الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولظن عدد من القراء أن الفتوى الثانية تتصل بالأولى، وفي موضوعها، وأنّها أو بها تعديل لأحكامها، أحببنا الجمع بينهما مع اختلاف زمني وقوعهما، لبيان تغايرهما موضوعاً وحكماً.
الفتوى الأولى:
عند التأمل نجد الإمام الأكبر قد مهّد لفتواه هذه بتقدير ما يقع الناس فيه من جدل وحيرة. فحسَم الأمر بأن فصلَ القول في ذلك حتى تكون فتواه علمية شرعية. وهذا ما عناه في بداية إجابته من قوله: إن هذه المسألة قد كثر فيها خوض الخائضين وتخليط الناظرين، يخلطون بين مختلف الأقوال، ومختلف الصور والأحوال. وإنما الفتوى إجادة التنزيل لا كثرة القال والقيل.
ولبناء فتواه على أسس ثابتة مرعية، وقواعد واتجاهات حكمية وفقهية، ذكر أولاً ما بين طرق ثبوت الأمور الشرعية في العبادة والمعاملة من اختلاف مع طرق ثبوت الأمور العادية. ولبيان ذلك قدم لنا صوراً وأمثلة تشهد لهذا الاختلاف، ولأن الأمر كما قيل في العاديات مطلق، وهو في غيرها محصور ومقيّد.
فطريق ثبوت أوقات الصلوات أذان المؤذنين وإخبار المؤقتين.
وطريق ثبوت نجاسة الماء إخبار رجل أو امرأة موصوف بالعدالة. وطريق ثبوت شهر الصيام أو الفطر الشهادة برؤية الهلال ليلة ثلاثين من الشهر السابق، إذا كان الرائي رجلين عدلين أو جماعة مستفيضة، أو بإكمال الشهر السابق ثلاثين يوماً.
وطريق ثبوت الحقوق يكون بشهادة عدلين، وشهادة عدل
وامرأتين فيما يرجع للمال. إذا لم يوجد إلّا رجل عدل واحد.
وطريق ثبوت العيوب إخبار من له معرفة بها، وإن لم يكن عدلاً.
ولتأكيد ما ذهب إليه من التفريق بين الرواية والشهادة يقول إثر هذا: وقد يحصل الاطمئنان لطريق من طرق الثبوت العادية، ولا يجزىء ذلك الطريق في الأمور الشرعية، لأن الشريعة عيّنت لأسباب ثبوت التكاليف طرقاً خاصة، رعْياً لأهميتها، ولما يترتَّب عليها من المصالح. فلا يجوز لنا أن نتعداها بقياسها على الأمور العادية.
وعَقِب هذا التفريق الدقيق بين طريق الرواية وطريق الشهادة أشار الإمام إلى اختلاف أئمة الفقه في وجوه طريق ثبوت رمضان. والمشهور من مذهب مالك وعامة أصحابه، ما عدا ابن الماجشون، أن طريق ثبوت رمضان من قبيل الشهادة. وهو وإن كان فيه شائبة الرواية وشائبة الشهادة فقد غلب عليه عند مالك شائبة الشهادة لأدلّة من السنة الصحيحة (1)، ولمراعاة إجراء أمر المسلمين على انتظام في القطر الواحد وفي سائر الأقطار بقدر الإمكان، ولاتقاء تعريض عبادتهم إلى ظهور ما يناقضها من تبيّن كذب المُخبر أو توهُّمه. ويترتب على كون قبوله من طريق الشهادة أن لا يكون ثبوته بواسطة القضاة، وأن يكون ثبوته بواسطتهم شبيهاً بالحكم الرافع للخلاف. وكون هذا الأمر قابلاً لتعيين العمل بأحد المذاهب من قبل السلطان هو من قبيل تخصيص القضاء بمذهب معين. وعلى هذا جرى الأمر بتونس، إذ أسندت مهمة ذلك من أمر الصوم والفطر إلى قاضي
(1) القرافي. الفروق: 1/ 204.
الأهلّة بها، وهو قاضي المالكية. وطريق ثبوت الشهر لديه، إذا لم يكن على كمال ما قبله، رؤيةُ المكلف بمراقبة الهلال، أو إخبار رجلين عدلين برؤية هلال رمضان ليلة ثلاثين، أو شهادة مستفيضة وإن لم يكونوا معروفين بالعدالة. وثبوت دخوله عند القاضي المالكي موجب للثبوت العام لما قدمنا. وثبوت رمضان شرعاً نوعان: ثبوت عام وهو الأغلب، وثبوت خاص وهو النادر، وطريق الثبوت العام يحصل بثلاثة وجوه:
1 -
حصوله بشهادة عدلين أو جماعة مستفيضة عند القاضي برؤية الهلال كما قدمنا.
2 -
حصوله بخطاب قاضي بلد آخر إياه بثبوت رؤية هلال رمضان عنده، إذا توفّرت في ذلك شروط خطاب القضاة.
3 -
حصوله بنقل ناقل للقاضي أن الشهر ثبت في بلد آخر حضره الناقل.
وهذان الوجهان الأخيران مبنيَّان على القول بأن ثبوته في موضع يعمُّ سائر الأقطار إذا نقل إلى قضاتها، وهو المشهور.
وإن كان الناقل ناقلاً عن رؤية عدلين فلا بد أن يكون الناقل عدلين أيضاً، اتفاقاً بين رجال المذهب، لأنه من باب نقل الشهادة.
وإن كان الناقل ناقلاً عن شهادة مستفيضة فقد اختلف علماء المذهب فريقين:
ذهب الشيخ أبو عمران الفاسي وابن رشد الجد وخليل وبهرام وابن فرحون إلى أنه لا بد أن يكون الناقل للقاضي عن المستفيضة عدلين، إلا إذا وجّه القاضي من تلقائه عدلاً يستكشف له الخبر عن ثبوت الشهر في بلد ما، فحينئذٍ يعمل القاضي بخبره، ويثبت بها الشهر ثبوتاً عاماً.
وذهب أحمد بن خالد بن ميسر إلى قبول العدل الواحد في الشهادة المستفيضة، ويثبت به الشهر عند القاضي، وهو اختيار ابن أبي زيد وابن يونس والباجي لاعتبارهم إياه مخبراً لا شاهداً أو ناقلاً للشهادة.
وإن كان الناقل نَقَلَ ثبوت الشهر عند قاضي بلد آخر فحكمه كحكم النقل عن الشهادة المستفيضة قولان.
والذي به العمل ويجري على القواعد، قول الفريق الأول.
وأما طريق الثبوت الخاص فيحصل بالوجه الثالث من الوجوه الثلاثة المتقدمة. لا يخالف في ذلك غير ابن رشد الذي يرجح الاكتفاء بالعدل الواحد على ما ذهب إليه ابن ميسر وموافقوه.
ويترتب على التفاصيل المذكورة لزوم عرض الإخبار بالتليفون على قاعدة ثبوت الشهر شرعاً فلا نجريه على اعتيادات الناس في مخاطباتهم العادية. فإن كان الإخبار بالتليفون وارداً إلى قاضي البلد الذي لم ير فيه الهلال فإن كان المخبِر قاضياً، وكان المخبَر قد تحقق صوته، أو اصطلحا على علامة بينهما لم يطلع عليها غيرهما، ثبت الشهر في هذه الصورة بهذا الخطاب التليفوني. وكذلك إن كان المخبِر نائبَ القاضي المخبَر كقضاة الكور لقاضي الجماعة. وإن كان المخبِر غير قَاضٍ ولا نائباً عن المخبَر اشترط في قبوله لدى القاضي المخبَر أن يكون خبر عدلين معروفي العدالة لدى قاضي الجماعة المخبَر، وأن يكون إخبارهما بصريح الشهادة بكونهما سمعا من العدلين أو من المستفيضة أو من القاضي الذي ثبت لديه الشهر.
وكما يثبت الشهر عند القاضي بخطاب قاضٍ آخر بالتليفون يثبت عند نواب القاضي، وعند كل من له ولاية تخوّله الإعلان بثبوت