجديد الديني أعاد للأمة روح انتمائها لدينها بما نشره من مقالات، وألّفه من كتب، وألقاه من خطب، وقرّره من آراء في دروسه أينما حلَّ بالبلاد التي عقدت له فيها مجالس، أو أقام بها دعوة. وهكذا حرّر معنى الإسلام في أجلَى حقيقة وأكمل صورة، حيث ركّز الدعوة المحمدية على الدين الخالص الذي لا يتم إلا بالالتزام بما ورد في سورة الإخلاص، من تحقيق المفاضلة بين الإسلام عقيدة التوحيد وبين ما سواه من الأديان، واكتشافِ معالم الاختلاف الجوهري الكامل بينهما قولاً وفعلاً، اعتقاداً أو إيماناً، ومن التمسك بالمنهج الكامل للحياة الذي يُشيع في النفس المؤمنة جملةَ تصورات ومشاعر واتجاهات منها منهج عبادة الله وحده، ومنهج التوجّه واللجوء إليه وحده، ومنهج التلقّي عنه وحده، ومنهج التحرك به والعمل له وحده، وإنه لمنهج يَرِبط مع ذلك كله بين القلب البشري وكل موجود برباط الحب والأمن والتعاطف والتجاوب.
ومن ثم فإن التوحيد أو الوحدانية التي لا يمكن أن نجد صورتها كاملة إلا في الإسلام تُمثّل:
أولاً: طاقة محرّرة من الطراز الأول للإنسان، بها تَطهَّر العقول من الأوهام الفاسدة والعقائد الخرافية، ويرتفع بها المؤمن الموحِّد إلى أسمى مراتب الكرامة والكمال.
(1) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: (1) 1/ 283.
وهي ثانياً: تحرِّرُ المرء من العبودية لكل موجود سوى الله، فتتقرّر عن طريقها المساواة بين الناس، ويقوم على أساسها المقياس الإسلامي للتفاوت بينهم بسبب ما يتمايزون به من علم وتقوى أو يتفاوتون به من كسب وعمل.
وإن التوحيد ليحمل ثالثاً: على اقتلاع التقليد من النفوس، وتزكيتها من التماس الشفعاء والخضوع للأوهام. وهكذا فهو يحرّر العقل من كل سلطان تقليدي، ويعود به إلى مملكته يقضي فيها بحكمته، مع الخضوع في ذلك لله وحده، والوقوف عند شريعته التي لا حدَّ للعمل في منطقة حدودها، ولا نهاية للنظر في فسيح أحكامها وسعة تشريعاتها.
وهو يقوم رابعاً كما يقول الدعاة: على رد الكثرة للوحدة، وتغيير الأوضاع من الفرقة والتشتت إلى الألفة والتجمُّع في مجالي العقيدة وبناء الحياة الاجتماعية.
فالإسلام، مع كونه ديناً وعقيدة وشريعة ومنهج حياة، يتضمن أمرين عظيمين، طالما حُرم منهما الإنسان؛ هما: استقلال الإرادة، واستقلال الرأي والفكر. فبهما تكمل إنسانيته، وبهما يستعد لأن يبلغ من السعادة ما هيأه الله له بحكم الفطرة التي فُطر عليها (1). وبهذا التصور يداخلُ الإيمانُ النفوس الكريمة: يزكّيها ويملؤها إيقاناً وهدى وتقوى، ويدافع الانحرافات والضلالات كلَّها التي استشرت في المجتمع الإنساني بسبب العدول عن الحق وإشاعة الأراجيف والأباطيل من دعاة الشرك وأصحاب الأهواء.
* * *
(1) محمد عبده. رسالة التوحيد: 150 - 155.