الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنموذجاً يحتذى، ومخططاً متَّبعاً، ومنهجاً ملتزماً سار عليه الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور.
ولم يكن النظر إلى الإصلاح ودواعيه محصوراً في حدود بلد معين، بل هو منتشرٌ أين انتشرت أسباب الفساد التي قوضت حضارتنا ومباهجها، وسامتنا الخسف بما ظهر عندنا في البلاد العربية والإسلامية كافة من مظاهر التخلف.
وللتعريف بالجانب الإصلاحي وبالجهود التي بذلها الأئمة والعلماء في مختلف البلاد؛ وضعنا باباً خاصاً وفصولاً كثيرة، تصف هذه الحركة الإصلاحية وتبسط القول في قضاياها، وفي المنهج الذي خضعت له، لتكون أمراً ميسوراً تتلقّاه شعوبنا في حماس وتجاوب، هما الأساس في تغيير أحوالنا وخلاصنا من الدرك الأسفل الذي نزلنا به وتردّينا فيه.
د - جوانب الإصلاح:
إن الجوانب التي نلفت النظر إليها في الإصلاح ثلاثة: هي الإصلاح الذي خرجت به الأفراد والمجتمعات من الظلمات إلى النور، ومن الغواية إلى الرشاد، ومن الغفلة إلى الصحوة، ومن الحيرة إلى ما يكون به صلاح العقيدة وصلاح العقل والفكر وصلاح السلوك والعمل. ولما أراد الله لهم الفيئة إلى الحق زيّن سبحانه أعمالَ الدعاة، ورفعهم منازل سامقة، وجهّزهم بكل ما يحتاجون إليه من توفيق خالص، وهداية واسعة وعلم نافع. يشهد لهم بذلك القرآن الكريم في قوله:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1).
(1) سورة فصلت: الآية 33.
وبقدر ما يكون الإصلاح الاجتماعي متوفرة شروطُه، مُتمازجة خصائصُه، متلاقية أبعادُه ومراميه، يقتضي من المصلحين معرفة الأحوال، وأعراضَ المرض، وأسباب الخذلان، فيحاول بذلك الدعاة تحقيقَ الحاجة الإسلامية، وإقامة الأخوة بين المؤمنين.
وقد اتضحت هذه الحقيقة لدى المسلمين كافة، وقرر أصولها علم الاجتماع بما ينبغي أن يتوفّر لدى دعاة الإصلاح من ربط أسباب النهوض والسقوط بما تكون عليه العقيدة والدين.
فالإسلام هو دين الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يلقِّن العقيدة الصحيحة، ويملأ النفوس طُهراً، والقلوب تمسُّكاً بما جاء به من مبادئ وحقائق وأصول وقيم حملها الرسول صلى الله عليه وسلم أمانة إلى الناس، حماية للأمة من الذوبان في غيرها، ومما يطرأ عليها من انحراف عن منهج الرشاد، يفقدها هويتها، ويُبعدها عن التمسك بدينها الذي رضيَه الله لها وأتم به نعمته عليها.
وإن طريق الإصلاح في اتباع الدين وما أَوحَى به الله. والفطرة تساير ذلك ولا تضاده. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1). وقد يكون منشأُ الإصلاح وسبيلُه توفيقاتٍ إلهية منزّهةً عن كل غاية بِقَدْرِ ما يظهر فيها من أدب راسخ في النفس، وبقدر ما يتضح للناس من آثار جميلة معتبرة في إقامة نظام المعاملة بين باعث خير ووازع شر.
وهذا المقصد لا يقوم إلا على الحقائق والاعتبارات الحكيمة.
(1) سورة الروم: الآية 30.
فإذا ابتعد الإصلاح عن هذا الخط، وانبنى على ما تزيّنه الأهواء والاتجاهات المريبة تجافى عن الحق والصدق، وفقد مع ذلك المعنى الديني الذي هو أساسه، ولم نجد بعد الدعامة لتجديد أمر هذه الأمة الذي بشّر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ودعا شيخ الإسلام إلى الإصلاح الكامل حين ذكّر بمحاسن الدين، وبوجوب التمسك بعالميته. فكأنه يريد أن تنتشر - بين الناس كافة - المقاصدُ الطيّبةُ وما يسبقها من وسائل نافعة، ويتبعها من تحول وتغير يَظهر بهما الحقُّ على الباطل، والخيرُ على الشر، والأعمالُ الصالحةُ على المساوئ التي تزاحمها. ومما لفت الإمام النظر إليه، ودعا له، فضائل إسلامية وصفات تشريعية لا يتم صلاح الفرد ولا الجماعة إلا بالحصول عليها، والالتزام بها، مثل: السماحة والوسطية، والعدل والإحسان.
وحركة الإصلاح هذه لا بد أن تكون مستندة إلى معرفة، وإلى تفقُّهِ في الدين، ووقوف على خفاياه وأسراره. يشهد لذلك قوله عز وجل:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1). حقائق سرمدية تتجدّد مع كل جيل، يحملها الدعاة إلى الله، يُسعِدون بها القلوب المتعلقة بربها، فلا تبرح معانيها القيّمة تنتقل من الدعاة المصلحين إلى قلوب مَن أُبلغوا الدعوة واتبعوا السبيل.
وقد ضبط الإمام الأكبر للأمة الإسلامية أحوال نظامها الاجتماعي في تصاريف الحياة كلها، تكملة للنظام الديني الذي هيأ أفراد الناس للاتحاد والمعاشرة. ثم دعا المؤمنين إلى تطبيق ما خطط
(1) سورة التوبة: الآية 122.
لهم من قوانين في العبادات والمعاملات. وأساس هذا التحديد والضبط الإيمان بالله، والاستسلام إليه، والامتثال لحكمه، والتوجه بالعبادة وإخلاص الدين له. فالعبادة في الإسلام، بجميع صورها ومختلف أشكالها، أفعال وأقوال تزكّي النفس وتَبلغ بها حدّ التميُّز والكمال. وهي الحكمة والمقصد الشرعي الذي تقتضيه الفطرة، وتَتَحقق به المصلحة. ويقارن الفطرة في الشريعة الإسلامية وصفان ثابتان هما العموم والدوام. فهي لا تتخلّف، ولكن تتعدد. وعند تعارض المعنيين تحمل على الركون إلى اختيار أعرقهما في المعنى الفطري، وأليقهما بالانتشار بين الناس، وأدومِهما بينهم. وهكذا تقتضي الفطرة وجود أوصاف تحرص على توافرها في تصرفات الناس ومعاملاتهم، يوحي بها قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1). وجاء في الأثر: "خير الأمور أوسطها"، وقال زهير:
همُ وَسَطٌ يَرضى الأنام بحكمهم
…
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وفي سلوكيات المسلمين في عباداتهم، ما يرفع من شأن الإنسان، ويزيده زكاءً وطهراً. ولئن ظهرت في تلك الممارسات ما يجعل من الصفات المشار إليها ما هو أعظم نفعاً وأبقى أثراً، فإنه غير خافٍ أنه لا تدرك أسرار ذلك غير طائفة تنساق إلى الفطرة وتتجاوب معها. فالمعاملات أوضح حقائق، وأقرب ملتمساً. وهي ثلاثة أنواع:
الأول: ما يتعامل به الناس في خاصّة أنفسهم، ويدعوهم إلى التعامل به على الوجه المطلوب ما يقتضيه الاعتبار من تحقق النتائج
(1) سورة البقرة: الآية 143.
من جهة، وما يكون به من جهة ثانية من مُحافظة على أصول التعامل في الإسلام. وهذا غير ملزم بالطبع، وإنما هو اختياري كالمجاملات بين الناس، وآداب الصحبة والقرابة المرعية. ومن هذا القبيل مكرمات رغّب فيها الدين لما تدفع إليه الحاجة من زرع التعاون والتآلف والمواساة.
النوع الثاني: هو عبارة عن معاملات حقوقية تستوجب في ذاتها الوفاء. وذلك لما يمكن أن تؤول إليه من أعمال قصدية. وينقص هذه صدقُ النظر وصحةُ المعاملة. ومثال هذا النوع ما هو داخل في المعاملات الاعتبارية: النية الطيبة، وحُسن الظنّ بالمؤمن؛ فإنهما من الأمور التحسينية على ما فيهما من تفاوت. وهذه التصرفات: إما واجبة لازمة وفاء بما أنيط به الحكم من مقصد أو حكمة، وإما جائزة غير واجبة يقتضيها ما جرت عليه من حُسن السلوك، أو من ظن مصحوب بإرادة التنازل عن الحق، أو الانتصاف من النفس. وجملة ما يمكن أن تدلّ عليه هذه المواقف المختلفة إزاءَ النصوص الثابتة، وما يثبتها من ممارسة المرء لهذا الحق الانقياد لروح الإسلام وحقيقتِه، ونشر فضائل هذا الدين وبيانها للناس قاطبة. وهل الدين القويم كما ذكر ذلك الأئمة والحكماء إلا سبب من أسباب الرقي وانتشار العمران.
وإذا كانت طرق الإصلاح للأفراد والمجتمع بالوجه الذي أومأنا إليه، فإن المنطلق الأهم لإصلاح التعليم، يبقى في واقع الأمر هو الأصل الذي يحيا به الناس، وتدفعهم الرغبة الشديدة إلى تغييره أو استكماله بإضافة الكثير من متعلّقاته، وكمالاته. وهذه الوظيفة لا يقدر عليها غير المجتهدين والمصلحين من العلماء.
والإصلاح، وإن بدا مشكلاً معقداً فإنه يستوجب دون تردد