الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - استعمال لفظ "كل" بمعنى الكثرة
وهذا الاستعمال استعمال حقيقي يساوي استعمال (كلّ) في الشمول.
بدأت المقالة بالتعريف بكلمة "كلّ". فهي اسم موضوع للدلالة على الإحاطة والشمول، وفيها إبهام اقتضى ملازمتها الإضافة إلى اسم ذي أجزاء أو أفراد، يبين ذلك الإبهام. ولكونه دالاً على الشمول كان ضداً له لفظ "بعض" بشهادة فصيح الكلام.
ودليل هذه المقابلة بين لفظي "كلّ" و"بعض" حديث ذي اليدين خِرْباق السلمي رضي الله عنه حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم سلّم من ركعتين أو ثلاث من رباعية. فقال له: "أقصُرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلُّ ذلك لم يكن. قال له خرباق: بل بعض ذلك قد كان".
وأما استعمالات لفظ: "كلّ" كما تنطق بها المعاجم ودواوين اللغة وكتب العربية كالصحاح واللسان ومغني اللبيب فلها صورتان وقاعدتان تضبطان ذينك الاستعمالين:
الأولى: إذا وقع لفظ "كلّ" بعد اسم مدلوله ذو أفراد أفاد توكيده بشمول أفراده. وهذا معدود في ألفاظ التوكيد المعنوي، وملازمٌ الإضافة إلى ضمير موافق للاسم المتقدم.
الثانية: إذا وقع لفظ "كلّ" غير تابع لاسم قبله فلا بد من إضافته إلى اسم ظاهر أو مضمر لغير قصد التوكيد، أو يكون منوناً بتنوين عوض عن لفظ المضاف إليه المقدر، كما في قوله تعالى:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (1) وبذلك يكون ملازماً للإضافة إلى ما يبينه
(1) النمل: 87.
تصريحاً أو تقديراً، ويكون دالاً على شمول أفراد ما أضيف هو إليه.
وأضاف الفيروزآبادي إلى دلالة لفظ "كل" الموضوعة للشمول لجميع الأجزاء قوله: وقد جاء بمعنى بعض، ضِدٌّ. يقول الإمام الأكبر: أدْخلت هذه الزيادة من الفيروزآبادي تحقيقاً وإشكالاً. ولبيان ذلك وتفصيل القول فيه نقل عن الزبيدي في شرحه أن أصل ما جاء في القاموس من ذلك هو كلام الفيومي في المصباح، وما أشار إليه ابن السّيد البطليوسي في كتاب الإنصاف. والتحقيق أن كلام الفيومي مخالف لكلام القاموس. قال الفيومي: وقد يستعمل بمعنى الكثير كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (1). فالآية تذكر أن التدمير تناولهم جميعاً وامتد إلى مساكنهم، دون أن يصل ذلك إلى غيرهم. وهذا التأويل غير محرر، لأنه لم يبين هذا الاستعمال أهو مجاز يحتاج إلى قرينة أم هو حقيقة بسبب اشتهار ذلك وكثرته.
وأما عن كلام ابن السِّيد البطليوسي الذي تعرّض فيه، في باب الخلاف العارض من جهة العموم والخصوص، إلى ذكر شاهدين. أولهما قوله تعالى:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (2). وثانيهما قوله عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} فهو من باب العام المخصوص. خصّصه قوله: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} . ومن هذا ندرك أن المدمَّر غير المساكن. وفيما أوردناه اتفاق بين الفيومي وابن السيد في اعتبار هذا الشاهد مؤولاً عندهما بأنه من العام المخصوص.
وحكى الزبيدي عن شيخه أن "كلّ" استعملت بمعنى "بعض". وذكر لهذا شاهداً لم يثبت. وهو قول عثمان حيث قيل له: أبأمرك هذا؟ فقال: كل ذلك بأمري، وبعضه بغير أمري. وهذه المقالة
(1) الأحقاف: 25.
(2)
النمل: 23.
المروية عن الخليفة الثالث لا شاهد فيها، لأن قصاراه أنه عام مخصوص بلفظ متصل به. فلم تخرج كلمة "كلّ" الواقعة فيه عن معنى جميع الأفراد إلا بعد ذكر لفظ آخر. ومن المعلوم أن العام المخصوص مراد عمومه تناولاً. وهذا مثل الاستثناء من لفظ دال على العموم، فإنّه لا يحدث لذلك اللفظ معنى جديداً.
ومضى بعد ذلك صاحب التاج يستدل لمقالته من إفادة (كل) البعضية بآيتين كريمتين هما: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (1): {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} . وردَّ الشيخ على هذا الاستدلال ببيان مدلول الآيتين، ثم نبّه إلى أن قول القاموس وما يقتضيه بجعل كلمة "كلّ" مطلقة على البعض قليلاً كان أو كثيراً، ويؤكد هذا المعنى بكلمة "ضد" التي يراد منها ضد جميع الأجزاء. وهذه تقتضي تمام المقابلة لدلالة "كل" على الشمول. وتعقيباً على هذا يقول: ولا أحسب أن أحداً يدّعي أن لفظ "كل" يطلق على الواحد ولا على العدد القليل، وبناء عليه تكون عبارة القاموس مدخولة.
ويستنتج مما تقدّم أن الفيروزآبادي أثبت في كلامه دلالة لكلّ غير دلالتها على الشمول. وهذا يعني أنه يجوز إطلاق لفظ "كل" بمعنى الكثير، لدلالته على الكثير من جنس ما تضاف إليه، وعلى العظيم منه القائم مقام الكثير. وهذا ممّا ورد به الاستعمال عند العرب، وهو قريب من أصل معنى "كلّ"، فيكون إطلاقه على الكثرة من باب تنزيل الأكثر والأهم منزلةَ الجميع لعدم الاعتداد بما سواه. والاستعمال هنا مجازي، ثم شاع وتُوُسِّع فيه فاستغنى عن قرينة المجاز لمساواته للإطلاق الحقيقي على الكثرة
(1) النحل: 9.
أو ما قاربها من غير أن يكون المقام ممّا يقصد فيه الادعاء أو المبالغة.
وقال السيوطي في المزهر: إن المجاز متى كثر استعماله صار حقيقة عرفاً، وأن الحقيقة متى قلّ إستعمالها صارت مجازاً عرفاً (1)، وعلى هذا جرى القرافي في قوله في التنقيح (2): إن الوضع يطلق على جعل اللفظ دليلاً على المعنى وهو الوضع اللغوي، ويطلق على غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر منه من غيره.
ويُتبع صاحب المقالة هذا التحقيق، الذي اعتمد فيه أقوال اللغويين وعلماء الأصول، بذكر الأسباب الموجبة لكثرة المجازات والاتساع في الإطلاقات اللغوية فيها. فمن ذلك ما سبق ذكره من شهرة المجاز. ونوّه في هذا المحل بصنيع الزمخشري الذي دعته الاستعمالات المجازية الكثيرة إلى وضع أساس البلاغة. ثم أورد شواهد عديدة في استعمال لفظ "كل" غير محتمل لغير معنى الكثرة. وهذا ما يدل عليه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} (3).
فكلمة "كل آية" وإن وقعت في حيز المبالغة بِلَوْ الوصليّة، فإن المبالغة هنا لا تتصور إلا على معنى الكثرة الشديدة، وقوله عز وجل:{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (4). وكذلك ما ورد في كلام العرب كما في قول النابغة:
بها كلّ ذيال وخنساء ترعوي
…
إلى كلّ رجاف من الرمل فارد
(1) السيوطي: 1/ 176، ط. بولاق.
(2)
تنقيح الفصول: 15. ط. التونسية.
(3)
يونس: 96، 97.
(4)
الحج: 27.