الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أصول العقيدة التي هي القاعدة الأولى من قواعد الإسلام. ونفي أن تُبنى عزائمه من واجباته ومحرماته على مراعاة الأوهام، مقراً بأن هناك مجالاً آخر لمجاراة الوهم، وهو كل مجال فيه حقائق خفية يتعين استحضارها، ولا وسيلةَ إلى ذلك إلا بضرب من التوهم" (1).
والقضية الكلامية التي أردنا أن نشير إليها في كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام أدرجها المؤلف في فصل إصلاح العمل، أثناء تفصيله القول في الإيمان والاستقامة.
متعلقات الأعمال:
وقد جعل الإمام أعمال العاملين جارية على حسب معتقداتهم وأفكارهم. ونبّه إلى أن أهل الأديان في غابر الزمان أخطؤوا معرفة حقيقة مصدر الأعمال. فذهبوا مذاهب كثيرة في مسألة ترتيب الثواب والعقاب على حال أهل الدين في امتثالهم لأوامره واجتنابهم لنواهيه. وسرى هذا إلى المسلمين من بعد، وفشا الخطأ في هذه القضية لشبهتين: إحداهما عقلية، وهي محاولة تحكيم العقل في تعلّق إرادة الله بإيجاد الأشياء وأحوال الأشياء. والشبهة الثانية نقلية تتمثل في تلقّي النصوص الواردة في الكتب المقدّسة الدالة على عموم قدرة الله، وإرادته وعمله، والنظر فيها نظرة حمقاء.
وهكذا اختلف إثر ذلك أهلُ الملل، في قضية أعمال البشر والجزاء عليها، اختلافاً مَرجعه اختلاف ثلاثة مبادىء:
أولاً: مبدأ الجبر الذي قال به من جعلوا أعمال العباد كلَّها مخلوقة لله وبقضائه، وأن الإنسان مجبور عليها. فأبطلوا أدلة الثواب
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 28 - 40.
والعقاب، جاعلين الثواب فضلاً من الله. وينسب هذا المذهب إلى جهم بن صفوان. وقد سبقه إلى القول بهذا من الفلاسفة سقراط القائل بالقضاء والقدر.
ثانياً: مبدأ الاختيار المحض. وهو مبدأ مَن نَفَوا القضاءَ والقدر، وجعلوا أفعال العباد مخلوقة لهم، وليس لله عليها قدرةٌ ولا له قضاء وقدر، منزّهين بهذا القول الخالقَ جل جلاله عن تقدير الفساد، وعن إقراره مع علمه به. وهؤلاء هم القدرية وهم أول من تكلّم في طلب تحقيق معنى القدر بعد أن نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحث فيه. وذهب بعض المتكلمين من بعدهم إلى أن هؤلاء لم يكونوا يثبتون لله عموم العلم. ومن ثمَّ أغلظ سلفُ الأمة الإنكار عليهم. وقالوا عنهم: هم مجوس هذه الأمة. والداعي إلى هذه النحلة هو معبد الجهني ثم غيلان الدمشقي. وهؤلاء أعملوا أدلة الثواب والعقاب ونفوا العلم بالجزئيات عن الله. وكانت هذه النحلة قديمة قائمة من عهد اليونان نادى بها من قبل أبيقور.
ثالثاً: مبدأ التوسّط بين الجبرية والقدَرية، والجمع بين الأدلة، وتنزيل كل في موضعه. وهذا قول جمهرة علماء الإسلام.
وخلاصة هذه الاتجاهات، التي اخترقت جموع المسلمين، ما انتهوا إليه من أن الله خلق الأفعال كلها من خير وشر، وجعلوا للعبد استطاعة اختيار بعض تلك الأفعال دون بعض. فتلك القدرة تصلح للكسب فقط. فالله خالق غير مكتسب، والعبد مكتسب غير خالق. وجعلوا الجزاء منوطاً بذلك الاكتساب. ولذلك أثبتوا الفرق بين حركة المرتعش وحركة المتناول. وهذه طريقة الأشعري، وقريب منها قول الجبائي.
وبعد التحليل لهذين المذهبين: الأشعري والمعتزلي، يقول الإمام الأكبر: وقد أشار الإسلام إلى إبطال الجبر بقوله رداً على المشركين: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} (1).
وأبطل الاستقلال بخلق الأفعال بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2)، وقال عز وجل:{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (3). ومن هنا يتبين لنا أن الحق وسط بين هاتين المقالتين المذمومتين. ويمضي الشيخ ابن عاشور قائلاً: ونحن إذا رجعنا إلى تحكيم الفطرة العقلية وجدنا من أنفسنا استطاعة بها نفعل وندع، ووجدنا الواحد منا يهُمّ بالأمر ثم يعدل عن فعله، ويهم بالأمر ويفعله، ويشرع في الأمر فيعظه الواعظ وينهاه الحكيم، فيكف عنه، ويرى أن كفّه إجابة للموعظة.
والاعتقاد الذي ينتهي إليه الإمام هو قوله: الصحيح أن لنا كسباً واستطاعة بهما نجد الميل إلى الفعل أو الانكفاف عنه، وأن وراءنا تيسيراً بالتوفيق أو بالخذلان تخفّ به الأفعال الصالحة على النفس تارة، وتثقل أخرى. فذلك هو أثر إرادة الله فينا. وهذا الفكر يروض أصحابه على الاعتداد بمقدرتهم ويعلمهم الافتقار إلى الله في طلب التوفيق والعصمة من الخذلان (4).
أما الوصف الذي اخترناه للتطرق إلى الواقع الاجتماعي الذي يتشكَّل بأشكال مختلفة فهو المساواة. وهو أصل عظيم من
(1) الزخرف: 20 - 21.
(2)
القصص: 56.
(3)
غافر: 33.
(4)
أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 64 - 67.