الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعيار المقاربة في التشبيه الفطنة وحُسن التقدير. فأصدقه ما لا ينتقص عند العكس.
وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخير من لذيذ الوزن الطبعُ واللسان.
وعيار الاستعارة الذهن والفطنة. وملاك الأمر تقريب التشبيه في الأصل حتى يتناسب المشبه والمشبه به. ثم يُكتفى منه بالاسم المستعار لأنه المنقول عما كان له في الوضع إلى المستعار له.
وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدّة اقتضائهما للقافية طول الدربة ودوام الدراسة. فإذا حكما بحسن التباس بعضهما ببعض لا جفاء في خلالها ولا نبر، ولا زيادة فيه ولا قصور، وكان اللفظ مقسوماً على رتب المعاني قد جعل الأخص للأخص والأخس للأخس فهو البريء من العيب.
هذا عمود الشعر ومعاييره يضعه المرزوقي بين أيدي طلّاب الأدب ورواده. فلا يتأولونه بعد اليوم ضروباً شتى من التأوُّل تختلف معها تصوّراتُهم واتجاهاتُهم، وتتناقض معها آراؤهم وأحكامهم، وتضيع بها الحقائق العلمية والمدركات الفنية، فتنطمس بسبب ذلك مسالك الإبداع وطرقه وتنطفىءُ لوامع الأدب وروائعه.
النقاد ومذاهبهم:
وبقدر ما يعنى الباحث بالنظر في أسباب جودة الكلام ومحاسنه، وما يزداد به بهاء وجمالاً، يتعيّن عليه أن يكون قادراً على معرفة عيوب التأليف والنظم، مستشعراً لعلل الاختلال وأسباب الرداءة، كأن يكون اللفظ وحشياً أو غير مستقيم، أو غيرَ مستعمل في المعنى المطلوب، أو به زيادة أو نقصان يُفسد المعنى أو فاقدَ الالتئام بين أجزاء البيت في القَسم أو التقابل أو التفسير، أو بمعناه تناقض،
أو فيه خروج إلى ما ليس من مقتضى العادة أو الطبع، أو يكون الوصف فيه غير لائق بالموصوف، أو يكون في البيت حشو لا طائل فيه. وهكذا بإدراك الناظر الدقيق وإحساسه العميق ترتفع منازل الدارسين لفنون الأدب، وتتجلّى صفات الناقد الذي يُقبل نقده ويرتضى حكمه. ومن ثمة نعتوا صيارفة الكلام بعدّة أوصاف. فالناقد البارع كما نبّه إلى ذلك المرزوقي في مقدمته:
- هو من عرف مستور المعنى ومكشوفه، ومرفوض اللفظ ومألوفه فميَّزَ المعنى المبتدع الذي لم تقتسمه المعاوض، ولم تعتسفه الخواطر، ونظر وتبحَّر ودار في أساليب الأدب فتخيّر. وطالت مجاذبته في التذاكر والأبحاث والتداول والابتعاث. وبان له القليل النائب عن الكثير، واللحظ الدال على الضمير، ودرى تراتيب الكلام وأسرارها، كما درى تعاليق المعاني وأسبابها. إلى غير ذلك مما يُكمل الآلة ويشحذ القريحة.
فتراه لا ينظر إلا بعين البصيرة، ولا يسمع إلا بأذن النِّصفة، ولا ينتقد إلا بيد المعدِلة. فحكمه الحكم الذي لا يبدّل، ونقده النقد الذي لا يغيّر (1).
ومن هذا البيان المفصل، من كلام المرزوقي في النقد، يتحقّق لدى العلماء بفن القول وغيرهم أن أسباب الاختيار عند أهل الصناعة حقيقية لا وهمية.
وقد عزز الإمام الأكبر حقيقة الناقد هذه بما نقله عن الآمدي في موازنته من قوله: "وأنبّه على الجيّد وأفضله، وأبيّنُ الرديء
(1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 130.
وأرذله، وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التخليص، وتحيط به العناية، ويبقى ما لم يمكن إخراجه إلى البيان، ولا إظهاره إلى الاحتجاج. وهي علة ما لا يعرف إلا بالدُّربة ودائم التجربة وطول الملابسة. وبهذا يفضّل أهلُ الحذاقة بكل علم وصناعة مَن سواهم ممّن نقصت قريحته وقلّت دربته، بعد أن يكون هناك طبع فيه تقبّل لتلك الطباع وامتزاج، وإلّا لا يتم ذلك" (1).
ولعلنا نختم هنا أهم عناصر المقدمة بما ختم به المرزوقي مواضع درسه القائم على المقارنة والمفاضلة. وهو عنوانان:
(1)
سبب تأخر الشعراء مرتبةً عن الخطباء والكتّاب.
(2)
قلّةُ المترسّلين من الكتاب، وكثرة المفلِقين من الشعراء، ونباهة أولئك وخمول هؤلاء.
للجاحظ في ترتيب الشعراء مع الخطباء والكتاب كلامٌ نقله عن أبي عمرو بن العلاء. يفيد أن المنزلة الأولى في الجاهلية كانت للشعراء لفرط الحاجة إليهم. فالشعر يقيّد مآثرهم، ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم. ولكنّهم عندما كثروا واتخذوا الشعر مكسَبة، ورحلوا إلى السُّوقة وتسرّعوا إلى أعراض الناس، تدنّت منزلتُهم. وقال أهل النقد في ذلك: الشعر أدنى مروءة السَّرِي وأسرى مروءةَ الدنيء (2).
ومن أسباب تأخّر المنظوم عن رتبة المنثور:
1 -
ورود القرآن نثراً، وبه الإعجاز.
(1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 130.
(2)
ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 131.
2 -
احتياج الملوك في الجاهلية إلى الخطباء، وعدُّهم الخطابةَ أكمل أسباب الرئاسة، وأفضل آلات الزعامة.
3 -
قيام النثر مقام النظم لا العكس.
4 -
النثر يحتاج في محصِّله إلى آلات لا يقتضيها ولا يتطلّبها النظم.
5 -
ارتفاع منازل الكتاب إلى درجة الوزراء، وبقاء الشعراء دونهم. فلا تعلو درجتُهم عن رتبة المستعطين. فثبت بهذا فضل النثر على الشعر من عهد الجاهلية، وعززه الإسلام (1).
هذا وجوانب القول - في مقدمة المرزوقي وشرح الشيخ ابن عاشور لها - كثيرة فسيحة لا يُلمّ بها جميعِها هذا التقديم لشرح مقدمة المرزوقي. ويكون من الضروري أن نضيف إلى مَا قدّمناه بعض الإشارات الدالّة على أهميّة هذا الأثر البلاغي النقدي الأدبي. فالإمام الأكبر، بجانب ما عرضه من آراء بلاغية ونقدية، ترجم لعدد من الكتاب والشعراء، وأنزلهم منازلهم مثل أبي تمام صاحب الاختيارات، والصولي التركي الأصل ذي النثر البليغ والشعر الرقيق، وأبي علي البصير الفضل بن جعفر الكوفي الضرير المتميّز في فني النثر والنظم، والعتّابي الشاعر المجيد والكاتب البديع الترسّل (2).
كما ترجم لعبد القاهر الجرجاني وللحاتمي وللسكاكي، وتحدَّث عن أئمة الأدب والكتاب كابن الأثير، ونوّه بابن طباطبا الشاعر أحد دعاة المدرسة اللفظية، وذكر جملة من آثاره مع وصفه له بالفطنة وصحّة الذهن. ولم يُغفل في شرحه للمقدمة ذكر المبرد إمام العربية، والحسن بن رجاء الشاعر الكاتب، وابن أبي عيينة أحد
(1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 132.
(2)
ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 10، 19.
الشعراء المطبوعين (1).
ومن عناية المؤرّخين ورجال ديوان الإنشاء بالكتابة أن سجَّلوا في ذلك ملاحظات، ووضعوا مصنّفات واسعة في هذا الغرض، مثل خواطر الحريري في مقاماته، وكتاب القلقشندي صبح الأعشى، ونهاية الأرب للنويري.
وفي الجزء الثاني، المتعلق بقلة المترسلين ونباهتهم، وكثرة الشعراء وخمولهم، ينقل المرزوقي ومعه شارحه فقرات من كلام ابن الأثير.
كان تصوير ابن الأثير للفئتين على الوجه التالي: فقد قيل: ينبغي للكاتب أن يتعلّق بكل علم حتى قيل: كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه، وذلك لما يفتقر إليه الخواصّ من كلّ فن (2).
وفي مكان آخر من مَثَله السائر يقول: إن الكتابة تفتقر إلى سبعة أنواع من الآلات: هي علوم العرَبية، وعلم اللغة، وأمثال العرب، والاطلاع على تأليف من تقدّمه من أرباب الصناعة المنظومة والمنثورة، ومعرفة الأحكام السلطانية، وحفظ القرآن، وحفظ ما يحتاج إليه من السنة (3).
وهذا أمره واضح في مساندته للكتّاب وتقديمهم على الشعراء بما اكتساه من مبالغة وإسراف في عدّ العلوم التي يحتاج إليها الكاتب دون الشاعر، وبعض هذه الشروط مما كانت تحتاجه الصناعة في
(1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 30.
(2)
ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 140.
(3)
ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 140.
الدواوين. والحق أن الشاعر أيضاً يحتاج إلى قسم من هذه العلوم وإلى مثلها، كما فصل ذلك رجال النقد، وفي مقدّمتهم حازم القرطاجني في منهاج البلغاء في أقسامه الثلاثة: المباني والمعاني والأسلوب.
واستنتج المرزوقي من الواقع، ومن هذه الآراء المفصّلة الأغراض في مواضع من نهاية المقدمة، يسانده الإمام الأكبر: "لما كان الأمر على هذا صار وجود المضطلعين بجودة النثر أعزّ، وعددهم أغزر، [لصعوبة هذا الفن وشدّة الاحتياج إليه في مناحي الحياة ومختلف الدوائر. وقد وَسَمت الكتابةُ المترسِّلين بشرفها وبوأتهم منزلة رئاستها
…
] أما الشعراء فإن أغراضهم، وإن كانت رائعة للنفوس، ومرغوبة عند أهل الذوق السليم، لكنهم دون الكتاب لأن مرتبة هؤلاء مهيبة، وآثارهم عجيبة" (1).
وشارح المقدمة في كل قضية من قضايا النقد يبحثها، يروي عن هؤلاء وغيرهم كالجاحظ والخوارزمي من الأدباء الكتاب، وعن عدد من الشعراء والخطباء المتقدّمين، وعن طائفة من المولّدين أمثال أبي الطيب والمعري وابن زيدون فيحلل آثارهم، ينقدها مرّة، ويقارن في كل طائفة منهم بين مسالكهم ومناهجهم الفنية مرّة أخرى، مثبتاً مراجعه في هذا الغرض بما ينقله عن دلائل الإعجاز، والمفتاح، والبيان، والكامل، والمثل السائر، والمقامات، والعمدة، ونقد الشعر، والموازنة، والأغاني، وجمهرة أشعار العرب، وجمهرة الأنساب، وتاج العروس، إلى غير ذلك من كتب الأدب واللغة والبلاغة والنقد.
(1) ابن عاشور. شرح المقدمة الأدبية: 143 - 145.
وربما أضاف إلى هذا كله أخباراً ونكاتاً بلاغية نقدية كحديثه عن واقعة بعكاظ نقد فيها النابغة شعر حسّان، وعما عرض لوالي اليمامة في خطبته الوعظية من الضعف، وقصة عبد الله بن السمط مع المأمون، وقصة بشار مع رؤبة بن العجاج.
ولم يكتف بذلك، بل تجاوزه إلى بعض التعليقات العلمية والتفسيرية من بينها:
- تنبيهه على أن الإعراب ليس ما يتوقف عليه معنى الكلام، بل تتوقف عليه سرعة الفهم. وهو فن لفصاحة الكلام العربي.
- وضبطه لقبائل الخيل بقوله: قبائل جمع قبيلة، وهي من أربعين من الخيل إلى ستين.
- وملاحظته النقدية لبعض العروض حين قال: على أن بعض العروض في بعض الموازين لا يخلو من ثقل، مثل الضرب الثاني المقطوع من بحر المنسرح وهو:
مستفعلن مفعولات مستفعلن
…
مستفعلن مفعولات مفعولن
- نقله كلام الأخفش في القافية لجعله إياها الكلمة الأخيرة من كل بيت. وهو ما يتعارض مع إطلاقها عند علماء القوافي في بيان أحكام آخر البيت على الساكنين اللذين في آخر البيت مع ما بينهما من حروف متحرّكة، ومع التحرّك الذي قبل الساكن الأول.
- ضبطه لبعض الصيغ أو المفردات التي يعثر عليها في بعض النصوص التي يستشهد بها، كما في نقله لكلام الجاحظ في بيان المختار المستقيم من الألفاظ حين قال:"ومتى شاكل اللفظ معناه وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقاً ولذلك القدر لِفْقاً"، علّق على صيغة الكلمة الأخيرة بقوله: اللفق، بكسر اللام وسكون الفاء،
شقة من ثوب تضم إلى أخرى. يقال: لفَقَ الثوب، من باب ضرب، إذا ضمت شقة إلى أخرى بخياطتها. فاللِّفق، بكسر اللام، زنة فِعل بمعنى مفعول مثل ذِبح بكسر الذال.
- وشرح كلمة الرمضة بالأرض التي اشتدت حرارة مرعاها من شدة الرمضاء. وفي قولهم: "لا يرمضون" استعارة مكنية.
وتعدد شرحه للكلمات اللغوية، وبلغ ذلك نحواً من 106 موضع أوردها المرزوقي في - مقدمته - مثل: الوكد، والمجاذبون، والمدافعون، والاجتواء، والأعطاف، والأقدار، والمطرح، وبعضها استعمالات تحتاج إلى بيان. مثل: جارَيتني، وعلى اتساعها، وتعطيك مرادك، وثالثة وهي جملة المصطلحات البلاغية والنقدية كالأتيّ، والأبيّ، والمقصّدات، والأسلوب، والمترسلون، والمفلقون، والأرداف، والتصاريف. والطبع، والفِقر، والغرر، والإغفال، والإعطال، والمطبوع، والمعارض، والإطباق، والمناسب، والمناصب، والمصنوع، ونحو ذلك. وهذا المعجم الصغير الموزعة مفرداته أشتاتاً أثناء شرح الإمام لمقدمة المرزوقي يثير أهمية عند الباحث، ويوطىء به الشارح على عادته لإيصال المعاني للقارىء والسامع بأسرع طريق، وأدق أسلوب. ولعل الدافع إلى ذلك دقّة الاستعمالات اللغوية، وشرح ما أغلق من الكلمات، وضبط جملة من التصرّفات القولية، وتحديد العديد من المصطلحات التي يحتاج إليها الدارس والمتأدِّب في مجالات البلاغة والنقد.
* * *