الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النكت والمسائل وكشف المشاكل، أو تحقيق مبحث، أو فصل نزاع، أو بيان استعمال عربي فصيح، أو مفرد غير متداول.
ولا يتَّسِع الظرف لاستعراض ما تناوله كشف المغطّى من أحاديث ومسائل بلغت نحو الثلاثمائة، وأنّى لنا ذلك في مثل هذه العجالة، وإني لأكتفي بذكر أمثلة من ذلك انتزعتها من عدة كتب وأبواب من الموطأ، لنتبين من عمل شيخنا فيها المنهجَ الذي سار عليه، والطريقةَ التي اعتمدها فيه وأنواعَ الملاحظات والإفادات التي قدّمها لنا وأفادنا بها.
* * *
أمثلة تحدِّد منهج الإمام مالك في الموطأ:
فمن أمثلة ذلك:
1 -
مالك عن ابن شهاب: "أن عمر بن عبد العزيز أخّر الصلاة يوماً، فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوماً وهو بالكوفة. فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري. فقال: ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله
…
" الحديث (1).
بدأ الإمام الأكبر ببيان خصائص هذا الحديث قائلاً:
هذا حديث أغرّ: فيه مراجعة فقيهين لأميرين، وفيه تلقّي تابعي عن تابعي، وصحابي عن صحابي، ورسول عن رسول. وكان عمر بن عبد العزيز أمير المدينة، وكان المغيرة بن شعبة أمير الكوفة.
ثم أشار إلى ما في هذا الحديث من بيان إجمالِ آياتِ أوقاتِ الصلوات.
(1) 1 كتاب وقوت الصلاة، 1 باب وقوت الصلاة، ح 1، ط: 1/ 3 - 4.
وفيما بدا من إنكار الفقيهين، عروة بن الزبير وأبي مسعود الأنصاري، على الأميرين عمر بن عبد العزيز والمغيرة بن شعبة، تأخيرَ الصلاة ليس من أجل الغفلة عنها إلى خروج الوقت، وإنّما للتأخّر بها عن أول الوقت. فالسلف كانوا يخشون تعيّنه لإيقاع الصلاة، وأن في التأخّر عن أول الوقت بدون عذر إثماً. ذاك كان دأبهم في المحافظة على السنة. فكانوا يرون أن وقت أول الواجب الموسع هو أول الوقت، وأن ما بعده قضاء سدّ مسدّ الأداء. وهذا خلاف رأي الجمهور الذي يعتبر جميع وقت الواجب الموسع محلاً للأداء.
وهذا الحديث مما رواه البخاري عن عبد الله بن سلمة عن مالك (1). ومحل الاحتجاج فيه لمقالة السلف: أن جبريل نزل فصلّى عند الوقت أي في بدايته، وصلّى الرسول صلى الله عليه وسلم بصلاته. وهكذا عقبت الصلاةُ النزولَ بلا تريث، وفيه الإشعار بوجوب المبادرة إلى الصلاة. ويقابل هذا الرأي قول الفقهاء: أوقات الصلاة ذات مبادىء ونهايات، وأن الأمر إنما جاء لتأكيد الأداء في أول الوقت، أو هو أمر لغير ذي العذر بالمبادرة إلى الصلاة. وفي هذا سعة، والشريعة لا يفارقها التيسير.
وقد اشتمل هذا التعليق على ملحظ لطيف دلّ على أهمية الصلاة وشرفها: يظهر الأول في صلاة جبريل الأوقات الخمسة برسول الله، تبليغاً عملياً لأوصافها وكمال أدائها. ويظهر الثاني في فرض الله الصلاة بحضرة الملائكة في الإسراء، وبيان حقيقتها وصور القيام بها عن طريق نزول الروح الأمين جبريل عليه السلام بها (2).
* * *
(1) خَ. 9 كتاب مواقيت الصلاة، الباب الأول، 1: 1/ 132.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطّى: 52 - 55.
2 -
مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استقيموا ولن تُحصوا، واعملوا وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"(1).
أورد الشيخ رحمه الله هنا الجزء الأول من الحديث. فنوّه بإيجاز لفظه واتساع دلالته، جاعلاً إيّاه من جوامع الكلم. ووقف عند كلمتي: الاستقامة والإحصاء؛ شارحاً معنييهما، ذاكراً دلالتيهما الحقيقية والمجازية. فالاستقامة على الحقيقة مشتقة من القَوام أي الاعتدال وعدم الاعوجاج. قال سحيم:
وكنت إذا غمزت قناة قوم
…
كسرتُ كعوبَها أو تستقيما
وهي "مجاز" بمعنى حُسن العمل.
وقول: ولن تحصوا، من الإحصاء. وهو معرفة كامل العدد. وهو هنا بمعنى: ولن تحيطوا بكمال الاستقامة. وقد ذكر على دلالة هذا اللفظ شواهد من القرآن. ومجازُ: ولن تحصوا، العجزُ عن العمل. وفي آخر التعليق بعد شرح الكلمتين السابقتين في الحديث، يذكر أن الواو في "ولن تحصوا" هي واو الحال. والمعنى: استقيموا وإنكم لن تحصوا غاية الاستقامة. فالكلام مسوق مساق الإغراء بالعمل على حدّ قولك: افعل كذا ولا تقدر، أو قولك: ولا أظنّك تفعل (2).
* * *
3 -
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع لبلال بن الحارث معادن القبلية. وهي من ناحية الفُرع. فتلك المعادن لا يؤخذ منها - إلى اليوم - إلا الزكاة"(3).
(1) طَ: 2 كتاب الطهارة، 6 باب جامع الوضوء، 36: 1/ 34.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطى: 80 - 81.
(3)
طَ: 17 كتاب الزكاة، 3 باب الزكاة في المعادن. ح 8: 1/ 248.
توقّف المؤلّف عند كلمة "قطع له" في هذا الحديث بمعنى أعطاه، ووجد أن من اللغويين مَن لا يقبل هذا الاستعمال في هذا الغرض، وأن الموجود (أَقْطَعَ) الرباعي متعدّياً بنفسه، ولم يذكروا (قَطَع له). وذكر أن الكلمة هنا واردة بصيغة الماضي الثلاثي ومعداة باللام فَعَل - لـ. وقال: وهي بلفظ المضارع الثلاثي أيضاً كما في حديث الصحيحين: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطع للأنصار من البحرين فقالوا: حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين"(1). وللجمع بين مقالة اللغويين وما ورد في نصوص السنة من ذلك، ما نقله عن عياض في المشارق من قوله: أصله من القطع، كأنه قطعه له من جملة المال. وصحّح الإمام هذا الاستعمال بجريانه على القياس في اللغة (2).
* * *
4 -
عن سعد الجاري مولى عمر بن الخطاب أنه قال: "سألت عبد الله بن عمر عن الحيتان يقتل بعضها بعضاً، أو تموتُ صَرَداً"(3).
تعرّض المؤلّف هنا في تعليقه على هذا الحديث إلى التعريف بأحد رجال الإسناد فيه، وإلى تفسير كلمة لغوية.
فالأول قوله: سعد بن نوفل الجاري، ينسب إلى الجار، اسم مرفأ بالمدينة قديم، استعمله عمر عليه. وهذا الراوي ذكره الحموي
(1) وورد بصيغة الرباعي بهذا المعنى في حديث أسماء بنت أبي بكر عند قولها: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي. 39 كتاب السلام، 14 جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق، 34. مَ: 2/ 1716.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطّى: 151.
(3)
25 كتاب الصيد، 3 باب ما جاء في صيد البحر، 15، طَ: 2/ 495.
في الجار في معجم البلدان، ولم يرد ذكره لا في تهذيب التهذيب لابن حجر، ولا في إسعاف المبطّأ للسيوطي، ولا في الكاشف للذهبي. وذكر الحموي: أن سعد الجاري هذا مختلف في حديثه، وأن له ولدين هما عبد الرحمن وعمر، وكلاهما من المحدثين.
والثاني تحرير جملة "أو تموتُ صَرَداً". الصّرَد بالتحريك شدة البرد، وهو منصوب على نزع الخافض. قال النابغة:
فارتاع من صوت كلاب، فبات له
…
طوعَ الشوامت من خوف ومن صَرَدِ (1)
* * *
5 -
عن أبي الزبير المكي: "أن رجلاً خطب إلى رجل أختَه. فذكر أنها قد كانت أحدثت. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه، أو كاد يضربُه. ثم قال: مالك وللخبر؟ "(2).
هذا الخبر يعرض علينا تصرّفين متقابلين: أحدهما تصرف رجل يشهّر بأخته لدى خاطبها، صوناً له من الارتباط بما يكره والوقوع فيما يحذر، معتبراً ذلك من الخلال الكريمة التي يأمر بها الشرع، وثانيهما التصرّف المقابل له تصرّف عمر بن الخطاب، الوقّاف عند أحكام الشرع الذي غَضب على الأول أشدّ الغضب وضربه أو كاد أو عزم على ضربه تأديباً له لتصرّفه تصرّفاً غير شرعي بما قام به.
ولتحرير الوجه الفقهي في هذه القضية يلفت المؤلف النظر إلى زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً أخبر بزنى رجل مسلم. فقال: هلا سترته بردائك؟ ويقتضي هذا بدون شك تحقيق مقصد شرعي سامٍ، يتمثّل في ستر المسلم فيما زلّ فيه من المعاصي ما لم يُخش من ذلك ضرر
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطى: 237.
(2)
28 كتاب النكاح، 22 باب جامع النكاح، 53. طَ: 2/ 547.
على الأمة. قال صلى الله عليه وسلم: "فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة".
ومن هذا التقرير تتضح لنا عناية المؤلف بالمقاصد الشرعية، واهتمامه بها، وترتيبه الأحكام عليها. فالستر على المسلم فيه مصالح كثيرة تجلب منفعة أو تدرأ ضرراً. فممَّا تجلبه من المصالح: إبعاد المقترف للذنب عن استخفاف الناس به وكراهيتهم له. وأن من حَصَلت منه المعصية على وجه الفلتة إذا ستر أمره بقي له من وقاية مروءته ما يصدّه عن معاودة الوقوع في ذلك الإثم. ومن المفاسد التي يدرؤها الأخذ باعتبار مصلحة الستر على المسلم فيما حصل منه واجباً بل محمدة، إن في التسميع بالمعاصي مظنّة قصد التشويه به بالذنب، وأنه بإشاعة المعاصي يسهل أمرها على متجنّيها. وهو مما جاء التحذير منه، والتهديد عليه في الذكر الحكيم بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (1)، كما أن التشهير يحدث عداوة بين المشهِّر والمشهَّر به. وهذا ينافي مقصد الإسلام من دوام الألفة والمحبة بين المسلمين.
ويساير الإمام نصّ الحديث، فيذكر أن ما حصل من الأول من سوء التصرّف كان ممّا لا منفعة فيه للخاطب، وأنّه بسبب ذنب مضى، وليس هو عيباً بالخلقة كعيوب الأبدان والأخلاق، مِن مرض أو جنون أو حماقة، يجب الإعلام به لتجنيب الخاطب الغرر، على أن النصيحة لا تكون من ولي المرأة، فإن في مثل هذه مضاعفة لسوء التصرّف الذي يشير إليه الفقعسي الحماسي:
رأيت مواليَّ الأُلَى يخذلونني
…
على حدثان الدهر إذ يتقلَّب
(1) النور: 39.
ومن أجل التبغيض في مثل هذه الفعلة ورد بآخر الحديث الاستفهام الإنكاري من الخليفة الراشد عمر: مالك وللخبر؟ (1).
* * *
6 -
قال عمر: "فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله" ووقع فيه: "وإما أن تَرفَع من سُوقنا"(2).
وفي التعليق على هذين الحديثين بيان للأول: أي كيف شاء الله له، بمعنى كيفما تيسّر له.
وتصحيح للثاني أساسه ضبط صيغة الحديث الثاني: أن تَرفَع من سوقنا، بفتح التاء الفوقية والفاء من نفس الكلمة. قال الشيخ ابن عاشور: ولا يصحّ ضم الفوقية، لأن حاطباً لم يكن ملازماً للسوق. وأيّد هذا بأن هذه هي الرواية التي وقف عليها في نسختين صحيحتين. وأكّد هذا بما وقع في قصّة حاطب من قول عمر له: وإلا فارفع من سوقنا. وهي الرواية المنقولة عن عيسى بن دينار، نقلها عنه ابن أبي الخصال. قال: كان حاطب يبيع من زبيبه بأقل ممّا يبيعه به أهل السوق. فقال له عمر: إمّا أن تبيع كما يبيع الناس، وإلا فارفع من سوقنا. ومن رواية أخرى قال عمر: حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً. وهم إذا وضعوا بجنبك اعتبروا بسعرك، فإمّا أن تَرفَع في السعر، وإمّا أن تُدخل زبيبك البيتَ فتبيعه كيف شئت. وتمام هذه الرواية أن عمر بن الخطاب أتى حاطباً في داره. فقال: إن الذي قلت لك ليس بعزيمة ولا قضاء، إنّما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد. فبع كيف شئت (3).
* * *
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطّى: 252 - 254.
(2)
31 كتاب البيوع، 24 باب الحكرة والتربص، ح 56، 57. طَ: 2/ 651.
(3)
محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطّى: 276.
7 -
بلغ مالكاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع وسلف". قال مالك: ولا بأس أن يشتري الثوب من الكتان أو الشطوي أو القصبي بالأثواب (1).
التعليق هنا لا يتصل بنوع الحديث ولا بمتنه، وإنما هو منصبٌّ على الجملة من تفسير مالك التي أوردها إثره.
أجرى المؤلف أولاً مقارنة بين رواية يحيى وبين رواية ابن وضاح في نقل كلام مالك. فاقتران الشطوي بلفظ "أو" أو بحرف العطف "و" ثابت في رواية يحيى، غير وارد عند ابن وضّاح. وعند ابن عبد البرّ في الحاشية "الواو" خطأ لم تقع لغير يحيى.
ويرى الإمام الأكبر أن الشطوي وما عطف عليه أصناف من الكتان، فلا وجه لعطف أولها على الكتان بأو ولا بالواو لأن الكتان نوعها. أما بقية الأصناف المذكورة بعد فإثبات "أو" فيها متعين.
ثم أضاف رحمه الله، إلى ما ذكر من أنواع الكتان، القوهيَّ نسبة إلى قُوهستان بلد بكرمان، وأصله كوه ستان. فكوه جبل، وستان المكان، بمعنى بلد الجبال. والقُوهي ثوب أبيض ينسج بقوهستان. ورد في شعر نُصَيْب:
سُوِّدْتُ فلم أملك سوادي، وتحته
…
قميص من القوهي بيض بنائقه (2)
* * *
8 -
عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل
(1) 31 كتاب البيوع، 30 باب السلف وبيع العروض بعضها ببعض، 69. طَ: 2/ 657.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. الكشف: 278.
واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا، إلا بيعَ الخيار". قال مالك: وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به (1).
موقف معلن فيه عن رفض العمل بهذا الحديث المروي عن ابن عمر وابن حزام، من طرف الإمام مالك. لذا أعقبه رحمه الله بقوله في موطئه: ليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به. وقد سبق لنا الحديث عن هذه المسألة في بداية فصل احتياج الفقيه إلى معرفة المقاصد الشرعية (2).
وأشار رحمه الله إلى وقوع الخلاف في هذه المسألة بين الفقهاء كما فصّل فيها القول ابن العربي في القبس (3).
والمهمّ الذي نبّه إليه الشيخ رحمه الله في كتابه: أنه لم يجد فيمن عَمَد إلى تحرير المذهب من قام ببيان المراد من قول الإمام مالك: ليس لهذا عندنا حد محدود
…
إلا كلمة لابن العربي، قال: هي إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة، ولو شرط الخيار ومدة مجهولة لبطل إجماعاً. وكيف يثبت حكم بالشرع بما لا يجوز شرطاً في الشرع. وهذا شيء لا يتفطّن إليه إلا مثل مالك. قال الشيخ ابن عاشور: وجد الإمام محمَل الحديث غير بيّن، لأن المجلس لا ينضبط. وشأن التشريع في الحقوق أن يكون مضبوطاً، لتتمكن للمتعاملين المطالبة بالحقوق، ويتيسر للقضاة فصل القضاء. ويضيف بعد هذا: إن الحديث من غير ضبط يجعله مانعاً من الاستفادة منه، لكونه مجملاً لم يصحبه ما يبيّنه، ولا أمر معمول به، كما قال مالك.
(1) 31 كتاب البيوع، 38 باب الخيار، 79. طَ: 2/ 631.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. المقاصد: 3/ 43.
(3)
ابن العربي. القبس: 2/ 844 - 845.
ويختم تقريره هذا بقوله: إن الأدلة المجملة لا تكون أدلة تفقّه، فيجب التوقّف والرجوع إلى القواعد الشرعية، إذ الأصل في البيوع الانضباط وطرح الغرر (1).
* * *
9 -
عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب كان يأكل خبزاً بسمن. فدعا رجلاً من أهل البادية فجعل يأكل ويتّبع باللقمة وضَر الصحفة. فقال عمر: كأنك مقفر! فقال: والله ما أكلت سمناً ولا لُكْتُ أكلاً به منذ كذا وكذا. فقال عمر: لا آكل السمن حتى يَحيا الناسُ من أول ما يَحْيَوْن (2).
ويحتاج هذا الحديث إلى تحقيق روايته، وبيان وجوهها في الجزأين. وهذا ما عُني به صاحب الكشف ضابطاً ومقارناً:
وَرَد الجزء الأول منه في المشهور من الروايات بلفظ: ولا رأيت آكلاً به، وبذلك يكون مناسباً لرواية الجزء الثاني بصيغة: لا آكل السمن حتى يَحيَا الناس.
والرواية الثانية: ولا رأيت أُكْلاً به، بضم همزة أُكْل، بمعنى: ولا رأيت طبيخاً بالسمن. وهي دون الرواية الأولى.
والرواية الثالثة - وهي الأخيرة في الرتبة -: ولا لُكْتُ أكلاً به، يعني أنه ما أكل سمناً محضاً، ولا مضغ طعاماً مأدوماً بالسمن.
وورد الجزء الثاني من الحديث بصيغة قول عمر: لا آكل
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. كشف المغطّى: 280 - 281.
(2)
49 كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، 10 باب جامع ما جاء في الطعام والشراب، 29. ط: 2/ 932؛ موطأ الليثي. دار النفائس: 667، 1690.
السمن حتى يُحيا الناس من أول ما يُحيون. وفيه روايات ثلاثة أيضاً:
الأولى: بضم الياء الأولى في الفعلين، وبكسر الثانية في (يُحيِي) وضمها في (يُحْيُون):
حتى يُحيِي الناس من أوّل ما يُحيُون.
الثانية: بفتح الياء الأولى والياء الثانية في الفعلين:
حتى يَحيَا الناس من أول ما يَحيَون.
وبالضبط الأول وردت في أصل ابن أبي الخصال، وكذا عند الطلمنكي وعند أبي علي الصدفي.
الثالثة: بضم الياء الأولى في الفعلين وفتح الياء الثانية فيهما:
حتى يُحيَى الناس من أول ما يُحيَونَ.
هكذا ضبطها أبو عمر بن عبد البر، وأبو الوليد الوقشي.
واختار الوقشي في الفعل الأول (يُحيِي) بضم الياء الأولى وكسر الثانية فاختار في الفعل الوجه الأول.
ويتقرر ببيان ما ذكر هنا من الأوجه:
أن يكون مِنْ (أحيا) يقال: أحيا القومُ إذا حَيِيَتْ ماشيتُهم أو صاروا في الحيا، أي الخصب. كذا في القاموس. أي مشتقاً من الحَيى بالقصر وهو المطر. وقال ابن السيد البطليوسي: أحيا الناس يُحيُون، إذا حييت أموالهم وأخصبوا، على حدِّ قولهم: أَهْزَلَ الناسُ، فهم مُهزِلون إذا أجدبوا فهزلت أموالهم. ونبّه الشيخ رحمه الله على أن هذا الوجه هو الذي رجّحه أكثر الرواة للموطأ وهو الأظهر عربيّة.
ويكون من حَيِيَ الناس إذا صاروا أحياء، بمعنى رجعوا إلى
حالة الشِّبع، على تشبيه الجدب والجوع بالموت، وتشبيه الشبع والخصب بالحياة على نحو قوله تعالى:{فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، وقوله سبحانه:{وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} .
قال ابن السيد في شرح مشكل الموطأ: والفقهاء يروونه يَحيا ويَحيَون بفتح الياءين في الفعلين. وهذا الوجه دون الأول.
أو يكون يُحيَى ويُحيَون، بضم الياءَيْن الأولين في الفعلين، وفتح الثانيتين فيهما على أنه مبني للمجهول. وهذا أضعف الوجوه (1).
* * *
10 -
عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة". فقال رجل: يا رسول الله لا تخبرنا؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مثل مقالته الأولى. فقال له رجل: لا تخبرنا يا رسول الله. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أيضاً. فقال الرجل: لا تخبرنا يا رسول الله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أيضاً. ثم ذهب الرجل يقول مثل مقالته الأولى. فأسكته رجل إلى جنبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وقاه الله شرّ اثنتين دخل الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه"(2).
هذا الحديث من باب تقديم العلم وعرضه، أو من باب النّصيحة، أو من باب التبشير والترغيب، والظاهرة التي يتجلّى فيها هذا الخبر أنه لم يكن حديثاً يروى فحسب، أو كلاماً ينقل، ولكنه
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. الكشف: 354 - 355.
(2)
56 كتاب الكلام، 5 باب ما جاء فيما يخاف من اللسان، 11. طَ: 2/ 987.
حوار وتجاوب بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وحِرْصٌ من النبى صلى الله عليه وسلم على الإبلاغ، ومن أهل مجلسه على التحمّل. وتعمُّق الإمام الأكبر في بيان وجوه معانيه وأسراره متولدٌ بدون شك من وقوفه على الروايتين الواردتين فيه.
فيحيى بن يحيى الليثي وابن القاسم روياه بلفظ: "لا تخبرنا"، بصيغة النهي. ورواه عبد الله بن مسلمة القعنبي بلفظ "ألا" التي للعرض. وقال: ألا تخبرنا، بزيادة الهمزة على "لا" في الرواية الأولى.
ويترتب على هذا الاختلاف في الرواية اختلاف في المعنى، وحصول تأويلات لضبط دلالته، وسبب داع إلى الترجيح بين الروايتين المختلفتين أو الجمع بينهما، وهذا الاهتمام بلفظ الحديث ومتنه يكشف عن إرادة قوية وعزم شديد على تتبّع الآثار النبويّة، ودقّة فهمها، وجودة تقديمها، وضرب المثل في حُسن الدراية.
يقول الشيخ ابن عاشور: ففي رواية يحيى وابن القاسم أشكل على الشارِحين موقع لفظ "لا تخبرنا" في الرواية الأولى، فتأوّله المتأوّلون. وذهب الباجي في المنتقى إلى أن الرجل أراد أن تتسابق أفهام الحاضرين، اجتهاداً منهم، إلى تعيين هذين الاثنين. وهذا أقرب ما ورد من التآويل. وليس في حكاية الراوي ما يؤذن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد اختبارَ فهمِ أصحابه، فيكون لفظ "لا تخبرنا" ما اقتضاه الكلام، ولأن الخبر متعلق بأمر الآخرة، وهو مما لا مجال للعقول في تعيينه.
وفي رواية القعنبي: "ألا تخبرنا" وهى أقرب الروايات. فهي تقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك وسكت قليلاً أو اشتغل بشيء. فقال ذلك أربع مرات.