الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسداها، وارتدينا حلّة فخر هو الذي نسج لُحمتها وحاك سَداها" (1).
وتحقق بحمد الله لحركة الإصلاح ما أمّلَته، وبذل الأساتذة والطلاب وكثير من رجال الفكر وسراة البلاد وكذا المؤسسات والجمعيات أقصى ما في الوسع من قدرات للوفاء بما في الذمة، وبما عاهدوا عليه الله، من تطوير التعليم الزيتوني، تأصيلاً وتعصيراً، حتى أصبحت الجامعة الزيتونية مضرب المثل، والأنموذج الذي على المؤسسات العلمية في الداخل والخارج أن تتبع خطاه وتسير على أثره.
التعاون العلمي والعملي بين الزيتونة والخلدونية:
ولاحظنا في مجال التعاون والتناصر كيف مضى الجامع الأعظم وفروعه تساعده الجمعية الخلدونية بتونس على تذليل الصعاب، وتوفير أسباب النجاح لتطبيق الإصلاح في زمن قصير.
وبعد أن كان المعهد القومي الإسلامي العلمي متمثلاً في الزيتونة التي تتكوّن من الجامع الأعظم والجامع اليوسفي بتونس، ومن خمسة فروع لها داخل الإيالة لا يزيد عدد طلابها على ثلاثة آلاف من المرسَّمين في التعليم الزيتوني بمختلف درجاته المتوسطة والثانوية والعالية، ظهر إقبال كبير وحرص شديد على الانتساب لهذا المعهد، والنهل من منابعه بفضل ما أحدثه رئيس الجامعة الزيتونية من فروع، وما أثاره من كوامن العزائم، وصادق المشاعر. وتضاعف عدد الفروع إلى خمسة وعشرين فرعاً بين الحاضرة وأطراف المملكة من بينها فرعان لتعليم البنات، وامتدت هذه الفروع الزيتونية إلى قسنطينة والجزائر، ونما عدد الطلاب فبلغ العشرين ألفاً.
(1) المجلة الزيتونية: مجلد 6، 498.
وتكونت في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي بالزيتونة شعبة العلوم العصرية 1951 لتدريس اللغات والرياضيات والطبيعيات والتاريخ والجغرافيا والفلسفة باللغة العربية. فكانت النتائج الباهرة والمسابقة الشريفة العلمية بين مدارس الدولة الرسمية وجامع الزيتونة بشعبتيه الأصلية والعصرية. وخصصت للمواد الجديدة جملة مراكز. والْتَحَقَ بالزيتونة لتدريس المواد العلمية المعاصرة بها مدرسون من أساتذة التعليم الثانوي بالمدارس الرسمية التابعة لإدارة العلوم والمعارف، ودعا الأساتذة من مختلف الجامعات في المشرق للتعاون مع الزيتونة، والإسهام في نهضتها العلمية المباركة، وتكوّنت من خريجي الشعبة العصرية إرساليات لاستكمال تخصّصاتها بجامعات القاهرة وبغداد ودمشق، وكذلك بفرنسة وموسكو.
وبعد أن كانت الخلدونية منذ نشأتها مؤسسة ثقافية شعبية حرّة، بها عدة فصول، يُدرّس فيها لطلبة الزيتونة، من المرحلة الأولى للتعليم الثانوي، ما كانوا يحرصون على استكماله من مبادىء العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخ والجغرافيا واللغات الحية. ويحصل المتخرّجون منها على شهادة التحصيل في المعارف العملية. كانت بهذه الجمعية قاعة كبرى للمحاضرات ومكتبة عامرة تزخر بأجود الكتب والدوريات العربية والفرنسية، تمّ انتقاؤها واقتناؤها للرقي بمستوى روادها، وتزويدهم بما يحتاجون إليه من دراسات وبحوث، تتسع بها مداركهم، وتنمو بها ملكاتهم ويكتسبون عن طريقها رأياً وفكراً وأدباً وعلماً، مع ما يتلقاه الكثير منهم من محاضرات بها، تغرس في نفوسهم العزم والإيمان ببلوغ أسنى المراتب وتحقيق أشرف المقاصد، وتدفع بهم قدماً إلى التجديد والإصلاح متأثرين بأعلام النهضة الفكرية ودعوتها.
وفي سنة 1366 - 1947 بعد أن أسندت رئاسة الجمعية الخلدونية للعلامة الراحل الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور نجل الإمام الأكبر ولسان الدعوة الإصلاحية، اندفعت الخلدونية في سير حثيث ممهَّدة ومواكبة لكل مظاهر التطور في جامع الزيتونة الأعظم. وقدّر رئيس الجمعية الخلدونية الدور الذي يمكن أن تضطلع به هذه المؤسسة، فاتخذ من فصولها معهداً للتعليم الثانوي المعاصر تدرّس به كل المواد العلمية باللسان العربي، ويكون التخرّج منه بالحصول على شهادة الباكالوريا العربية (1). ومن خريجي المدرسة الخلدونية الحاصلين على هذه الشهادة تكونت ثلة من الأساتذة المساعدين للتعليم بالشعبة العصرية بالمعاهد الزيتونية، وكانت من خريجيها العناصر الأولى للإرساليات العلمية التي توزعّ أفرادها بين الجامعات الشرقية والغربية، كل حسب تخصصه ومؤهلاته، وما يرغب في التخصّص فيه من فروع العلم على اختلافها.
واتخذ رئيس الجمعية الخلدونية من القاعة الكبرى للجمعية مقرًّا لمعاهد ثلاثة هي: معهد البحوث الإسلامية، ومعهد الحقوق العربي، ومعهد الفلسفة. ولئن احتجب المعهدان الأخيران بسرعة لوجود المراكز العلمية المنافسة لهما؛ فإن معهد البحوث الإسلامية الذي تمّ تأسيسه في ربيع الأول 1365/ يناير 1946 قد عمل جاداً بمحاضراته الثلاث الأسبوعية على مدى خمس سنوات لتحقيق الغاية من تأسيسه التي تضمَّنها نظامه. وهي بعث الروح الثقافية الإسلامية، وقيادة
(1) وجد هذا الأمر، بعد تخرج الطلائع الأولى من الحاصلين على الباكالوريا العربية، تهديداً من وزارة التعليم والمعارف بسحب رخصة الجمعية الخلدونية، لأنه لا يسمح لمؤسسة شعبية حرّة أن تمنح خرّيجيها شهادة تحمل نفس اسم الشهادات التي تمنحها المدارس الحكومية الرسمية.
أهليها إلى الشعور بوحدة العالم الإسلامي وعظمته، والوقوف على حقائقه الوجودية، وتكوين الاستعداد لدراسة حرّة لا تتأثر بالظروف العارضة ولا بالتيارات الخارجية، وإنما تستوحي سيرها من المعارف التاريخية والجغرافية المستندة إلى الأصول الصحيحة المتمشية مع روح الجامعة الإسلامية الكبرى (1).
وهكذا اختلف الوضع، وبرزت النتائج، وانعكست آثار ذلك على الروح الشعبية. وتعاظمت همّة الأسرة الزيتونية من مشيختها وأساتذتها وطلابها تشاطرُها الخلدونية اهتماماتها وانتصاراتِها، وتقاسمها مفاخرها وابتهاجاتِها. وسرعان ما استكمل التعليم الزيتوني ببلادنا عناصره الأساسية من تلقين للدين، وإلمام بمصادره، وتعمق في علومه، وغوص على مقاصده، مضيفاً إلى ذلك ما يتأكد الإلمام به من معارف وعلوم ومواد ضرورية تعين على مواكبة العصر، وتفتح الآفاق أمام الخريجين، وتمكّن طلبة الجامع الأعظم من الإسهام في المسيرة الثقافية العلمية إسهاماً يضمن لجامعتهم أن تكون مستقراً ومركزاً لمقوماتنا الذاتية القومية من جهة، ومجالاً للعناية بالمواد المعروضة لا المفروضة من علوم العصر من أجل بناء المستقبل وإيجاد التوازن ودعم وتوطيد النهضة المباركة في ربوعنا.
وقد توّج هذه الجهود العظيمة والمسيرة القويمة، مؤتمر الثقافة الإسلامية الذي عقدته الخلدونية بتونس في ذي القعدة 1368/ سبتمبر 1949 ودعت إليه من أطراف العالم الإسلامي علماء ومفكرين وكتّاباً ومندوبين عن الجامعات والمنظمات الثقافية الإسلامية (2)؛ فكان
(1) محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الأدبية: (2)222.
(2)
محمد الفاضل ابن عاشور. الحركة الأدبية: (2) 224 - 225.
لنجاحه الأثر الكبير في نفوس المواطنين، وفي نفوس رجال الفكر والعلم الإسلامي، مما دعا أحد كبار شعراء مصر بعد فترة من الزمن أن يشيد في بعض قصائده بهذه المعاني قائلاً:
قم كرّم الزيتونة العظمى وقل
…
لَيكادُ يشرق في حماك حراء
* * *
كم طاهر أو فاضل ملأوا الدنا
…
عِلماً تقصَّى خطوَه الفقهاءُ
فإذا بفيضهم الصدور حفيلةٌ
…
وإذا بنورهم العقول وِضاءُ
يا أخت أزهرنا الشريف سلمتما
…
قُدْسَين تقصُر عنكما الغماءُ
تحميكما وتشدُّ من أزريكما
…
يَس والفرقان والإسراءُ
وقد زاد من التفاف الناس حول الزيتونة ما قامت به هذه المؤسسة على مدى ألف وثلاثمائة سنة من الحفاظ على المقومين الأساسيين للملة: الدين الحنيف واللغة العربية، وما كان من انتشار فروعها في الآفاق وتعهدِ الإمام الأكبر بمراقبتها وتغيير أوضاعها ورفعها إلى المستوى اللائق والمطلوب، لتصبح منارات هداية ومنابع علم ومعرفة؛ ثم توزع أبناؤها وخريجوها بين طبقات الشعب كلها معلمين، وفقهاء ومدرسين، وقضاة ومحامين، وتجاراً وفلاحين، وأصحاب صناعات، حتى إنك لا تكاد تجد بيتاً من البيوت في تونس أو غيرها من العواصم والمدن والقرى إلا وله نسبة أو أدنى نسبة بذلك الجامع الأعظم تربطه به وتشدّه إليه.
وتوغل التونسيون في النزعة القومية في أعقاب الحرب العالمية الثانية بفضل قيام الجامعة العربية. ونما الشعور لديهم بوجوب العمل من أجل إقامة الجامعة الإسلامية. وبدأت مظاهر ذلك ودلائله، فانفصلت الحركة السياسية التونسية عن التبعية للحزب الاشتراكي الفرنسي، وقامت الحركة الوطنية في أوجها مستقلة، يسندها ويدعو
لدعمها رجال الزيتونة وطلابها. وشارك الشيوخ في مؤتمر ليلة القدر، وأفلتت قيادة الحركة النقابية من أيدي الاشتراكيين والشيوعيين، وقامت جامعة الموظفين التونسيين متميزة بمكتبها ونظامها ورجالها وأهدافها. وأقام العمال حركتهم بتكوين الاتحاد العام التونسي للشغل في رحاب الزيتونة وبقاعة المحاضرات للجمعية الخلدونية. وتوجّس المستعمرون وأعداء الفكر الإسلامي خيفة من هذه التطورات، وجمعوا لذلك مكرهم وكيدهم للإيقاع بهذا التوجه القومي العارم، وهذه الروح الإسلامية القوية العتيدة.
وحين تميّزت الزيتونة في هذه المرحلة بالتعليم العالي الديني الإسلامي، مثل سائر كليات الجامعة المتعددة والمختلفة التخصّصات، تكوّنت لذلك الجامعة الزيتونية وأسندت إلى سماحة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور عمادة هذه الجامعة، واستمر على إدارتها أربع سنوات من 1956 إلى 1960. وبعد أن كان التعليم العالي بالزيتونة بالجامع الأعظم منقسماً إلى ثلاثة أقسام: شرعي، وأدبي، وقراءات، يتخرج منه الطالب بشهادة العالمية في الشعبة التي انتسب إليها طَوال سنيّ الدراسة الثلاثة، انتقل التدريس بالجامعة الزيتونية إلى مبنى كبير ذي فصول عديدة خارج المسجد، وتعددت كلياتها. فكلية الشريعة يقضي بها الطلاب سنتين، وفي الثالثة تنقسم إلى شعبتين: شعبة أصول الدين، وشعبة القضاء؛ وكلية اللغة العربية يقضي بها الطلاب سنتين، وفي الثالثة تنقسم هي الأخرى إلى شعبتين: شعبة الآداب، وشعبة اللغة، وكلية القراءات للتخصص في علوم القرآن والدراسات القرآنية تمتد الدراسة بها ثلاثَ سنوات أيضاً.
وقد اختير للجامعة بكلّ كلّياتها وشعبها نخبة من الأساتذة