الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي بيان هذه الأحكام وتقريرها في تفسير الإمام التحرير والتنوير ما يبطل تأوّلات المخالفين، وتقولات الملفّقين، ويدفع المؤمنين إلى الالتزام بشرع الله والعمل بكتابه وسنة رسوله (1).
7 - حكم التجنس أو فتوى التجنيس
التجنّس: الحصول على جنسية، وأصله فهو مطاوع للأول، والتجنيس والجنسية هي الصفة التي تلحق بالشخص من جهة انتسابه لشعب أو لأمة.
وحكم التجنس، أو فتوى التجنيس، قضية شاعت في البلاد التونسية وشغلت الناس كلهم بداية من العقد الثاني للقرن العشرين. وسببها في حقيقة الأمر موقفان متناقضان متدافعان: موقف المحتل الأجنبي الفرنسي، وموقف المناضل المكافح التونسي.
يدعو الأول إلى تكثير سواده في البلد بإدخال العناصر الكثيرة المتساكنة بتونس من إيطاليين ومالطيين ويهود وغيرهم في جنسيته ليكونوا فرنسيين، وفي صفه. ويفتح الباب على مصراعيه لتحويل السكان الأصليين العرب عن قوميتهم والإنعام عليهم بجنسية الحاكم المغتصب. وشرعت لهذه الغاية قوانين التجنس: الأول الصادر بتونس في 3/ 10/ 1910، والثاني المؤرخ في 20/ 12/ 1920. ثم محاولة التجنيس بصفة أوسع وأشمل في 1933 للسيطرة على كل المؤسّسات والهيئات النيابية وبالزيادة الملموسة في مرتبات حاملي الجنسية الفرنسية بتونس من أصحابها ومن الملحقين بهم.
ويتولّى الثاني الدفاع عن بلده والذود عن حوضه وبذل كل الوسائل
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 4/ 222 - 229.
واستخدام كل طرق المقاومة والكفاح من أجل أن يبقى وطنه محافظاً على هويته، متميزاً بقيمه وعاداته وتقاليده، وعقيدته وشرعه ونظامه، غير قابل للاستلحاق ولا للذوبان في الغير مهما كان هذا الغير.
وسبق كل تدبير كيدي من الفئة الأولى ما روّجته الفئة الثانية عن المتجنس من كونه مفارقاً للجماعة، فاراً من الأحكام الشرعية إلى الأحكام الأجنبية، مرتداً عن الإسلام، لا ينبغي أن يعامل معاملة المسلمين ولا أن يدفن في مقابرهم.
وحين أيقن الفرنسيون بقصورهم عن تحقيق رغبتهم والوصول من وراء قوانين التجنيس إلى هدفهم قرروا استعمال الحيلة. وجرت مشاورات بين المقيم العام ممثل فرنسة، والباي حاكم البلاد، والوزير الأكبر للحكومة التونسية. وتقدم الجانب الفرنسي عن طريق الوزير الأكبر باقتراح استصدار فتوى في التجنيس من المجلس الشرعي بقسميه الحنفي والمالكي تسهيلاً لإقبال التونسيين على الدخول في الجنسية الفرنسية. ونص السؤال المطروح على المجلس الشرعي:
إذا اعتنق شخص جنسية يختلف تشريعها عن أحكام الشريعة الإسلامية، ثمّ حضر لدى القاضي الشرعي ونطق بالشهادتين، وأعلن أنه مسلم، وأنه لا يرتضي غير الإسلام ديناً. هل يحق له طول حياته أن ينتفع بنفس الحقوق والواجبات التي يتمتع بها المسلمون؟ وهل يحق له بعد وفاته أن تُصلى عليه صلاة الجنازة، وأن يدفن في مقبرة إسلامية؟
ما من شك في أن هذا السؤال قد تسرّب إلى أوساط كثيرة، ولمّا تقعِ الإجابة عنه من طرف فقهاء الشريعة، وقد أثار مع الغموض إشاعات عديدة منها: أن الحكومة (الفرنسية) ضغطت على المجلس الشرعي لإصدار فتوى موالية للمتجنسين ولفائدتهم، كما حملت الأنباء
صحفَ المعارضة الصادرة يومئذٍ بالفرنسية: العمل التونسي، وصوت الشعب، وصوت التونسي، على إطلاق صيحة الفزع منذرة بأن الجنسية التونسية أصبحت مهدّدة بالخطر، وأن عملية التجنيس سوف تستشري بسبب ما روّجته العامة من احتفاظ المتجنّسين بحقوقهم كمسلمين.
ومن ثم استطاعت الصحف الوطنية بواسطة الحملة الصحفية التي نظمتها إثارة الرأي العام التونسي، وبث روح المناهضة للمسلمين المتجنسين بصورة تكاد تكون جماعية. ومثل هذه الحملة التي أُسقط بها ما بأيدي الفرنسيين، وقضت بالانتصار عليهم، قد مسّت بشدّة وعنف أعضاء المجلس الشرعي، وبخاصة الإمام الأكبر، لترويج المعادين له والمتحاملين عليه بأنه كان متعاوناً مع الاستعمار وموالياً له في قضية التجنيس. وربما كان في مثل هذا التصرّف تخييب لآمال المستعمرين بما نتج عن هذا الموقف العدائي من فجوة عميقة وبُعدِ شقّة بين الأمة وقادتها العلماء، فلا ينفع المستعمر بعد ذلك الالتجاء إليهم، أو سدّاً لطريق انزلاق الفقهاء وراء استفتاء الإقامة العامة بما يعزّز موقفها ويكون حرباً على الحركة الوطنية وأصوات المعارضة.
وجدَّت أحداث كثيرة فحيل بين المتجنسين وبين دفن موتاهم في مقابر المسلمين. وكان الإضراب العام الذي أغلقت بسببه الأسواق والمحلات التجارية يوم 14/ 12/ 1351 الموافق 8/ 4/ 1933، احتجاجاً على ما تخيّلوه أو توقّعوه من صدور فتوى التجنيس أو فتوى توبة المتجنس عند المجلس الشرعي. وكان إضرابُ طلبة الجامع الأعظم عن الدروس. وانتشر الاستنكار الشعبي في أطراف البلاد، وتظاهرت جماهير المواطنين أمام قصر الباي بحمام الأنف إعراباً عن استيائها من فتوى التجنيس.
وتضاربت السياسة الوطنية ودارُ الشرع بسبب ما لفّق من أخبار
وادعي من تصرّفات لم تكن قائمة إلا في أذهان المتوهّمين والحمقى من الناس. وكادت تستعر نار الفتنة بين أفراد طبقات الشعب. وتحوّل الصراع فيما بين المستعمر والمواطنين إلى ما كاد أن يقضي على وحدة الشعب وتماسك طبقاته وأفراده. وما هي إلا فترة حتى رفع الحجاب عن حقيقة تلك الفتوى، وظهرت للتونسيين فتوى عامة تحملُ في سطورها ونصوصها مواقف التأييد والمناصرة للشعب، والرفض لما كان يلتمسه المستعمر من الشيوخ من تيسير التجنيس وتسهيل أمره، بضمان حقوق للمتجنسينَ قد تنازلوا عنها بتجنّسهم وابتغائهم الانتساب إلى أمة غير أمتهم ووطن غير وطنهم.
وشاهدُ ذلك أولاً ما أجاب به فقهاء الحنفية بالإثبات في جواب مختصر على صيغة الاستفتاء المذكور أعلاه. واختلفت فتوى الدائرة المالكية عن فتوى الدائرة الحنفية إذ أضافت إلى وجوب النطق بالشهادتين لدى القاضي الشرعي التصريحَ في الوقت نفسه بأن (المتجنس) يتخلّى عن الجنسية الجديدة التي اعتنقها. وتضيف فتوى المالكية في تقرير مونصورن: ولا يهم كثيراً بعد ذلك لو احتفظ بالجنسية التي اعتنقها وبقي خاضعاً لقوانينها إذا ما تعذر عليه التخلّص منها. وزاد أحد أعضاء المجلس الشرعي من المالكية: ينبغي أن تتمثل توبة المتجنس في الإقلاع عن الامتيازات التي تحصّل عليها بموجب جنسيته الجديدة.
وعقَّب صاحب التقرير على هذين النصين من فتوى الأحناف وفتوى المالكية بقوله: لكن فتوى المالكية تجعل من المستحيل الإقدام على نشرهما. وفي هذا تبرئة للعلماء مما ألحق بهم، وتجنيب لهم مما وُصِمُوا به. وهذه شهادة من خَصمٍ لم يتمكن من الاستفادة من فتوى التجنيس أو ردة المتجنس، فأسرّها ولم يعلنها إلا في