الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأخر العلوم الفقهية وأسبابه:
ومن أسباب اختلال هذا العلم:
أولاً: التعصّب للمذاهب، والعكوف من أصحابها على كلام أئمتهم واستنباط الأحكام منه بالالتزام ونحوه. وأصبح قصارى عمل هؤلاء نقل الفروع، وجمع الغرائب المخالفة للقياس، ونقل الخلاف. ومضوا على ذلك معطِّلين الاجتهاد والتفقّه في الدين. وقد ذكر الباجي مقالة الإمام مالك في هذا. قال:"لا أعلم قوماً أشد خلافاً على مالك من أهل الأندلس، لأن مالكاً لا يجيز تقليد الرواة وهم لا يعتمدون غير ذلك"(1). ورد المقّري في قواعده على الاتجاه نفسه من التعصب للمذاهب بوضع الحِجَاج على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ أو المرجوحية، فإن في ذلك بعداً عن النصفة للحق، وتثبيتاً للخطأ في الفقه، وإيثاراً للهوى على الهدى (2). وقد أنكر هذا التصرف كافةُ العقلاء، وقال أبو العلاء:
فمجادل وصلَ الجدالَ، وقد درى
…
أنّ الحقيقة فيه ليس كما زعم (3)
ثانياً: مقاومة النظر في الفقه بمنع الترجيح والتعليل، والتشنيع على من يقوم بذلك، واتهامه بإرادة إحداث مذهب جديد، أو قول ثالث. وهذا من المغالطات التي يعتمدها العَجَزَة، وذوو الحظ القليل من العلم. ومما يُبطل جمودهم على منهجهم صنيعُ سحنون،
(1) المقري. القواعد: القاعدة 122، 1/ 351.
(2)
القاعدة التاسعة والأربعون بعد المائة. المقري: القواعد: 2/ 397.
(3)
البيت ثاني بيتين من مقطعة رباعية. والبيت الأول منها:
ما للأنام وجدتهم من جهلهم
…
بالدين أشباه النعام أو النعم
اللزوميات: 2/ 372.
رحمه الله، بإخراجه فروع المدوّنة مذيّلة بأحاديث صحيحة تخالفها، تنبيهاً على أنه مختار غيرَها. وفي غلق باب النظر مانع من تعليل الخلاف، ومن التوصّل إلى توحيد المذهب، ومن القدرة على الاجتهاد في أحكام محدثاتٍ كثيرة. ودليل بطلان هذا المنحى لدى الفقهاء أن أئمة المذاهب راعوا في المستنبطات الاجتهادية المصالح والمفاسد، ومقاصد الشريعة في الخلق، وحاجات الأمة وعوائدها، ودفع الشتات.
ومما يحقّقه النظر ويساعد عليه تحسينُ الحالة العمومية في تصاريف الأقضية الشرعية، وأحكام المعاملات المدنيّة والمنافع الاجتماعية، ذهابُ هذا الناقد المصلح، مقبلاً غير مدبر، في قضايا آمن بها، ومارسها وأَسْهم في الاشتغال بها. فهو يعدل عن التلفيق فيها، وعن استنباط الأحكام من كلام الأئمة بشأنها، لكون هذا مردوداً، نبّه على ذلك المقّري في غير ما موضع، في ما نصّ عليه من أن نقلَ القول وعزوَه إلى المذهب يحتاج إلى دراية وخبرة. فليس كل كتاب يمثل المذهب. وإنما هناك كتب اعتمدها الفقهاء والمفتون، وأخرى حذّروا منها.
قال المقري في تفصيل هذا المعنى: "ولمّا غلب وصف التقليد في الناس جنحوا إلى القال والقيل، إذ لم يسمع منهم إلا ما نقلوه عن غيرهم لا ما رأوه من عند أنفسهم، حتى كان العز بن عبد السلام يقول بالرأي، فإن سئل عن المسألة أفتى فيها بقول الشافعي ويقول: لم تسألني مذهبي. وإنها لإحدى كُبَر دواهي التقليد. فالتقليد مذموم، وأقبح منه تحيّز الأقطار، وتعصب النظَّار. فترى الرجل يبذل جهده في استقصاء المسائل، ويستفرغ وسعه في تقدير الطرق وتحرير الدلائل، ثم لا يختار إلا مذهب من انتصر له وحدَه، لمحض
التعصّب له، مع ظهور الحجّة الدامغة، ثم ينكف عن محَجَّتِها إلى الطرق الزائغة، فلا يحمل نفسه على الحق إذا رآه، لكن يطلب التوفيق ولو على أبعد طريق بينه وبين هواه" (1).
كما أنه لا يعتمد عمل أي فريق من العلماء بتونس أو فاس أو الأندلس، ولكنه يمضي في النظر والاجتهاد بالتزام قواعد النحارير في هذا المجال، معلناً موقفه من جمود الجامدين قائلاً: ولا علينا إذا أخطأ الجاهلون، فإنهم من الآن في ظلماتهم يعمهون (2). وتَتْبعُ هذه الأسباب أسبابٌ كثيرة أخرى منها:
ثالثاً: عدم العناية بجميع النظائر والقواعد للفروع بذكر الحكم الجامع، فيستغنى بذلك عن كثرة التفريع.
رابعاً: إهمال النظر في مقاصد الشريعة لتحرير المذاهب وإطلاقها ودعم النظر الاجتهادي، كأمر الخليفة الأول بجمع القرآن، وحماية الخليفة الثاني للحمى، وجمع عثمان للمصحف، ومغادرة الإمام علي إلى الكوفة، والحرص على جمع تلك المقاصد لتدبّرها
(1) الونشريسي: المعيار: 2/ 483.
(2)
ينظر المؤلف في هذا إلى قول ابن العربي: ولما استمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل، فكلّ مَن تخصَّص لم يقدر على أكثر من أن يتعلق ببدعة الظاهر، فيقول: اتبع الرسل. فكان هذا عوناً على الباطل. وذلك بقدر الله وقضائه. ثم حدثت حوادث لم يلقوها في منصوصات المالكية، فنظروا فيها بغير علم فتاهوا، وجعل الخلف منهم يتبع في ذلك السلف، حتى آلت الحال أن لا ينظر إلى قول مالك وكبراء أصحابه. ويقال: قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلمنكة وأهل طلبيرة وأهل طليطلة. فانتقلوا من المدينة وفقهائها إلى طلبيرة وطريقها. ابن العربي: العواصم من القواصم: 2/ 202 - 207.