الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصول النظام الاجتماعي في الإسلام
هذا الكتاب هو جملة مقالات نشرها الإمام الأكبر تباعاً في مجلة هُدى الإسلام القاهرية سنتي 1354 - 1355/ 1935 - 1936. عالج فيها الأوضاع الاجتماعية في العالم الإسلامي. كما قام قرينه وصديقه ورفيق دربه شيخ الأزهر من بعد الإمامُ الأكبر، محمد الخضر حسين، فنشر مقالات له هو الآخر في نفس الغرض. وهي التي ضَمَّها كتابُه رسائل الإصلاح. ومَن من رجال العلم الديني والثقافة الإسلامية ممّن بلغ مرتبتيهما أو أدرك شأويهما لم يُقبل ولو فترة قليلة، على العناية بهذا الموضوع الجليل والغرض الشريف، يسهم في بناء معلمه وإقامة صرحه، ولو بلبنات قليلة تكسبه فضيلة الانتساب إلى هذا الفن الذي يقوم أساسه على الفكر الديني والحضارة الإسلامية، وتتمثل أهدافه وغاياته في تقديم صورة صادقة مضيئة عن المجتمع الإسلامي، كما تنطق بذلك السنة المطهرة، والسيرة النبوية العطرة، وتاريخ صدر الإسلام. فيكون هذا طريقاً للمقارنة بين الأوضاع المختلفة للمجتمع الإسلامي ماضيه وحاضره في بلاد الإسلام، ولتحديد ما قوَّضَ البناءَ من انحراف عن المنهج، ومروق عن تعاليم الدين. ومن هذا الدرس والبحث والنظر ما يتوصل به إلى معرفة العدل والحرية والمساواة، وما يقتضيه الأمر من بيان للحقوق والواجبات التي جعلها الإسلام قواماً للحياة وتقدُّم العمران. وهكذا يتّجه العالمان الجليلان والشيخان المُصلحان إلى تصوير الغاية
من كتابيهما، وبيان مناهج الإصلاح التي يتحتّم الأخذ بها، وإلى وضع النصوص القطعية القدسية، والأمثلة التاريخية الحية ونحوها بين أيدي الجماهير والشعوب، للاهتداء بها، وبشدان مسالك النجاة عن طريقها، والخروج بالناس من الظلمات إلى النور ومن الوهم والتخيل إلى الحق واليقين.
وتأكيداً لحقيقة هذه الدعوة والبلوغ بها إلى تغيير ما بالمسلمين من أوضاع، وتطهير المجتمع ممّا غلب عليه من أهواء ونوازع، تردّى بسببها في مهامه فيح مظلمة، يلفت الشيخ محمد الخضر حسين أنظار قرائه وأسماعَهم قائلاً:"إني قد طرقت في هذه الرسائل نواحي هي في حاجة إلى أن تبحث بفكر لا يتعصّب لقديم، ولا يفتَتِن بجديد، يعتمد الرأي حيث يثبته الدليل، ويتقبل الحكم متى لاحت بجانبه حكمة، ويوثق بالرواية بعد أن يسلمها النقد إلى الصدق"(1).
ويشاكل هذا الاتجاه في الحديث عن المجتمع الإسلامي وإصلاحه قول الإمام الأكبر في المحاضرة التي ألقاها بنادي (جمعية قدماء الصادقية) بتونس عام 1324، وبما وصلها به من مقالات في الغرض نفسه ضمنها كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام:"وإذ لم يكن من خلقي أن أطرق مثل هذه المواضيع باللهجة المنبعثة عن التمنّي والتخيّل، بل اعتدت أن أرِدَها ورود الباحث عمّا يشهد له الواقع والأدلة الحقّة، كان كلامي متوخّياً طَريق التحقيق، ومتوقّعاً أن يُورِد عليه من يريد نقضه من عدو للدين أو صديق"(2).
وبقدر ما نلمس في المقالة الأولى من دعوة رفيقة إلى الحق، لينة
(1) محمد الخضر حسين. رسائل الإصلاح: 5.
(2)
ابن عاشور. أصول النظام الاجتماعي: 8.
كريمة على الباحثين. تحمل على الجدال بالتي هي أحسن، تشير المقالة الثانية إلى أن صاحبها يكتفي بأن يسلك في منحاه وتحريره مسالك الدعاة، وهو مع ذلك يتعرَّض في كتابه إلى حقائق يحلّلها، ونظريات يؤسّسها، يقيم على هذه وتلك أصول نظام الاجتماع الإسلامي.
كانت البيئة التي عاش فيها الشيخ ابن عاشور، والتي يهتم بأمرها في بلده وخارج بلده هي البيئة الإسلامية التي تدنّت عن منزلتها الأولى، وسقطت عن مراتبها السابقة. وذلك بموجب تحوّلها عن الطريق التي أفادت المسلمين نهوضاً سامياً في بادىء الأمر، وصُدوفها عن أصول دينها القويم. وهو المنهج الذي فُطرت عليه، والأساس الذي يعود إليه رقيُّها، وما أنشأته من حضارة وعمران. وبالنظر في هذه العاقبة الخسرى وأسبابِها، وما نجم عنها من تأخر وضعف في المجتمعات الإسلامية، دعته روحه الإصلاحية إلى البحث عن وسائل التغيير لأحوال المسلمين حتى يعودوا كما بدؤوا في أبهى حال من كمال الارتقاء والعزّة والظهور.
وإذا كان المجتمع الذي يعنيه إنما هو المجتمع الإسلامي، المتحقق فيه الانتساب إلى المهيع المرتبط بمبادىء الإسلام وأصوله، فلا بدع بعد ذلك أن نرى شيخنا يقدم بين يدي قوانين الاجتماع الإسلامي ونظمه تحليلاً للمراد من الدين وبياناً للفطرة، فطرة هذه الملة المؤمنة، ويبحث عن روح الإسلام وحقيقته من جهة مقدار تأثيره في تأسيس المدنية الصالحة، ومقدار ما يقتبسه المؤمن بها من توجيهات يهتدي بها إلى مناهج الخير والسعادة.
وفي هذه المقدّمة التي عرض فيها إلى بيان غرضه من الدراسة وقصده من تصنيف الكتاب يقول: "ومن غرضي أن أوضح الحكمة
التي لأجلها بعث الله بهذا الدين رسولَه محمداً خاتماً للرسل، أو عن الآثار التي أبقاها لنفع البشر. وهذا المهم لا يتأتّى إلا لمن أدرك علاقة الدين بالمدنية، وتأثيرَه في ارتقاء الأمة. ويتطلّب هذا المكسب الجليل النظرَ أولاً في تاريخ الأمة وتطلُّعها للدين، وإلى الحال الذي كانت عليه زمن ظهوره، وثانياً إلقاء نظرة واسعة فاحصة لهيئة مجتمع الأمة المتديّنة بالإسلام في أزهى عصور اتباعها لتعاليمه، ثم التعرُّف إلى ملاك محاسن هذا الدين بمطالعة تاريخ المسلمين في صدر الإسلام وما يليه، والتطلُّع إلى معرفة مقوّماته، وعلى دستوره الذي تنطق به أخلاق أفاضل المسلمين في أجلى مظاهر تفرعها عن المبدأ الإسلامي.
يتناول هذا الكتاب تمهيداً بيّن فيه مؤلفه حقيقة الدين ومعنى الإسلام، ووجهَ إقامته لأصول النظام الاجتماعي بين الناس.
فالدين اعتقادات وأعمال، على من يرغب في اتباعها أن يلتزم بها رجاءَ حصول الخير له في حياته الأولى الدنيوية وفي حياته الأخروية الأبدية
…
وذلك عبارة عن مجموع تعاليم يريد الشارع أن تصير عادة وخُلقاً لطائفة من الناس، تبعث فيهم الفضائل والإحسان لهم ولغيرهم.
والأديان السماوية كلُّها تقصد ممن خوطبوا بها حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله. فوظيفتها تلقين أتباعها ما فيه صلاحهم ممّا قد تحجبه عنهم مغالبة الميول، وسوء التبصّر في عواقب الأمور.
جاء الإسلام فكان خاتمة الأديان، واتّسم بعالَمية الرسالة، واتسعت أصول دعوته وفروعها، وامتزج فيه الدين بالشريعة، فضبط للأمة أحوال نظامها الاجتماعي في تصاريف الحياة كلها، وألزم،