الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في هذا المعنى، من حيث النظر إلى السند في الرواية الأولى لهذا الحديث؛ يجري على بقية الروايات لأنها في غالبها متحدةٌ صدورُها.
وعند انتقاله إلى نقد متن هذا الحديث يومىء إلى اشتماله على معنى غير منضبط؛ لأن التعريف في لفظة "العلم" المضاف إليه "طلب" لا يخلو أن يكون للعهد أو للاستغراق، وكلاهما ممتنع. وحملوا الكلام على الاستغراق العرفي، وهو وجوب الطلب لكل العلوم الشرعية، وهذا باطل أيضاً. وطلب تحصيلها على الحقيقة إنما هو فرض كفاية. وإذا كان ظاهر الحديث غير مراد وجب تأويله، ولا دليل على تأويله بمعين. وهذا لا يليق بمقام التشريع.
وبمثل هذا العمق في نقد الرجال والمتون جرى الشيخ، رحمه الله، مع بقية روايات الحديث كما يفصّله مقاله (1).
3 - مراجعة ونقد الإمام الأكبر لكتاب فتح الملك العلي بصحّة حديث: باب مدينة العلم علي، لأبي الفيض أحمد بن صديق الغماري:
[قال الحاكم]: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي بالرملة، ثنا أبو الصلت عبد السلام بن صالح، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها. فمن أراد المدينة فليأت الباب". هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.
وأبو الصلت ثقة مأمون؛ فإنّي سمعت أبا العباس محمدَ بن يعقوب في التاريخ يقول: سمعت العباس بن محمد الدوري يقول:
(1) تحقيقات وأنظار: 85 - 91.
سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي، فقال: ثقة. فقلت: أليس قد حدّث عن أبي معاوية عن الأعمش: "أنا مدينة العلم"؟ فقال: حدّث به محمد بن جعفر الفيدي، وهو ثقة مأمون، وسمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه القباني إمام عصره ببخارى يقول: سمعت صالح بن محمد بن الحافظ يقول: وسئل عن أبي الصلت الهروي، فقال: دخل يحيى بن معين ونحن معه على أبي الصلت فسلم عليه. فلما خرج تبعته فقلت له: ما تقول رحمك الله في أبي الصلت؟ فقال: هو صدوق. فقلت له: إنه يروي حديث الأعمش عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا مدينة العلم وعلي بابها؛ فمن أراد العلم فليأتها من بابها". فقال: قد روى هذا ذاك الفيدي عن أبي معاوية عن الأعمش كما رواه أبو الصلت (1).
وروى الحديث أيضاً جعفر بن محمد البغدادي الفقيه عن أبي معاوية، وعمر بن إسماعيل بن مجالد، وأحمد بن سلمة الجرجاني، وإبراهيم بن موسى الرازي، ورجاء بن سلمة، وموسى بن محمد الأنصاري، ومحمود بن خداش، والحسن بن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام (2).
وإثر التعريف بموضوع الكتاب أو الرسالة التي عرضها أبو الفيض على الإمام الأكبر، وحتى نكون متصوّرين لجوانبه، ملمّين بجزئياته وعناصره، ينبغي أن نذكّر بأن مداخلات وقعت قبل كتابة المراجعة التي نحن بصدد التعريف بها. يدلّ على ذلك قول شيخنا رحمه الله: وقد ذكرت في مقالي ما قيل في جعفر بن محمد، وفي
(1) ك: 3/ 126.
(2)
محمد الطاهر ابن عاشور. تحقيقات وأنظار: 83.
رجاء بن سلمة، وأحمد بن سلمة، وفي عمر بن إسماعيل (1). فيبقى محمد بن جعفر الفيدي، وإبراهيم بن موسى الرازي، وموسى بن محمد الأنصاري، ومحمد بن خداش، والحسن بن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام.
صدّر الإمام الأكبر مراجعته أو نقده للحديث بما يزيل الوحشة من نفس صاحبه بقوله: "رأيت أنكم نحوتم [في كتابتكم] نحو تلقّي الحديث: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" بالقبول، ولا بدع في ذلك فقد سبقكم إلى ذلك كثير من المحدّثين، كما أن كثيراً منهم نبذوه بالعراء، وكثيراً رموه بأنه وضع وافتراء". ولتأييد وجهة النظر هذه قال: "إن منكريه لم يقتصروا على الطعن في رجال أسانيده، بل قالوا فيه أقوالاً شديدة؛ مثل موضوع، ومنكر، ولا أصل له، وكذب، وكم خلق افتضحوا فيه، ولم يرْوِه عن أبي معاوية أحد من الثقات".
وذكر لمثل هذا الحديث نظيراً هو ما روي عن ابن عباس: "أن جلساءه شركاؤه"، ولم يصحّ. فلم يعين البخاري له سنداً بل جزم بعدم صحّة المروي.
وقضية أبي الصلت وما ورد من الأقوال فيه تكشف لنا أولاً عن الاعتراض على تعديله لما أورده الحاكم إثر رواية حديثه. وذهبت جماعة إلى أن أبا الصلت وضع الحديث عن أبي معاوية، وقال آخرون: إن أبا معاوية حدّث به ثم كفّ عنه. وذيّل هذه الآراء بقوله: إن كثرة الاختلاف فيه وشدةَ عناية الأئمة بالفحص عن رواته، تؤذن بأنه حديث لم يكن معروفاً عند الحفاظ، وأنه طلع على هذه الأمة طلوع الشواظ.
(1) لم نقف على المقال المشار إليه.
وبعد الاحتجاج بأقوال الفقهاء في متنه وسنده، يفتتح الجزء الأول من البحث بذكر مرجع الاختلاف في الحديث بين رواته ونقاده. فمنهم من سلك مسلك تغليب جانب التهمة والحذر من قبول الرواة، ومنهم من كان متّسماً بحسن الظن فيهم والتسامح معهم. وغير خاف تشدّد عمر بن الخطاب في ذلك. كما يشهد لهذا ما رواه مالك والبخاري عنه في حديث الاستئذان، حتى إذا رضيه واطمأن إليه، قال لأبي موسى راويه: إني لا أتهمك، ولكني أردت ألا يتجرأ الناس على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبهذا النهج أخذ المحقّقون من المحدّثين مثل الإمام مالك الذي لا يقبل مجهول الباطن وإن كان مستور الظاهر، خلافاً لأبي حنيفة وابن فورك وسليم الرازي الذين قبلوا مستور الظاهر وإن جُهل باطنه. واحتج أصحاب الرأي الأول بمقالات المتقدّمين، كابن عباس وابن سيرين وأبي هريرة، ولزم ذلك أصحابُ مالك كعبد الله بن المبارك وابن مهدي، وأصحابُهم كالبخاري ومسلم.
وبعد إيراد الدلائل القائمة على صحة مذهب المحقّقين، يعلن الإمام الأكبر في وضوح عن رأيه مع كبير أدب ورقة مجاملة قائلاً:
"وأنا أرى التحرّي أولى بالمسلمين. فقد طفحت عليهم الروايات، فكانت منها دواهٍ وطامّات. فإذا كنّا متّفقين في طريقنا في تغليب جانب التحرير فالمراجعةُ سهلةٌ، ولو لاح الخلاف في أول وهلة، وإن كان كل ينحو إلى منهج من ذينك المنهجين، فالاختلاف في الفروع تبع للخلاف في الأصول. فلنتمسك بوثائق الود، ولا نتَّهم باختلاف الأفهام والعقول".
وفي القسم الثاني من البحث يعمد شيخنا الجليل إلى حصر
مدارك الخلاف في طرق متنه، معتمداً في ذلك على ما جاء في فتح الملك العلي نفسه، راجياً أن يكون من الرأيين المتقابلين ما يحمل على الالتزام بالنظرة الموضوعية، والانتهاء إلى القول الفصل في هذه القضية.
الطريق الأول: اعتقاد أبي الفيض أن كثرة الرواة عن أبي الصلت توجب تعديله. ويرى الإمام الأكبر عكس ذلك، لأن كثرة الرواة عن المطعون فيه ليست بالتي تفلته من سهام الطاعنين، خصوصاً وأهل الصحيح والحسن من المتحدّثين يمسكون عن المتكلم فيه ولا يروون حديثه. فكيف والذين رووا عن أبي الصلت كلهم متكلم فيهم.
الطريق الثاني: اعتبار شهرة أبي الصلت بالزهد والديانة شاهداً لتعديله. والحق أن هناك بوناً بعيداً بين العدالة والديانة، كما يدلُّ على ذلك تصرف الإمام مالك، وتشهد به مقالات أمثال يحيى بن سعيد القطان، وعبد الله بن المبارك. وإن الحديث ليحتاج إلى تقى وورع كما يحتاج إلى إتقان وفهم وعلم.
الطريق الثالث: إن كلام الحاكم ويحيى بن معين في أبي الصلت يتضارب مع أغلب ما حكاه النقاد عنه. وفي تهذيب التهذيب لابن حجر وغيره من كتب الرجال دليل على ذلك. وقد طعن في أبي الصلت أئمة الحديث نقلاً عن الإمام أحمد والدارقطني وابن عدي. والأخذ بالتجريح وتقديمُه على التعديل أحوط. وفي هذا الطريق ألمع الشيخ رحمه الله إلى ما وقع فيه أبو الفيض من لبس في رواية مقالة أبي سعيد الهروي، حيث نقل عن الدارقطني قوله: نعم، ابن الهيضم ثقة. فقال له دعلج: أنا سألتك عن عبد السلام. فقال: نعم ثقة. والرواية الصحيحة كما في تاريخ الخطيب: نعيم بن الهيضم ثقة. قال
سائله: إنما سألتك عن عبد السلام، فقال: نعيم ثقة، ولم يزد.
الطريق الرابع: بدأ فيه بذكر رواة الحديث غير أبي الصلت. وتعرّض للباقين ممّن وقعت الإشارة إليهم، وهم محمد الفيدي، وإبراهيم الرازي، وموسى بن أحمد الأنصاري، ومحمود بن خداش، والحسن بن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام. فذكر كل واحد منهم مع ما غمز به: فالفيدي في ذاته ثقة غير أن روايته لم تنقل إلينا بسند معروف.
وإبراهيم بن موسى روى الحديث عنه محمد بن جرير الطبري، وقال: إنه شيخ لا أعرفه، ولا سمعت منه غير هذا الحديث. فهو إذاً مجهول الرواية غريب عنده.
وموسى بن محمد الأنصاري ذكر الإمَامُ روايتَه، في مقاله، ونبّه على أن في سنده محفوظاً بن بحر الأنطاكي، وهو كذّاب.
ومحمد بن خداش والحسن بن علي بن راشد، ورأينا متفق على أن الراويين عنهما متهمان.
وأبو عبيد حدث عنه الجبريني وهو من الضعفاء.
وأشار في هذا الطريق الرابع إلى متابعة سعيد بن عقبة ومتابعته عثمان بن عبد الله ناقلاً كلام ابن عدي فيهما، فلا يتكثر بهما.
الطريق الخامس: تعضيد هذا الحديث بالشواهد المعنوية الدالة على فضل الإمام علي. وهذا لا نزاع فيه، غير أن الكلام في فضيلة خاصة وهو أن يكون علي هو الطريق الواضح لعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الادعاء أو الوضع لا يمكن أن يكون إلا من نحل الرافضة.
الطريق السادس: أن كثرة الروايات والطرق للحديث الضعيف