الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن وراء جُدْر العلم كنزاً
…
من العمران يجدر أن يُداما
ومثلك لا يبصَّر عن ذهول
…
فإن لكم به حظّاً تسامى (1)
وضع التعليم في الزيتونة:
والذي أكّده الباحثون في قضية الإصلاح لن يغنينا ما ورد فيه من سرد لأعمال اللجان التي ظلّت تجتمع على فترات، ولا التصرّفات الإدارية التي واكبت حركة الإصلاح، لكن المهم هو الإشارة إلى جملة من العناصر التي باجتماعها يمكن أن نتصوّر واقع جامع الزيتونة يومئذ.
وهذه العناصر هي:
أولاً: حال التعليم بالجامع الأعظم.
ثانياً: مناداة الطلبة بإصلاح نظام التعليم بالمعهد ومراجعة برامجه.
ثالثاً: التساؤل عن الغاية من هذا التعليم.
أما حال التعليم، فقد بلغ بجامع الزيتونة حداً من الضعف والوهن، قعد به عما كان يحمله للناس في محيطه من علم وهداية ودعوة إلى الله. وقد أُهمل ضبطُ أنشطته واختلَّ نظامه؛ فلا هو مجدَّدُ المناهج، ولا كتب الدراسة فيه مقرّرة، ولا أوقات التعليم به محدّدة، ولا الشيوخ المدرسون مراقَبون في أعمالهم، تصاحب هذا كله الغفلة عن تنظيم درجات التعليم، وإهمالُ الدروس التطبيقية والتمارين، فتعطّلت الملكات اللسانية أو كادت، وقَلَّ التحصيل. وربما زاد من خطورة هذا الوضع قصور الهمم عن التأليف في أي علم. يصوّر لنا هذا بغاية الدقة، وبالغ الأمانة والقدرة على التعليل كتاب الإمام الأكبر أليس الصبح بقريب.
(1) محمد ابن الخوجة. الرحلة الناصرية ط. الرسمية تونس 1331/ 1913.
ذكر شيخنا في طالع أول فقرة من هذا الكتاب مناقشته لأوضاع الدراسة والتعليم بجامع الزيتونة. قائلاً: قد كان حدا بي حادي الآمال، وأملَى عليّ ضميري، من عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف، للتفكير في طرق إصلاح تعليمنا العربي الإسلامي الذي أشعرتني مُدة مزاولته متعلماً ومعلماً، بوافر حاجته إلى الإصلاح الواسع النطاق. فعقدت عزمي على تحرير كتاب في الدعوة إلى ذلك وبيان أسبابه، ولم أنشب أن أزجيت بقلمي في ابتداء التحرير
…
وها أنا ذا متقدم إلى خوض بحر، أرى هول أمواجه قد حاد بعقول كثير من ذوي الألباب فولّوا عنه مدبرين، وتكلّموا في إصلاحات نافعة تضمن مصالح المسلمين، لكنها كلها كانت متوقّفة على هذا المقصد الجليل المغفول عنه، وهو مبدأ إصلاح التعليم.
ويمثل العنصر الثاني: الطلبة الذين انقسموا على أنفسهم طائفتين: الأولى منهم كانت مع شيوخ المعارضة للإصلاح المنازعين فيه، والطائفة الثانية تنشد الإصلاح، معتقدة أنّ فيه المفزع والمخرج من الوضع المهين الذي آل إليه التعليم بالجامع، وتعطل نفع الخريجين ونفع المسلمين به عامة، باتجاهه في هذه الظروف العصيبة إلى ما عاد بالنقض والإبطال على أصوله وخصائصه، ففسدت طرق التدريس به. وهذا ما كان يعتمده الشيوخ والمدرسون من مناهج هزيلة تخلط على الطلاب أفهامهم، وتحولُ بينهم وبين الحياة. فلا هم مُدركون حقائقها، ولا هم قادرون على مصانعتها والإفادة منها، أو متبنون لها بالوجه الذي يرومون، طامعين في تدريسٍ أفضل يقتضي القدرة على مجابهة المشاكل والتحديات بإرادة ثابتة وعزم ماض. ولا يتأتّى هذا إلا بالاعتماد على تكوينٍ سديدٍ، ومعرفة جيّدة، ودُرْبَةٍ عالية من العلم يُساعد الطلبة على توَفُّرها بالمدرسةِ أو المعهد، أو أي
مكان بقيت به أثارة من العلم الإسلامي. فإنه لا سبيل إلى تغيير الوضع القائم إلا بالقضاء على الانحراف والتقصير في القيام بالواجب. وبهذه الجهود الإصلاحية يكون لزاماً على الأمة أن تعود إلى كتاب ربها وسُنة رسولها، ويعود المعهد إلى القيام بدوره الرائد بتكوين علماء عارفين من جهة بالأصول الإسلامية، والأحكام الشرعية، والآداب الدينية، واتخاذ الطريق المحقق للسموّ الأخلاقي والكمال المعرفي. ومن جهة ثانية بإتقانهم للغتهم العربية وآدابها، وما يمكن أن يحصلوا عليه من إحاطة بتاريخ الأمة وتصوّر دقيق لأوضاعها.
وإن تاريخ الزيتونة ليشهد بأن هذا المعهد لم يخلُ في أي عصر من العصور من سعي حثيث إلى تكميل مدارك خريجيه تكميلاً يؤهلهم لمسايرة أحوال مجتمعاتهم وتوجيهها. ونحن اليوم في عصر يكاد يكون المجتمع الإنساني فيه واحداً في أي قطر من الأقطار؛ بسبب ثورة المواصلات والاتصالات المتنوعة المتطورة. ولهذا أثره في ارتباط حاجات الناس ومصالحهم بعضهم مع بعض. ولا يتم لهم هذا الغرض إلا إذا تأتّى لهم الصعود في جو الثقافة الإنسانية إلى مرتقى لا يقعد بهم عن مجاراة أرقى الأمم إحاطة بجوانب الحياة السعيدة .. وهذا بالقطع ما نادى به الشيخ ابن عاشور من جعل ما كان يطلب من العلوم تكملةً لموادها في عداد الواجب.
ورغم المعارضات الكثيرة التي قامت في وجه الإصلاح من طرف بعض أعضاء الحكومة، ومن العناصر المحافظة، جرت مفاوضات كثيرة في لجان الإصلاح، وتمَّ ما عمل من أجله الإمام من تقسيم التعليم الثانوي بالزيتونة إلى شعبتين أصلية ومعاصرة.
ونتساءل عمن هو قادر على الاضطلاع بمهمة إصلاح التعليم، فلا يكون من سبيل إليه إلا بحصول أمرين أساسيين هما: شروط القيام بالإصلاح، وبيان الغاية من التعليم في جامع الزيتونة.
أما شروط القيام بالإصلاح فهي كما صرح بذلك الإمام الأكبر في خطبه الكثيرة، وبخاصة في خطابه الموجّه إلى دعاة الإصلاح بقوله: أن يكون الراغب في الدعوة وفي القيام بإصلاح التعليم مؤهَّلاً للاضطلاع بالعمل الإصلاحي في ميدان التعليم. ومن أهم شروط هذا التأهّل: أن يكون ممن أنشأه هذا التعليم نفسُه، عارفاً بحاجات الزمان، وغايات العلوم، نظّاراً إلى الروح لا إلى الجثمان، بعيداً عن متابعة السفاسف، خبيراً بما أصاب مزاج التعليم من العلل وبأنواع معالجتها.
وأما الشرط الثاني فهو أن يكون المصلح صادقاً مخلصاً، صبوراً مثابراً على أداء واجبه، قادراً على إقناع من حوله من الناس بضرورة الإصلاح؛ فلا يتغافلون ولا يتقاعسون ولا يعرضون أو يمتنعون عن معاضدته، بل يشدّون على يديه، ويبذلون الوسع في التعاون معه لتحقيق الغاية وبلوغ القصد.
وقد رسم للدارسين والخريجين الهدف من وراء دراستهم للعلوم الشرعية واللغوية ونحوها قائلاً: إن غاية الغايات من التعليم الإسلامي، وأسنى المقاصد للتعليم الزيتوني هو إنتاج قادة للأمة في دينها ودنياها، وهداةٍ هم مصابيح إرشادها، ومحاصِدُ قتادها، ومُهدِّئو نفوسها إذا أقلقها اضطرابُ مهادها.
ويحسُن بنا ونحن نواصل القول في إصلاح التعليم الزيتوني أن نلفت النظر إلى عمل الإمام الأكبر في هذا المجال. وهو ما أومأنا إليه قبل، فنتحدث عن الأساتذة، وهم درجات. ومن وصف الإمام
لهم يَتَبَيّن لنا أن مَن يُحسن التعليم منهم قليل، لما كانوا عليه من فوارق وتفاوت في الدرجة العلمية. وقد زاده اضطراباً انصراف الطلبة في الغالب عن الدرس وانقسامهم على أنفسهم، متأثِّرين بالقسم الأول أو بالقسم الثاني من الشيوخ.
وتتأكد الإشارة هنا إلى أن هذا التعليم الإسلامي كان هو الوحيد يومئذ بالبلاد التونسية، وأن أحسن مَن تناوله بالنقد والتوجيه الإمام الأكبر. وهو كما يظهر لقراء أليس الصبح بقريب، يعالج قضايا العلم والتعليم، ويبدو لمن يطالعه أنه لم يترك قضية من القضايا الهامة إلا تعرض إليها. وذلك مثل:
1 -
إيواء الطلبة في أوقات الدروس، وإقامتهم بمدارس سكناهم.
2 -
نظام الالتحاق بالجامع، أو التراتيب الإدارية المتعلقة بالانتساب إليه تعلُّماً وتعليماً، مع تفصيل القول في دفتر الشهادات، وأوقات التعليم، والإجازات التي يتمتع الطلبة فيها بالراحة والانقطاع عن الدراسة.
3 -
قضايا التعليم: الوضع قبل مرحلة الإصلاح الأولى؛ الطلبة، المدرسون، الكتب الدراسية، لجنة إصلاح التعليم، قائمة الكتب الدراسية، وما طرأ عليها من تطوير باختصارها حيناً، والتنقيص منها أخرى، والاستدراك عليها ثالثة.
ونعود إلى كتاب الإمام للوقوف على نقد أوضاع التعليم بالزيتونة، والدعوة الصريحة للإصلاح. فنرى أن الواجب يفرض علينا الإمعان في دراسة جملة من الجوانب المختلفة الأساسية التي كانت عليها الزيتونة، مع البحث عن أسباب الضعف والتأخر في هذه الجامعة العتيقة التي مر على تأسيسها ثلاثة عشر قرناً، وكان أول