الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو الحاجة إليه في حصول التفاهم؛ كبحث أحوال (ما) وورودها في الكلام بمعانٍ مختلفة من تعجب واستفهام ونفي ونحوه. فإن هذا التمييز بين أحوالها في الاستعمال يمكن أن يقتنص من سياق الكلام، ومما يبرز فيه من قرائن وعلامات.
وفي مقابل هذا ركّز المؤلف على أن طلب علم النحو كان من أجل التعرّف على وجوه تحسين الكلام. وذلك ما ظهر في أجلّ طور من أطوار ارتقاء اللغة العربية، ومن ثمّ كانت بداية علم البلاغة والاشتغال بعامة فنونها.
وأما علم الصرف فهو الأدخل في علوم اللغة. فإن المتكلم بها من غير إتقانه والإلمام به لا يتمّ له ما يريد من استعمالها، ولا يحصل له ذلك إلا مع طول معاناة.
تأخّر علوم العربية وأسبابه
إن أسباب اختلال هذين العلمين وانحطاطهما مع تطوّر الأزمنة واختلاف المراحل التي أقبل فيها الطلاب على معرفة فني النحو والصرف فهي:
أولاً: إطالة المباحث في العلمين بتبيين العلل والأسباب. وهو ما أقبل عليه الدخلاء على اللغة المعنيون بضبطها المضطرون إلى التأمل في دقائقها. فإن ذلك يجمع عليهم المتفرّقات، ويهديهم إلى خبايا تذكّرهم عند النسيان، وتكشف لهم أسرار الاختلاف عند الاشتباه. وقد نبغ في هذا المولدون من العرب كالخليل بن أحمد والموالي كسيبويه.
لكن الاشتغال بذلك في كل مراحل التعليم موجب للتشويش على الأذهان. فكانت النتائج عقيمة. فإن الطلاب كانوا يتخرَّجون،
وقد شَدَوا محفوظات كثيرة من القواعد، وارتسمت في عقولهم جملة من قضايا الحجاج واللَّجاج دون إتقان لحسن التعبير أو رعي لقواعد الفنين. وكم كان ما يدّعونه من وراء ذلك من شحذ الأذهان قميناً بأن يصرف في خدمة مسائل العلوم التي تحتاج إلى التفكير والحل.
ثانياً: كثرة الخلاف بين منهج البصريين الذين وضعوا قواعدهم في النحو على أساس القياس، والجمع بين النظائر في الاستعمال، وتأويلهم ما ورد من نادر كلام العرب على خلاف ذلك، ومنهج الكوفيين الذين اعتمدوا كل ما ورد من كلام العرب باعتباره أصلاً معتبراً عندهم في الاستعمال. فذكروا لذلك الشواهد التي تحضرهم في كل مسألة خلافية بينهم وبين البصريين. وقد كان الخلاف شديداً وحاداً بين أنصار المذهبين. فكان أبو حيان الأندلسي، كما قال ابن الخطيب، حاملَ لواء سيف النصرة للدفاع عن نَحْوِ البصرة، وكان ابن مالك الأندلسي أيضاً أقلَّ حدّة منه ولكنه الحكم والعدل بين الفريقين. فناله لذلك من أبي حيان شديدُ الإذاية كلما ذكره في كتبه. ولو تُرك التعرّض لمثل هذه الخلافات إلى المطوّلات، وإلى المراحل العالية، وجرّدت منه كتب التعليم لاستقام أمر تكوين الطلاب وإكسابهم العصمة في اللسان والقدرة على البيان.
ثالثاً: الاستناد في تقعيد القواعد لدى المتأخّرين من النحاة، على التمثيل لها بصيغ مصنوعة أو أبيات وشواهد منحوتة أو موضوعة. وقد نجم عن الأولى إقصاء الأذواق، في تكوينها وصقلها عن الاستعمال العربي، وترتَّب على نوعي الشواهد المصنوعة والمذكورة خطأٌ في استنباط القواعد، لأن الأبيات الواردة من ذلك أكثرها موضوع أو منحوت. وهو ما شهد به المؤرخون للغة العربية وآدابها حين أثبتوا انتحال الأشعار، ووضع خلف الأحمر الكثير
منها. وأمثال هذه الأبيات تقصر عن أن تكون أساساً لبناء القواعد عليها، لأن ذلك لا يُعتمد عليه إذا لم يكن ممّا جرى به كلام العرب حقاً. والتقعيد إنما هو لكلام العرب لا لما انتحله الرواة.
ومن الخطأ في استنباط القواعد من اللحن ما أوردوه من الأمثلة:
1 -
مكرهٌ أخاك لا بَطَل، في لغة من يلتزم الألف في إعراب الأسماء الخمسة. وهذا باطل قد ردّه الجاحظ في البيان والتبيين وعده لحناً (1).
2 -
قول الشاعر الحماسي:
كذاك أدِّبْتُ حتى صار من خلقي
…
أنّي وجدت ملاكُ الشيمة الأدبُ (2)
ففي ظاهر البيت إلغاء لعمل أفعال القلوب عند التقديم، وهو ما يحملهم على تقدير ضمير الشأن أو لامِ الابتداء لتصحيح الكلام.
(1) من قول نَعامة وهو بيهس رجل من بني فزارة بن ديبان. عده الجاحظ من النوكي. البيان والتبيين: 4/ 17. وفي رد لغة من لزم الألف في الأسماء الستة قال الجاحظ: ومتى وجد النحويون أعرابياً يفهم هذا وأشباهه [مكره أخاك لا بطل] بهرجوه ولم يسمعوا منه، لأن ذلك يدل على طول إقامته في الدار التي تفسد اللغة وتنقص البيان. البيان والتبيين: 1/ 162، 163.
(2)
البغدادي. الخزانة: 9/ 139، 142، 10/ 335؛ الشنقيطي. الدرر اللوامع: 2/ 257؛ السيوطي. الأشباه والنظائر: 3/ 3؛ ابن هشام. أوضح المسالك: 2/ 65؛ ابن هشام. تلخيص الشواهد: 449؛ الأشموني: 1/ 160؛ خالد الأزهري. شرح التصريح: 1/ 258؛ المرزوقي. شرح الحماسة: 1146؛ ابن مالك. شرح عمدة الحافظ وعدّة اللافظ: 249؛ ابن عقيل: 221؛ العيني. المقاصد النحوية: 2/ 411، 3/ 89؛ ابن عصفور: المقرب: 10/ 117؛ ابن مالك. همع الهوامع: 1/ 153.
وإنما وقعوا في ذلك لأنهم نقلوا البيت مفرداً عن سابقه وهو:
أُكَنّيه حين أناديه لأُكرمَه
…
ولا أُلقِّبه، والسوأةَ اللقبا (1)
وقد جعل ابن جني في شرحه للحماسة الرفع أحد روايتين.
قال الشيخ ابن عاشور: "وهو بعيد عن معنى البيت الأول"(2).
3 -
قول الشاعر:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة
…
تغنّت على ورقاء خُضرٍ قيودُها
بكسر خضر. ومن فساد التقعيد الخطأ في الإعراب، كالإعراب الناشىء عن سوء الفهم حين احتجوا بهذا على ثبوت إعراب المجاورة. وهذا ليس صحيحاً لأن خضر المكسورة مع كونها وصفاً لحمامة ينقضه وقوع الموصوف لورقاء واحدة الورق به أي الحمام، ويمكن أن يعتبر "خضرٍ" صفة لورقاء بمعنى الشجرة، والقيود الأغصان على تشبيهها بمقيّد في سلاسل.
* * *
(1) المرزوقي. شرح الحماسة: 1146؛ العيني. المقاصد النحوية: 2/ 411، 3/ 89؛ البغدادي. الخزانة: 9/ 141؛ الأشموني: 1/ 224.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: 222.